فيلم «الثلاثاء» للمخرجة الكرواتية دينا أو. بوزيتش

هيا نتعلم كيف لا ننظرإلى موتنا بخوف!

 

 

يطرح فيلم «الثلاثاء» للمخرجة الكرواتية المقيمة في لندن، داينا أو بوزيتش، موضوع الموت كميثولوجيا متجددة، من خلال قصة رمزية تتميز بالقوة والخيال. فبعد فيلميها القصيرين (غونا ودونا/2016) و(الوحش/2015)، يأتي هذا الفيلم ليضعنا في مواجهة مباشرة مع التجسيد الميثولوجي للموت بوصفه كائنا فوق البشر ودون الآلهة، أي مع «ببغاء» يذكرنا بطائر «الأنزو البابلي» ذي الطبيعة الإلهية والقوة الخارقة (سارق ألواح الأقدار)، كما يذكرنا بطائر السيمورغ الوسيط بين السماء والأرض، بل يذكرنا أيضا بطائر «بينو الفرعوني» الذي «خلق نفسه بنفسه، وكان موجوداً قبل خلق العالم، يرف فوق مياه الغمر البدئي العظيم». غير أن «ببغاء بوزيتش» قريب جدا من طائر «الجارودا الهندوسي» ذي الريش النحاسي اللامع، سائق مركبة إله الشمس القادر على تغيير شكله والطيران بسرعة فائقة إلى أي مكان. هو ببغاء مغمور بأفكار كل أولئك الذين هم على وشك الموت. الألم في أصواتهم لا يتوقف، ولا ينتهي أبدًا. إنه أمر مسبب للتوتر حتى بالنسبة للمخلوق المولود من قلب الكون نفسه، الذي يضج بالصراخ ويسافر بشكل غامض حول العالم ليبتلعها. جوفه مليء بالآلام التي ينقلها إلى أعماقه كلما غطى بجناحه العملاق وجه شخص يبحث عن الخلاص.
ويحكي فيلم «الثلاثاء» قصة الأم زورا (جوليا لويس دريفوس) وابنتها المريضة تويزداي (لولا بيتيكرو) والممرضة (ليا هارفي)، مع الموت/ الببغاء (أرينزي كين). كل الأحداث تصب حول السؤال التالي: (هل يمكن الإفلات من الموت؟)، أو «ماذا سيقع لو أن الموت مات؟»، أو «هل الموت شيء سيء للبشر؟»، أو «لماذا على الموت أن يستمر في أداء مهمته؟».
يشد الفيلم انتباهنا، منذ الوهلة الأولى، بلقطات مدهشة تضعنا كبشر في قلب سؤال الوجود، إذ قامت المخرجة، عبر استعمال المؤثرات البصرية، بتحويل منظر الأرض من الفضاء إلى عين الموت (الببغاء) الذي يصغر حجمه ليناسب عين شخص لفظ أنفاسه الأخيرة. ثم تتنتقل مباشرة إلى لقطة ثلاثية مباشرة بين «(الأم) و(الابنة) و(الممرضة): نتعرف على الابنة المريضة «تويزداي» التي لا تقوى على الحركة، غير أنها تتوفر على روح دعابة كبيرة وسخرية حادة في مواجهة تعليمات الممرضة. بل إن جسدها المريض، رغم الحالة المتقدمة للمرض، لم تخمل رغباته التي يقع إشباعها بممارسة العادة السرية كنوع من أنواع مواجهة «فوبيا الموت»، أو كشكل من أشكال السخرية الفاحشة في مواجة اليأس الكبير، علاوة على كونها تقدم لنا تصويرا كئيبا للجنس الخالي، بكل تأكيد، من العاطفة أو العلاقة الحميمية الحقيقية. الجنس هنا مجرد ملجأ.
إن الموت، كما يقدمه الفيلم، ببغاء يأتي من اللامكان، يتغير شكله وحجمه حسب سياقات ظهوره التي تتناغم دائمًا مع صوت الألم والمعاناة. إنه عامل يساعد المحتضرين على الانصراف، وذلك عبر نشر أحد جناحيه على وجوههم. إنهم يتطهرون من الألم بينما يتلوث به، وتتراكم القذارة على ريشه إلى الحد الذي يفقد ألوانه ولمعانه. الألم قذارة، والموت هو ما يضع حدا لهذه الحالة الدنيوية الحزينة؛ هو من الناحية المفاهيمية موقف الفيلم. ذلك أن «تويزداي» مجرد صوت واحد من ملايين الأصوات «المتألمة» التي يسمعها الطائر العجيب، وعليه أن يقوم بمهمته القدرية التي لن يستطيع أي شيء (أو أي أحد) إبطالها