فيلم «الطريدة».. الفرد داخل آلة الفرم المجتمعية

على الرغم من مرور عشر سنوات على عرض الفيلم الدانماركي «الطريدة» The Hunt ، إلا أن موضوعه لا يزال قابلًا للنقاش حتى اليوم، وذلك أن ثيمته الأساسية تطرح على بساط النقاش في كل المجتمعات، وتزداد كثافتها مع تقدم طروحات حقوق الإنسان والعلاقة بين الفرد والمجتمع، وما يجابهه الفرد من دوغمائية اجتماعية تتمثل بالظلم والقهر والتعسف في الأحكام والاتهامات والاستنتاجات المحددة سلفًا من قبل الغالبية بغض النظر عن صحتها وأحقيتها. مدة الفيلم 115 دقيقة، ومن إخراج توماس فينتربيرغ، وكتابة مشتركة بين توبياس ليندهولم وفينتربيرغ، ومن بطولة مادز ميكيلسين وتوماس بو لارسن وأنيكا ويديركوب.

حكاية الفيلم

فاز الممثل مادز ميكيلسين بجائزة أفضل ممثل عن دوره في الفيلم الذي يحكي قصة أستاذ يدعى لوكاس يعمل كمدرس في إحدى مراكز رياض الأطفال في بلدة دانماركية. لوكاس ذو شخصية مرحة ومحببة من قبل الأطفال، وهو رجل مطلق يحاول قدر الإمكان تمضية الوقت مع ابنه ماركوس (لاسي فوغلستروم). وحيث توجه إليه اتهامات بالتحرش الجنسي بطفلة عمرها 7 سنوات تدعى كلارا وهي ابنة صديقه المقرب ثيو. لا تلبث أن تجتاح هذه الاتهامات حياته الخاصة مدمرة صورته الاجتماعية ومؤثرة على حياته بأكملها. لوكاس يعامل كلارا بطيبة واحترام فيصطحبها إلى المدرسة ويناقشتها ويسمعها. لكن كلارا، لأسباب تبدو للوهلة الأولى مجهولة، تعجب بمدرسها لوكاس. فهل يمكن التصديق أن فتاة تبلغ من العمر 7 سنوات يمكن أن يكون لديها هذا الخيال لتجعل من أستاذها حبيبًا لها وتقترب منه لتقبيله على فمه! ومن ثم تنتقم منه عقابًا على رفضه لها.
أداء مادز ميكيلسين مميز. شخصية تتسم بالهدوء والرقة والقوة معًا. صفات تنبع من نظراته وتقاسيم وجهه وتعبيراته الخفيفة والبطيئة وما توحي به من عمق المشاعر والأحاسيس والانفعالات. في المقابل، نجح المخرج توماس فينتربيرغ في إيجاد الشخصية الملائمة لتأدية دور الطفلة، بنظراتها الشيطانية والتي تشي بالنضج والاحتيال وقلة البراءة. تناقضان جعلا من الفيلم مسرحًا لتساؤلات كبيرة. إنه فيلم صادم ولكن بشكل هادئ وطبيعي.

محكمة الشعب!

تكبر كرة الثلج، ويقتنع معظم الآباء في البلدة بأن لوكاس تحرش بأطفالهم. ترمى التهم جزافًا بحقه. الجميع يريد الهروب من مسؤولياته عما يحصل لأطفاله من صعوبات سببها الأساسي الأسرة، وقد وجدوا اللحظة المناسبة لتبرير سوء إدارتهم التربوية عبر قذفها على عاتق لوكاس. يخبرنا فينتربيرغ كم أن المجتمع ساذج ومزيف. الاحتواء والعطف والمحبة والثقة التي كان يحظى بها لوكاس سرعان ما تحولت إلى كراهية وغضب وحقد وعدم ثقة. كيف تنقلب الأحوال بهذه السرعة؟ المشاعر والأفكار كيف يمكن لها ان تتحول إلى النقيض بلمح البصر ودون وجود أدلة أو محاكمة عادلة! يشير فينتربيرغ كم أن محكمة المجتمع ظالمة وغير حيادية وتعمل وفق آليات ساذجة كالشائعات والتوهم والنمطية والحكم المسبق.
وسرعان ما تصل الأمور إلى حد رفض أهالي البلدة الحكم القضائي بعدم اتهام لوكاس لعدم كفاية الأدلة (قالت الفتاة بأن لوكاس اصطحبها إلى القبو، وبعد التحقيق تبين أنه لا وجود لقبو في منزله)! لكن القرار القضائي زاد الطين بلة، حيث اعتبر أهالي البلدة بأن الحكومة تسمح للمعتدين جنسيًا على الأطفال بالتجول بحرية في البلدة، لذا كان لزامًا عليهم التصدي له اجتماعيًا وذلك عبر نبذه. ذهنية مجتمعية يمكن وصفها بكونها ضيقة الأفق وتسير دون وعي أو منطق. يرينا فينتربيرغ كم أن محكمة الشعب ظالمة لأنها غير قادرة على أن تكون موضوعية. إنها محكمة ذاتية وغير حضارية.

