فورين بوليسي: الجزائر بحاجة إلى حرب تحرير ثانية.. هذه المرة من حكامها العجزة

شكل حكم بوتفليقة الكئيب الضربة القاضية لبذرة الشرعية
التي يدعيها النظام الجزائري الغامض
بعد قضاء الصيف في مشاكل التزود بالماء يتساءل الجزائريون: كيف لا تستطيع دولة تملك أحد أكبر احتياطيات الغاز في العالم ضمان تدفق مياه الشرب في صنابيرها

 

بعدم قدرته على إعادة بناء الواجهة المدنية التي سمحت له بحكم الجزائر من وراء الستائر، اعتمد الجيش بدلا من ذلك على سيناريو مألوف: وصف المعارضة السياسية بأنها مؤامرة لزعزعة استقرار البلاد. وألقت باللوم على المغرب في موجة حرائق الصيف التي أودت بحياة العشرات ودمرت مناطق واسعة في منطقة القبائل ذات الأغلبية الأمازيغية. وتسارعت وتيرة اعتقال الصحفيين والنشطاء والمتظاهرين. وعلى الرغم من أن جائحة كوفيد 19 والقمع الممنهج خففا من الاحتجاجات في عام 2021، إلا أن البلاد مازالت غارقة في السخط الاجتماعي – مما يزيد من العودة إلى الاحتجاجات الجماهيرية ورد الفعل العنيف من الدولة.

 