أو تأجيلها. إنها وظيفة لا نهائية ترتبط بوجوده الأزلي. غير أن «تونزداي» تنجح في ما فشل فيه الآخرون، حين تدرك، وهي وحيدة في غرفتها، أن الوقت قد حان للانصراف، لتظهر قدرتها الخارقة على تجاهل الوضع، ومواجهة الموت بجعله موضع ترحيب، بل أكثر من ذلك تطلب منه وقتا إضافيا وإمهالها إلى حين عودة والدتها لتوديعها الوداع الأخير، وذلك من خلال إلقاء نكتة، الأمر الذي يدفعه إلى التحدث. وحين تحاول أن تلمسه يخبرها أنه «وسخ»، فتقترح عليه الاغتسال في حوض غرفة نومها، ليصبح ذا لون خمري لامع، بل إن «جرأتها» و»فرادتها» تدفعانه إلى السماح لها بانتظار عودة والدتها من «العمل».
الأم زورا لا تعمل. تتظاهر بالعمل، بينما تقضي وقتها في الحدائق العامة، وفي بيع أثاث المنزل والتحف والمقتنيات دون علم «تويزداي». وحين تعود إلى البيت تخبرها ابنتها المريضة أن وقت الرحيل قد حان، وأن الموت موجود في غرفتها. وحين يخرج الببغاء من مكمنه (تجويف أذن المريضة)، تقدمه لها، فتهاجمه الأم بكل ما أوتيت من قوة (مشهد درامي فكاهي)، وتمنعه من القيام بمهمته بسلام. وهنا نكتشف ذلك الحب الجارف الذي تكنه زورا لابنتها التي استلمت لمصيرها مكتفية بعقد اتفاق اسثننائي مع الموت، بعدما ساعدته على التخلص من كل أوساخه، ومكنته، بإرشادها له إلى طريقتها في التنفس، من التخلص من نوبات الهلع الذي تثيره الصراخ المتدفق في رأسه.
الموت، إذن، في هذا الفيلم كيان سماوي ممتلئ بالآلام، لكنه يقوم بوظيفته، في نوع من التضحية بالنفس مقابل سعادة البشرية. يمتلئ بالآلام، ويتحمل الكراهية كأي بطل إشكالي يتمتع بالكاريزما، ويستبد بنفسه وبالآخرين من أجل فكرة نبيلة. غير أن امتنانه لـ»تويزداي» يجعله يقبل إيقاف مهمته لبعض الوقت حالما تعود الأم. لكن عندما تعود الأم، تبدأ المواجهه التي تنتهي بإحراق الببغاء، بل مضغه وابتلاعه، يأخذ الفيلم مجرى أكثر خيالية. (ماذا سيحدث بعد أن يموت الموت؟ وما هو ثمن بقاء «تويزداي» على قيد الحياة؟).
لا يتردد الفيلم في تقديم الجواب. فالعالم الخارجي يشهد نهاية العالم (آه-أوه). رجل مقطوعة ساقيه يجر نفسه في الشارع وهو يصرخ من الألم. أسراب من الذباب تهيمن على السماء. طائر مقطوع الرأس يضرب جسده بنافذة «تويزداي». لا وجود للموت. الموت غائب، ولا أحد يقوم بوظيفته. فهل يمكن أن يستمر هذا المأزق إلى الأبد؟
تضعنا داينا أو بوزيتش، كما تضع زورا و»تويزداي»، على حافة الجحيم الوحشي، إذ لا تجعلنا نفوت تلاحق الأحداث، بحثا عن مخرج للشعور بوخز الضمير الإنساني. فمن يجرؤ على قتل الموت يفتح على العالم أبواب الجحيم بإفراط مبالغ فيه. وهذا ما نكتشفه حين يزول ذلك التباين بين الببغاء/ الموت والأم التي تتحول إلى موت، حتى إن شكلها وحجمها يتغيران مثل الببغاء، أي مثل الموت الذي لا يموت. وهنا نستحضر الفينيق، الطائر الخالد ذي الرمزية الميثولوجية التي تتأسس على فكرة الانبعاث من الرماد. فالببغاء، كما رأينا في الفيلم، جرى حرقه وأكله، لكنه لم يمت، في نوع من التمثيل المجازي الذي يقول إن حضور الموت في الوجود ليس اعتباطيا، بل إن وظيفته الأساس هي تخليص البشر من الأهوال ومساعدتهم على تحمل ثقل الوجود. أليس هذا ما اقتنعت به زورا أخيرا، حين تحولت نظرتها إلى الموت من «الرفض الكلي» إلى «القبول الهادئ»؟