تخيلات وإسقاطات

يصور فينتربيرغ كيف أن الأطفال ليسوا دائمًا أبرياء، بل هم خاضعون لتوجيه الإسقاطات التي تواجههم داخل أسرهم إلى العالم الخارجي. فالطفل، بحسب ما يقول علم النفس، ليس جزءًا واحدًا ذاتيًا مستقلًا، الطفل مكون من أجزاء ثلاث: الطفل وأمه وأبوه. أسرة كلارا تتنازعها الكثير من المشاكل بين والديها وهناك إهمال يلحق بها جراء ذلك (تخرج دومًا من المنزل دون القدرة على العودة مجددًا). والدها يبدو وكأنه مدمن على الكحول، وأخوها الأكبر تورستن قام بتعريضها لمشهد فيديو إباحي كان على هاتفه المحمول.
كلارا مرتبكة وقلقة ومحبطة من الفوضى التي تثيرها أسرتها. إنها تخشى فقدان أستاذها لوكاس الذي صار بالنسبة لها نسخة أخرى عن والدها الذي خسرته (والدها موجود شكلًا لكنه لا يقوم بأدوار الأبوة)، ومن هنا كان لوكاس بمثابة التعويض عن غياب والدها من حياتها (انتقلت صورة الوالد من ثيو إلى لوكاس بالنسبة إلى كلارا). كلارا كذبت، لكن كذبها أتى نتيجة الخوف والضغط الذي وضعت تحته، وقد تملكها هذا الهاجس.
الجماعة رفضت تراجع كلارا عن اتهاماتها مما أجبرها على المضي قدمًا في روايتها ضد لوكاس. وعلى هذا المنوال، سرد بقية الأطفال القصة عينها مما يشير إلى تناقل تفاصيل القصة في البلدة وعلى مسمع الأطفال مما حول الوهم إلى حقيقة في نظر سكان البلدة. كما أن كلارا تعاني من اضطراب الوسواس القهري، وحالة كلارا ربما نشأت بفعل العوامل البيئية مسببة اللقلق الشديد للطفلة مترافقة مع عادات قهرية (كلارا لا تحت أن تطأ على الخطوط الفاصلة على الأرض).
تفصح كلارا لمعلمتها عن معلومات تبدو وكأنها اتهامات بالاعتداء الجنسي عليها من قبل لوكاس، لكن وبالرغم من كونها حاولت مرارًا سحب الاتهام بعدما رأت النتائج الفادحة لما أفصحت به على حياة لوكاس، إلا أن المجتمع المحيط صدق اتهامات كلارا لكنه لم يعر أي اهتمام لتصديق سحب الاتهامات ذاتها من قبل كلارا! وهنا تكمن المفارقة، عندما تبدأ العجلة المجتمعية بالدوران فإنها تبدأ بفرم الأفراد، وإن ظلمًا، ويصبح من المتعذر الرجوع عن الخطأ وتصحيحه، ذلك أن كلفة تصحيح الخطأ ذات آثار تراكمية أكبر وأشد وطأة على المجتمع/الآلة.
ترك لوكاس مع صديق واحد وقف إلى جانبه في مواجهة آلة اجتماعية ساحقة تتمثل بغالبية سكان البلدة. اللافت أن الآلة التي انبرت للدفاع عن الطفلة وحمايته، هي نفسها الآلة المجتمعية التي سحقت حياة طفل أخر بعمر المراهقة (ماركوس) وأذاقته الأمرين وحملته وزر خطيئة والده. أثار اتخذت أشكالًا متنوعة منها الجسدي بعد ضربه ومنها النفسي أثناء تواجده في الحي والمدرسة وبين الناس والاستماع إلى الشائعات تتقاذفها ألسنة الناس وتهمس بها.
يقول مخرج فيلم «The Hunt»: «هناك أطفال يكبرون معتقدين أنهم ضحايا، ويعيش هؤلاء الأطفال تحت وهم كبير بأن شيئًا سيئًا قد حدث لهم، وينشأون مع شعور بأن هذه التجارب قد عانوا منها بالفعل في حياتهم»
«في حديث مع صحيفة الغارديان، يقول فينتربيرغ: «بالطبع تحدث الإساءة الجنسية، وقد صنعت فيلمًا عن ذلك في السابق»، ويضيف: «لكنني أعتقد أن هناك فكرة جديدة يجب الإحاطة بها وتمثل خطر فعلي. هناك أطفال يكبرون معتقدين أنهم ضحايا، ويعيش هؤلاء الأطفال تحت وهم كبير بأن شيئًا سيئًا قد حدث لهم، وينشأون مع شعور بأن هذه التجارب قد عانوا منها بالفعل في حياتهم».