الغياب الطويل للرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة بسبب المرض خلال السنوات الأخيرة من حكمه جعله هدفا للنكات وأثار شائعات متكررة عن وفاته. لذلك عندما توفي في الواقع في 17 شتنبر الماضي عن عمر يناهز 84 عامًا، بدأت العديد من وسائل الإعلام الجزائرية نعيها بالقول، هذه المرة، أصبح الخبر مؤكدا.
بوتفليقة، الذي حكم لمدة 20 عاما قبل أن يطرد من السلطة بسبب الاحتجاجات الشعبية في عام 2019، ترك وراءه بلدا في حالة من الفوضى. من المؤكد أنه لا يمكن أن تُنسب إليه كل مشاكل الجزائر الحالية. لكن بوتفليقة كان موجودا منذ البداية – عندما انقلب مصير دولة نابضة بالحياة ومستقلة حديثا إلى حكم استبدادي عسكري – وبعد نصف قرن، عندما أدار النظام الناشئ الذي لم يكن قادرًا على تحويل الثروة النفطية الجزائرية إلى ازدهار. طوال حياته المهنية، كان بوتفليقة نتاجًا للنظام الحاكم في بلاده ومصدرا لإخفاقاتها.
شكل حكم بوتفليقة الكئيب الضربة القاضية لبذرة الشرعية التي يدعيها النظام الجزائري الغامض. منذ سقوط بوتفليقة قبل عامين، لم يتمكن حكام البلاد من إعادة ترسيخ قشرة الاستقرار التي اعتمدوا عليها لتقوية النظام لعقود. ومع خروج جيل جديد من الجزائريين إلى الشوارع – للتنديد بالوضع الراهن بطرق غير مسبوقة، تبين أن إخفاقات عهد بوتفليقة هي التي أخرجتهم إلى الشارع.
في عام 1956، عندما كان يبلغ من العمر 19 عاما فقط، انضم بوتفليقة إلى جيش التحرير الوطني، الفرع المسلح لجبهة التحرير الوطني (المعروفة باختصارها الفرنسي، FLN ، التي قاتلت ضد فرنسا ، القوة الاستعمارية الجزائرية. ولا يعرف ما إذا كان بوتفليقة قد أطلق بالفعل رصاصة واحدة ضد المحتلين أم لا. لكن هذه البداية المبكرة ربطته بهواري بومدين، الذي قاد القوات الخارجية لجيش التحرير في المغرب وتونس وأخذ بوتفليقة تحت جناحه.
بعد الاستقلال في عام 1962، دخلت قوات بومدين الجزائر وجلبت أحمد بن بلة، أحد قادة جبهة التحرير الوطني، إلى السلطة كأول رئيس للجزائر. كانت هذه هي اللحظة التأسيسية للنظام غير الليبرالي، الذي قضى على معظم الشخصيات التاريخية في حركة الاستقلال لتأسيس نظام الحزب الواحد بقيادة جبهة التحرير الوطني. وسرعان ما أصبحت الأمة المحررة من الاستعمار خاضعة للحكم العسكري على الفور. ومنذ البداية، كان بوتفليقة جزءًا منها.
في سن الخامسة والعشرين، أصبح بوتفليقة وزيرا للشباب والرياضة في عهد بن بلة، وبعد عام واحد، تم تعيينه وزيرا للخارجية. في عام 1965، عندما قرر بومدين، الذي كان يشغل آنذاك نائبًا للرئيس، الانتفاض ضد بن بلة في انقلاب، فقد اعتمد على دعم بوتفليقة وولائه.
شغل بوتفليقة منصب وزير الخارجية لمدة 16 عامًا، حتى عام 1979. وخلال ذلك الوقت، عزز سمعة الجزائر كزعيم لحركة عدم الانحياز. خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أصبحت الجزائر مركزًا للثوار ومقاتلي الاستقلال من جميع أنحاء العالم، وصورت نفسها على أنها منارة للنضال ضد الاستعمار. في الواقع، كان نظامًا استبداديًا، يحكمه رجال انتظروا الحرب في الخارج في الغالب ثم تخلوا عن أي التزام بالتعددية السياسية للاستيلاء على السلطة عند عودتهم.
بعد وفاة بومدين في عام 1978، كان بوتفليقة على وشك أن يصبح خليفته. لكن الجيش اختار مرشحاً آخر هو العقيد الشاذلي بن جديد. بحلول عام 1981، كان بوتفليقة قد تمت ترقيته واتُهم باختلاس ملايين الدولارات خلال فترة توليه منصب وزير الخارجية. سافر إلى الخارج لعدة سنوات، وعاش في المنفى في الإمارات العربية المتحدة وفرنسا وسويسرا، على الأرجح لتجنب العواقب المحتملة.
بالعودة إلى الجزائر، تصدع نظام الحكم العسكري للحزب الواحد في البلاد من خلال الأزمة الاقتصادية والاضطراب الاجتماعي الناتج عن ذلك في نهاية الثمانينيات. ولمواجهة هذا الوضع المتردي، سمح الجنرالات الحاكمون للأحزاب الأخرى بالتنافس في الانتخابات ضد جبهة التحرير الوطني لخلق ما يشبه التعددية السياسية. غير أنهم في الواقع، ظلوا يمسكون بكافة الخيوط.