لقد عاشت زورا تجربة الموت كفاعل، وأدركت أن غياب الموت يفقد الوجود طاقته الخفية. كما أن حضوره جزء لا يتجزأ من الوضع الإنساني. والدرس هو التحرر من رهبة الموت، والقبول به كشيء داعم للوجود، رغم ازدرائنا الطبيعي له.
إن فيلم «الثلاثاء»، دون شك، دراما كوميدية قاتمة تتحدث عن الموت، لكن المعالجة السينمائية المرنة التي اعتمدتها جعلته يحظى بالترحيب الزائد والإعجاب المثير. حيث لجأت إلى المؤثرات البصرية واسعة النطاق (بقيادة مايك ستيلويل وأندرو سيموندز)، فضلا عن العمل الكبير على مستوى النبرة الصوتية التي تتغير على نحو شامل، كلما انتقلنا بين الحياة أو الموت.
لقد قدمت بوزيتش في هذا الفيلم «الفانطاستيكي» كل ما لديها من خبرة سينمائية، على النحو الذي يجعلنا «نتردد» في تصديق أو تكذيب ما يقع، إذ نجحت في خلق واقع «واقعي جدا» لا يخرج عن الفيلم. إننا نصدق ما يقع، ونتفاعل مع وجهات النظر الكثيرة التي تعبر عنها الشخصيات، ونطرح الأسئلة نفسها التي طرحها قبلنا فلاسفة الوجود قبل آلاف السنين. وهنا يمكننا القول إن الفانطاستيك خاصية سردية تقبل توظيف الامتساخ والتحويل والتشويه، وتجعل اللامرئي مرئيا، بل تتجاوز كل علاقات السببية، دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين (الموت والحياة)، وفق التعريف الذي وضعه تودوروف للفانطاستيك.
ولا شك أننا الفيلم حقق «إبهاره» المنشود حين جعل الموت نفسه ينطق، يتألم، ويتنفس، ويفاوض. وهنا يمكن الحديث عن «أنسنة» الموت. فالببغاء يدخن الحشيش ويرقص على أنغام آيس كيوب، بل يعترف بأن والدته كانت حرفيًا «فراغًا من الظلام»، وأنها تخلت عنه منذ ولادته، وتركته لهذه الوظيفة المؤلمة والضرورية والقدرية لتمثيل نهاية الحياة.
إن الموت في هذا الفيلم، طائر غير مخيف (خارج الضرورة الوجودية). بل يغدو أنيسا وأليفا ومتضامنا، بل تجمعنا معه لعبة مكشوفة على نحو مباشر يصبح معها هو «المفعول» عوض أن يكون هو «الفاعل» (الموت يتعرض للموت). وبعبارة أخرى، إن بوسيتش تقدم إلينا فيلما يسمح بعدم النظر فورًا إلى موتنا بخوف، ما دام الموت ليس آلة باردة للقتل، وهذا أحد الاختيارات الذكية العديدة الذي تجعل من هذا الفيلم فيلما إبداعيا وغير تقليدي للغاية.
لقد نجحت دينا أو. بوزيتش في جعلنا نسير على حبل مشدود من البداية إلى النهاية، وذلك من خلال المراهنة على سلسلة متصاعدة من التوترات السردية التي لا تخلو، مع ذلك، من روح الدعابة، فضلا عن تنفيذ مؤثرات بصرية معقدة مع ممثليها، مشهد بعدا مشهد، مع الحفاظ على توتر غير تقليدي يساهم في الرفع من التجربة الجمالية للفيلم.
يضع فيلم «الثلاثاء» مخرجته، دون شك، على الخريطة الخيالية لعشاق السينما؛ بسبب امتلائه، أولا، بالأفكار الجديدة والجريئة، وهو أمر نادر الوقوع؛ وثانيا بسبب نجاحها في إخراج فيلم «لا يُنسى» بالنسبة للكثيرين، علاوة على تمكنها (رغم ميزانية الفيلم المستقلة نسبيا) من بناء عالم من المؤكد أنه سيفشل تمامًا إذا وقع في الأيدي الخطأ، عالم يكتفي بذاته، متناسق ويستفز معرفتنا وإحساسنا بحقيقة الموت. وهم جميل قد لا نأخذه على محمل الجد، لكنه يتضمن الكثير من الوضوح، من خلال مهاجمته للنزعة العاطفية في التعامل مع الموت، وأيضا من خلال ربط هذا الأخير بحقيقة الحياة غير المرئية: أي ذلك التوق المستمر ليصبح الأحياء شيئا آخر غير «موتى».


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 16/12/2023