نصدق الأطفال

الطروحات المعاصرة تنفي الصفات غير الحميدة عن الأطفال، فبينما كان يقال في الماضي بأن الطفل يسرق أو يكذب، بات الحقل المعجمي المعاصر يشير إلى كون الأطفال يتخيلون وذلك منعًا لصبغ الطفولة بصفات شريرة. وبات العالم المعاصر ينظر إلى الطفولة بكونها نقاءً خالصًا سيما مع تصاعد وتيرة الحركات التحررية والمطلبية الحقوقية منذ أوائل القرن العشرين. ووصل الأمر إلى إطلاق شعارات مثل «نصدق الناجيات» أو «نصدق الأطفال» دون أي اعتبار لتفاصيل الحوادث وعناصرها الجرمية، سواء توافرت أم لم تتوافر تلك العناصر. وقد تحولت هذه الشعارات إلى أيديولوجية، إلى عقيدة، إلى تصديق توتاليتاري ودكتاتوري.
وتبعًا لذلك أصبحت قاعات المحكمة تقاد من قبل المجتمع قبل وصولها الفعلي إلى أروقة القضاء واتباع الاجراءات المعتادة. ساهم في ترسيخ هذا الخلل جيش كامل من النقابيين والعمال الاجتماعيين والنفسيين، وتبلور نظريات التربية الحديثة في ضوء انتشار الدفاع عن حقوق الأطفال وغيرهم من الشرائح المجتمعية التي اعتبرت في السابق بأنها فئات مهمشة مظلومة. هكذا تلصق التهمة بلوكاس دون استجواب ودون صدور أي أحكام قضائية مبرمة بحقه، دون أن يترك له أي مجال للدفاع وتبرئة نفسه من التهم الموجهة إليه.
لنتخيل رجلًا مصابًا بالسل أو الإيدز أو غيرها من الفيروسات المعدية القاتلة، لنتخيل ما عساه يشعر وكيف سيتم التعامل معه من قبل البيئة المحيطة به في البلدة والقرية والحي والمجتمع المحلي! الأشنع والأقسى تكون الأحكام المجتمعية من قبل سكان البلدة من الأصدقاء والجيران والزملاء في مكان العمل.
لوكاس نموذج للكيفية التي تنتشر فيها تهمة البيدوفيليا كالفيروس داخل المجتمع. لوكاس يطرد من وظيفته، ينبذ من الأمكنة العامة، تشنق كلبته وترمى أمام باب بيته، ترمى الحجارة على منزله. ويترافق كل ذلك مع نكران وتجنب جماعي له ولابنه، يتعرض للمضايقات، للعنف، وحتى حبيبته تشك به فيقطع صلته بها. تلاحقه نظرات الخزي وتلتصق به وصمة العار في كل يوم ومع كل خطوة. حتى صمت الناس كان مدويًا في وجهه. لوكاس شعر وكأنه حشرة وأصابته الإهانة في الصميم: في كبريائه وكرامته ونزاهته. إنه رجل لائق يصارع مجتمعًا قرر معاملته بطريقة غير لائقة، لكن «مهما كان الفرد قويًا، ومهما كانت المؤسسة ضعيفة، فإن المؤسسة هي التي ستنتصر في النهاية»، حسب ما يقول الكاتب برتولت بريشت.