ومع ذلك، فقد نظم الإسلاميون تحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (المعروفة باختصارها الفرنسي FIS) في محاولة للوصول إلى السلطة. بعد الأداء الجيد في الانتخابات المحلية عام 1990، بدا أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ ستفوز بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية الجزائرية عام 1991. خوفًا من ذلك، ألغى الجيش الانتخابات، واندمجت الجزائر في صراع عنيف بين قوات الدولة والمسلحين. خلال عقد من الحرب الأهلية التي أعقبت ذلك، قتل ما بين 150 ألف و200 ألف جزائري، واختطف النظام آلافا آخرين.
مع تلاشي الصراع، احتاج الجنرالات إلى رئيس يمكنه أن يستمد شرعيته من حرب التحرير وأن تقبله الفصائل المختلفة داخل النظام الحاكم. فاستدعوا بوتفليقة. تم انتخابه عام 1999، بعد انسحاب المرشحين المتنافسين من المنافسة وسط اتهامات بتزوير الانتخابات.
كانت حيلة مألوفة. منذ الاستقلال، اختارت le pouvoir (“السلطة”) – وهي مجموعة مبهمة من جنرالات الجيش، ورؤساء الأجهزة السرية، والسياسيين المسنين – كل رئيس جزائري. في الدولة شديدة المركزية، سمح هذا للجيش بالحفاظ على حكمه بسهولة. لكن بوتفليقة كان يهدف إلى شيء مختلف. قال قبل تأمين المنصب: “لا أريد أن أكون ثلاثة أرباع رئيس”.
كرئيس، كان لبوتفليقة الفضل في إحلال السلام في الجزائر من خلال إضفاء الطابع الرسمي على اتفاقات وقف إطلاق النار بين الجيش والمتمردين وإصدار عفو شامل عن جميع المشاركين في الحرب الأهلية. في الواقع، حاول في الغالب فرض حالة فقدان ذاكرة عامة حول ضحايا الحرب الأهلية. في عام 1999، عندما سألت والدة أحد آلاف الجزائريين الذين غيبتهم قوات الأمن خلال الحرب الأهلية عن مصيرهم، أجاب بوتفليقة بسرعة، “المختفون ليسوا في جيبي”. تم نسيان الحرب الأهلية وعنفها الغاشم. وتم إخفاء المقابر الجماعية التي ظهرت أحيانًا في جميع أنحاء البلاد.
في عهد بوتفليقة، استخدمت خطورة الحرب الأهلية لتذكير الجزائريين بأن الفوضى تجلب الفوضى. كان هذا، إلى جانب الزيادات السخية في رواتب ضباط الشرطة وغيرهم من موظفي الخدمة المدنية، والزيادات في دعم القمح والسكر والحليب، كافياً لتثبيط الاحتجاجات الضخمة في الشوارع خلال الانتفاضات الإقليمية عام 2011 التي أطاحت بالعديد من الحكام العرب.
وخلال العقدين التاليين للاستقلال، اختار النظام الجزائري نموذجا اقتصاديا قائما على الدولة، مكتملًا بخطط خماسية وشركات حكومية كبيرة. على الرغم من خوصصة بعض الصناعات في التسعينيات، إلا أن الحكومة لم تقلل دورها حقًا: سمحت سيطرة الدولة للنظام بإدارة الامتيازات الاقتصادية. في بلد يعتمد بشدة على النفط – اليوم، تمثل عائدات النفط 60 في المائة من ميزانية الحكومة الجزائرية و94 في المائة من عائدات التصدير – وقد استخدمت البنوك المملوكة للدولة لتغذية المحسوبية.
وخلال فترة حكمه التي استمرت 20 عاما، قام بوتفليقة بتمكين مجموعة صغيرة من الثراء عبر منحهم عقود الامتياز مع الدولة، وبالتالي جلب الأموال إلى النظام الحاكم وإنشاء قاعدة دعم خاصة به. وأدت المحسوبية الاقتصادية إلى إضعاف قبضة الجيش على السلطة، لكنها تسببت أيضا في تفشي الفساد: وأصبح الوصول إلى الثروة الهيدروكربونية الجزائرية أكثر اعتمادا على الولاء للنظام.
وفي أعقاب سكتة دماغية عام 2013 أصابته بالشلل الجزئي، تدهورت صحة بوتفليقة. وأصبح الرئيس مغيبا، وهو في الخارج دائما لتلقي العلاج الطبي وبدا ضعيفا بشكل واضح في مناسبات نادرة ظهر فيها.
كانت سنوات حكم بوتفليقة فترة ثراء هائل للجزائر ولكن ليس لمعظم الجزائريين. في أبريل 1999، عندما حصل بوتفليقة على الرئاسة لأول مرة، كان سعر النفط 13 دولارا للبرميل. ولسنوات، استمرت الأسعار في الارتفاع، حيث بلغت ذروتها عند 147 دولارا للبرميل في صيف عام 2008. خلال ذلك الوقت، كان من المفترض أن يتم توجيه أرباح المليارات والمليارات من الدولارات الجزائرية نحو الاستثمار في البنية التحتية. ولكن إذا سافرت إلى البلاد اليوم، فمن الصعب أن ترى أين ذهبت هذه الأموال.
