يبدأ فيلم «النظام» The Order للمخرج الأسترالي جاستن كورزيل، الذي افتتحت به الدورة الواحدة والعشرين للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، بمشهد يثير شعورا بعدم الارتياح: هناك مشهد يثير شعورًا غير مريح بطريقة مفاجئة ومثيرة للدهشة: ثلاثة أشخاص مسلحون يخوضون في طريق غابوية معزولة بولاية أيداهو، أحدهم يطلق النار على رفيقه، لا لسبب إلا لأنه «ثرثار»؛ والثرثرة، في السياق، الذي نفهمه مع توالي المشاهد، تعني الكشف عن المخطط الكبير الذي تضمره جماعة عنصرية منشقة عن منظمة «الأمم الآرية»، وهي جماعة تسمي نفسها «النظام».
يبدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي التحقيق في قضية هذه الجماعة المتطرفة، ويكلف بهذه المهمة العميل المخضرم تيري هاوسك (جود لو)، غير أن أول لقاء مع الشرطة المحلية لا يبدو مشجعا بسبب التواطؤ الذي بدا مكشوفا، منذ الوهلة الأولى، من طرف رئيس الشرطة المحلية الذي استهان بما تقوم به عصابة «النظام»، وبتنامي عمليات السطو المسلح على الأبناك، فضلا عن تفجير معابد اليهود وأماكن الألعاب وقاعات السينما التي تعرض فيها الأفلام الإباحية. غير أن ضابطا محليا (تاي شيريدان) ينقذ المواقف بتعاونه الصريح مع العميل الفيدرالي الذي نكشف أنه يحمل في أعماقه تجربة مريرة وعميقة عن عصابات المافيا في نيويورك، ووعيا كبيرا بالاستمرارية التي تمثلها جماعة «النظام» بوصفها امتدادا لحركة «كو كلوكس كلان». وهذا ما سيفضحه الإذاعي الذي تعرض للتصفية الجسدية لأنه وجه انتقادا كبيرا ولاذعا للعنصريين، واعتبرهم خصوما للحياة، ولهذا فهم يعملون من أجل الانتقام من التنوع العرقي والتعدد الثقافي، كما أنهم في العمق فارغين وعاجزين عن الحب، ويوهمون الجميع أن لديهم قضية، لكنهم في الواقع يفكرون في أنفسهم فقط.
شروع مكتب التحقيقات في وضع أنفه في القضية دفع ريتشارد باتلر (فيكتور سليزاك)، القومي الأبيض الذي أسس منظمة «الأمم الآرية»، ورئيس الطائفة النازية الجديدة التي تمتلك معسكرًا بالقرب من ذلك المكان، إلى تحذير بوب ماثيوز (نيكولاس هولت)، الذي كان من أتباعه السابقين قبل أن ينفصل عنه، من مغبة الاستمرار في القيام بالعمليات الإرهابية وسرقة الأبناك، لأن من شأن ذلك أن يعرض كل مخططاتهم للفشل. وهنا نكتشف وجهين للتطرف، أحدهما يتسم بالطابع السياسي من أجل الانقضاض على السلطة بالطرق السياسية السلمية المعتادة، كالوصول إلى الكونغرس ومجلس الشيوخ (يمثله باتلر الواعظ المتأنق)، بينما الوجه الآخر حركي يمثله بوب ماثيوز، الشاب المندفع الذي يطمح إلى القيام بثورة مسلحة الآن، عبر تنمية مجموعة «النظام» (سمّاها على اسم الثوار العنصريين في رواية «يوميات تيرنر»)، عبر اتباع مجموعة من المراحل (6 مراحل)، بما فيها تفجير المعابد وسرقة الأبناك والسطو على شاحنات نقل الأموال وحشد الأتباع وتدريبهم وشراء الأسلحة وتصفية الخصوم، تمهيدا لتمويل»جيش ثوري» ضد الحكومة الأمريكية.
يقدم هذا الفيلم، الذي كتبه زاك بايلين، دراما وثائقية ذكية حول تنامي حركة العنصرية البيضاء بجرائمها المثيرة التي بدأت بتصفية خطر حقيقي على الحركة وانتهت بمقتل زعيمها بطريقة عنيفة (حرقا)، مرورا بمقتل الإذاعي والضابط المحلي، فضلا عن التفجيرات وجرائم السطو. ولا يشذ في أي شيء عن الاقتراح البوليسي، موضوعا وبناء وتشويقا. كما يتميز بتوازن دقيق بين جمال ومناظر الأراضي الريفية القاحلة في شمال غرب المحيط الهادئ، والتفاصيل الدقيقة حول كيفية تحرك المجرمين الهواة في المساحات المختلفة.
ومن الجوانب المشرقة للفيلم، رغم خطاطته البوليسية، أنه يتميز بمقدار غير يسير من المصداقية. فعملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي ليسوا رجالا خارقين، كما تعودنا مع أفلام هوليوود، بل بشريين، وقد تبدو أساليبهم في التعامل مع القضايا الخطيرة والحاسمة بطيئة أو حتى غير فعّالة. بل إن جود لو، العميل الفيدرالي، كما يقدمه الفيلم، شخص هش ومريض ومكسور ومنعزل، ويعاني من مشاكل صحية ونفسية واجتماعية. إنه شخصية مركبة تتميز بتعقيدات كبيرة تمكن تيري هاوسك من تقمصها باقتدار كبير، بل لعلها من أقوى وأعمق الأداءات التي أداها على الإطلاق في مسيرته الفنية.
الأداء الكبير نفسه نواجهه مع نيكولاس هولت الذي يقنعنا بشكل مذهل وغير متوقع في دور بوب ماثيوز، الرجل المليء بالكراهية، والقادر على الإقناع والحسم، مما جعله في هذا الفيلم قائدًا شريرًا وجذابًا في الوقت نفسه. فهو الشاب الريفي صاحب الوجه البريء ذو العيون الزرقاء الذي لديه ابتسامة لطيفة، وهو الزعيم ذو القلب الحجري الذي يتوفر على أجندة دموية لإنشاء «الأرض البيضاء الموعودة» في ضوء الكتاب المقدس لمشروعه «مذكرات تيرنر»، وهو كتاب خيالي صدر عام 1978 واستخدم كدليل لليمين المتطرف الأمريكي حتى الهجوم على الكابيتول في 2021، وهذا ما يتضح في نهاية الفيلم، ما يعني أن فيلم «النظام» له صلة بتاريخ النازيين الأمريكيين. كما يتضح من بداية الفيلم التي تؤكد أن أحداث هذا الفيلم «واقعية».
لقد نجح الفيلم في إظهار الوجهين المضمرين للتفوق العرقي في أمريكا: الجانب القانوني «القديم» الذي تمثله منظمة «الأمم الآرية»، والجانب العنيف الكامن الذي كانت تمثله حركة النظام. وقد انتبه كوستا غافراس إلى هذا المعطى العنصري في 1988 حين أخرج فيلما بعنوان «خيانة» الذي كشف الستار عن الوجود السري للنازيين الجدد في أمريكا. وها هو فيلم جاستن كورزيل يقرع الأجراس عن تنامي القومية المسيحية وحركة «ماجا» مع صافرات الكراهية التي يمثلها دونالد ترامب للهيمنة على أمريكا، ولعل في هجوم أتباعه على الكابيتول خير دليل، كما يخبرنا الفيلم.