هل نصدق المجتمع؟

فيلم يحفر عميقًا داخل المجتمع ليكشف عن الجوهر الحقيقي للصداقة والحب والثقة، ولا يضيع الوقت في قول ما يريد قوله، بل يوجه بوصلته مباشرة ودون مواربة أو التفاف نحو المشكلة. ففي مجتمع الصيادين، إما أن تكون صيادًا أو طريدة. وهكذا صار لوكاس مثل كبش الفداء، إنه غزال، طريدة/فريسة، في مجتمع مليء بالصيادين. تمثل الشر به. لكن ما يريد فينتربيرغ قوله: احذروا، الشر موجود في الخارج بين السرديات المجتمعية.
تقول إحدى الشخصيات في نهاية الفيلم: «العالم مليء بالشر، لكن إذا تمسكنا ببعضنا البعض فإنه سيختفي». الكلمات تهدف إلى الراحة والتعزية، لكنها بدلًا من ذلك، كلمات مخيفة إذا ما أمعنا النظر إليها. إنها تدل على مجتمع اتحدت الجماعة بداخله ضد فرد واحد بدعوى إزالة الشر، دون أن يدركوا أن في اتحادهم هذا ارتكاب للشر أعظم وأشد ظلمًا ومرارة. مجتمع يصبح مخيفًا حين يفتقد إلى من يقول «لا»، إلى من يعارض التوجهات السائدة، إلى من يقف في وجه الأغلبية.

جروح غير ملتئمة

نهاية الفيلم مفتوحة. ترك المشاهدين أمام احتمالات عدة لمعرفة من قام بإطلاق النار التحذيري على لوكاس، وذلك بعد مرور سنة على وقوع الحادثة وعودة الأمور إلى طبيعتها شكليًا. يتم قبول ابنه في مجتمع الصيادين، تعود علاقته الغرامية مع حبيبته نجدة، روابط الصداقة مع أبناء البلدة تعود كما السابق، يعاود ممارسة الصيد من جديد مع زملائه.
لكن الفيلم يشير إلى أن المجتمع لا ينسى لا تلتئم جروحه بسهولة، لا بل تحفظ ذاكرته هذه الجروح وهي قابلة لأن تطفو إلى السطح في أي لحظة. فالوصمة الاجتماعية لا تزول بسهولة، حتى ولو لم يجرم القرار القضائي النهائي الفرد موضع الشبهة. فالوصمة تحتفظ بوجودها وتبقى راسخة ودائمة التأهب للخروج إلى العلن من جديد. وهذا يقودنا إلى تساؤلات عدة: من هو مطلق النار؟ وهل كان ينوي قتل لوكاس؟ أم مجرد توجيه تحذير له للابتعاد عن الطفلة كلارا؟
لوكاس لا يزال مذنبًا في نظر محكمة الشعب. إطلاق النار عليه كان تحذيريًا، لكن في المرة المقبلة لن يخطئ الهدف وسيتلقى رصاصة في رأسه، ولذلك تهدف الطلقة التحذيرية إلى إخراجه من البلدة ومغادرتها وإلا ستصبح حياته أكثر بؤسًا. وعلى الأرجح فإن الجاني الأكبر من بداية القصة هو شقيق كلارا، وهو الشخص المحتمل في إطلاق النار، والمشتبه به الثاني هو ثيو والد كلارا كونه قد هدد لوكاس بإطلاق النار عليه. غير أن تحديد هوية الفاعل تبدو ثانوية، لأن كثيرين من أبناء البلدة بات لديهم الدافع لإبعاد لوكاس عن حياتهم وأطفالهم كما يظنون.


الكاتب : فراس حمية

  

بتاريخ : 23/07/2022