وبحلول أزمة انهيار أسعار النفط العالمية في عام 2014، لم يتم إصلاح أي شيء في الجزائر. كان الاقتصاد لا يزال يعتمد على تصدير النفط والغاز واستيراد كل شيء آخر. ورغم أنه تم بناء طرق سريعة جديدة ومشاريع إسكان اجتماعي. لكن الكثير من الثروات العمومية ضاع بسبب الفساد وسوء الإدارة من قبل المؤسسة العسكرية والأوليغارشية التي نشأت خلال سنوات بوتفليقة.
في عام 2019، كانت الجزائر تعاني بالفعل من عجز في الميزانية، وأخذت احتياطياتها من العملات الأجنبية تتآكل بسرعة. بالنسبة لمعظم الجزائريين، لم يكن واضحًا من الذي حكم البلاد حقًا. غارقا إلى الأبد في النزاعات بين فصائل السلطة المختلفة، لم يوافق النظام على خطة خلافة الرئيس المريض. لذلك حاول فرض ولاية خامسة لبوتفليقة على الجزائريين وإبقاء الأمور على ما هي عليه.
وقد دفعت هذه الخطوة ملايين الشباب إلى النزول إلى الشوارع. على عكس آبائهم، لم يعيشوا الحرب الأهلية في التسعينيات، وبالتالي كانوا محصنين ضد ادعاء النظام بأن الاستقرار الاستبدادي هو أفضل ما يمكن أن تأمله الجزائر. وعلى الرغم من حشدها في البداية ضد ولاية خامسة لبوتفليقة، إلا أن حركة الحراك الاحتجاجية غير المتحزبة تحولت منذ ذلك الحين إلى جبهة تجسد رفضا واسعا وسلميا للاستبداد العسكري الذي حكم البلاد منذ الاستقلال.
عندما أصبحت الشوارع صاخبة للغاية، ضحى النظام بجزء منه للبقاء على قيد الحياة: في أبريل 2019، قام الجنرال أحمد قايد صالح، الذي عينه بوتفليقة كرئيس أركان للجيش قبل سنوات، بإقالة الرئيس من منصبه. وأظهر التلفزيون الحكومي صورة لبوتفليقة الضعيف وهو يسلم استقالته إلى رئيس المجلس الدستوري مرتدياً الجلابة التقليدية، وبدا وكأنه شخص انتُزِع من فراشه في منتصف الليل.
ورغم إبعاد بوتفليقة عن المشهد، واصل متظاهرو الحراك مسيراتهم أسبوعيا. كانوا يعلمون أن الرئيس كان مجرد جزء من نظام أكبر وطالبوا بانتخاب جمعية تأسيسية لإصلاح النظام الحاكم – وليس رئيسا آخر يتم اختياره خلف الأبواب المغلقة.
استمر المأزق السياسي لأشهر، حتى فرض الجنرالات انتخابات رئاسية جديدة في أواخر عام 2019. وعلى الرغم من ضعف الإقبال، فقد أعادوا إحياء شخصية أخرى من النظام لملء منصب الرئيس عبد المجيد تبون، الذي كان آنذاك 74 عاما ، وكان رئيسا للوزراء. ووزيرا في عهد بوتفليقة. منذ عام 2019، رفض العديد من الجزائريين المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات الرئاسية والتشريعية، متجاهلين محاولات النظام اليائسة لتحقيق الشرعية.
وبعدم قدرته على إعادة بناء الواجهة المدنية التي سمحت له بحكم الجزائر من وراء الستائر، اعتمد الجيش بدلاً من ذلك على سيناريو مألوف: وصف المعارضة السياسية بأنها مؤامرة لزعزعة استقرار البلاد. وألقت باللوم على المغرب في موجة حرائق الصيف التي أودت بحياة العشرات ودمرت مناطق واسعة في منطقة القبائل ذات الأغلبية الأمازيغية. وتسارعت وتيرة اعتقال الصحفيين والنشطاء والمتظاهرين. وعلى الرغم من أن جائحة كوفيد 19 والقمع الممنهج خففا من الاحتجاجات في عام 2021، إلا أن البلاد مازالت غارقة في السخط الاجتماعي – مما يزيد من العودة إلى الاحتجاجات الجماهيرية ورد الفعل العنيف من الدولة.
وبعد قضاء معظم فصل الصيف في مشاكل التزود بالماء وتقنين فترات اطلاقه، بدأ الجزائريون يسألون أنفسهم: كيف لا تستطيع دولة بها واحدة أكبر احتياطيات الهيدروكربورات في العالم ضمان تدفق مياه الشرب باستمرار من صنابيرها. وأدى انخفاض قيمة الدينار إلى زيادة التضخم ورفع تكلفة المعيشة. كما انخفضت احتياطيات النقد الأجنبي من حوالي 120 مليار دولار في عام 2016 إلى 42 مليار دولار في الربع الأول من عام 2021.
ولكونهم عالقين في نزاعاتهم على السلطة، لم يسمح القادة العسكريون والسياسيون الجزائريون أبدًا للبلاد بالاستفادة من ثروتها من الموارد أو موقعها الاستراتيجي في شمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. وربما تكون هذه أكبر مأساة في عهد بوتفليقة والنظام الذي رسمه: لم تفعل الكثير بالكثير. لقد تسبب الجنرالات والجواسيس والساسة المسنون مثل بوتفليقة للجزائر لإعاقة دائمة.


الكاتب : ترجمة وإعداد: عماد عادل

  

بتاريخ : 16/10/2021