فيلم «برق» للمخرجة السويسرية كارمن جاكيير، الفائز بجائزة الإخراج

حين ينقض الجسد أوهام «الدوبلغنجر» الديني !

 

يقودنا فيلم «برق» للمخرجة السويسرية كارمن جاكيير إلى حد بعيد نحو «الدوبلغنجر»، التوأم الخارق للعادة الذي يزرع الأفكار الشريرة في عقل «الشبيه». التوأم الذي يعمل دون توقف من أجل أن يقنع شبيهه بالقبول طوعا بأن يصبح سيء السمعة. التوأم الذي ينبغي، في نهاية المطاف، تجنب التواصل معه تحت أي ظرف كان، لأنه دليل إلى الموت ودليل عليه في الوقت نفسه. ومن ثمة، فهو يمثل «الروح المزدوجة».
في هذا الفيلم، يحضر «الدوبلغنجر» من خلال الدور الذي تلعبه الأخت «إنوسانت» (البريئة) الميتة موتا غامضا يستدعي إخراج شقيقتها «الشبيهة» (إلزابيث) من الدير لتشغل مكانها في أشغال البيت والحقل. وبرجوعها من البيت، لا أحد يريد الحديث عن الميتة، كما أن ذكرها محظور في البيت، ومغلف في القرية بالكثير من الصمت. الأم صامتة، والشقيقتان صامتان، والكاهن صامت، وأهل القرية صامتون. بيد أن هناك صراعا بين إرادتين، إرادة الرب، وإرادة الشيطان. وفي هذا التوازي، فإن حكاية الظاهر/الناس/ الكاهن تقدم إلينا «إينوسانت» كـ»خادمة للشرير/ الشيطان الذي تمكن منها فحملها معه إلى الظلمات». ومع ذلك، لا يستغرق أمر اكتشاف سر هذا الموت وقتًا طويلاً بالنسبة إلى إليزابيث (لماذا ماتت إينوسانت؟ ولماذا ماتت؟ ولماذا يتجنب الجميع الحديث عنها أو عن موتها؟)، مما يطرح أمامنا انزياح الحكاية إلى «ميثاق سردي» ينبني على «الخطاطة البوليسية». الأمر الذي يمنح حكاية الفيلم ميزة السرد المفعم بالحيوية والتشويق.
نحن، إذن، أمام لعبة يتجاذبها خيطان: خيط الاكتشاف (تحقيق) ثم خيط مقاومة «الدوبلغنجر». أما موضوع اللعبة، فليس سوى «إليزابيث» التي تختبر المسار الحكائي الذي اختارته شقيقتها قبل أن تلقى حتفها منتحرة في النهر، في نوع من «الاتحاد» أو «التماهي» معها. إنهما يشبهان بعضهما في كل التفاصيل تقريبا. إنها تكرر المسار نفسه، لأنها «لا تعرف»، ثم لأنها لا تصدق أن أختها ابتعدت عن «نور الرب». أختها، كما تعرفها، لا يمكنها أن تكون خادمة للشيطان، ولا تستحق أن تغلف ذكراها بالنسيان. إنه نوع من الاختبار (إعادة تركيب الحكاية) لتبرئة الشقيقة من تهمة «الدوبلغنجر»، أي من حقل الشر الذي ترفضه القرية. وسيتعزز هذا الاختبار بالعثور على «يوميات إنوسانت»، مما سيدخل الحكاية إلى مسار تحسيني تؤطره تأطير «القراءه» بمشاهد تنقل إلينا جاذبية الصيف التي لا تُقاوم في الحقول المترامية والجبال الممتدة، جنبًا إلى جنب مع شعرية الكلمات التي تتدفق إيمانا وحبا وصدقا وتصوفا (إذا رأيت الله في عينيّ، سأقبلك). أليس الله مجرد ذبذبة؟ أليس الله سوى تلك الرغبة التي توقظ في المؤمن شعورا قويا بجسده؟ ثم أليس الله هو تلك الطاقة التي يولدها الاتحاد المطلق مع أجساد أخرى في متوالية لا تنتهي. لقد اكتشفت إليزابيث المشاعر التي حشدت أختها لنوع مختلف من الإيمان يقربها من الله، بينما كان الآخرون، بمن فيهم أمها والكاهن، يعتقدون أنها غارقة في الخطيئة، ما دامت تضاجع كل من صادفته في طريقه. لقد اكتشفت الأخت الميتة بهجة الجنس كطريق تقود إلى الله. وهذا نوع من التصوف الذي يشتغل بالفعل على التجرد من الماديات والذوبان فى الذات الإلهية، ولكن بـ»خبرة» مختلفة، لا يقرأها «الظاهريون» جيدا، لأنه عاجزون عن فعل ذلك. قراءتهم معكوسة وخاطئة وظالمة ومزورة، وتعوزها الأدلة. ألم يدفع الكاهن «إلزابيث» إلى إحراق اليوميات؟ ألا يطرح هذا الفعل منطق المنافسة على احتكار الأخلاق والدين؟ ثم أليست هذه محنة أهل التصوف في العمق؟
وتحضر الحسية المفرطة في فيلم «برق» من خلال الجنس الجماعي، في العديد من المشاهد (مشهد استمناء ثلاثة من أصدقاء طفولة إليزابيث، مشهد الوقوع تحت سيطرة الشيطان في احتفال عيد الموتى، مشهد التعري الجماعي بين الأصدقاء الثلاثة، مشهد تعريض الجسد لنبات القريص المحفز للنشاط الجنسي). بيد أن هذا الحضور الجنسي ليس سوى حضور رمزي لمحبة الله (الأب والإبن وروح القدس)، كما أطرتها إنوسانت، وكما كررتها إليزابيث. إنها تجربة في الاتحاد مع الله حد الانتشاء، أو على الأقل إنها استعادة مسيحية (تصوفية) للميثولوجيا الدينية التي ربطت، في الكثير من النماذج والثقافات، بين الآلهة والإنسان والجنس في إطار طبيعي لا يدنس الجسد، بل يتحيز للإيمان بـ»قدرة الفعل الجنسي على شحن الطاقة الإخصابية للطبيعة»، كما ذهب إلى ذلك المثولوجي السكوتلاندي جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي». فالجنس، في هذا السياق، إطار منتج للانسجام بين الإنسان والله، كما أنه يحضر في هذا الفيلم كتعبير عن الرغبة المطلقة في الاتصال به. إن إليزابيث، كما إنوسانت، لا تستطيع مقاومة إغراء التجول في الطبيعة والاندماج معها. لا تستطيع أن تقاوم ذلك الجمال المذهل التي تلقت تحذيرا صارما من الاستغراق فيه، لأنه يعني يقظة الشيطان (الجسد/ الخطيئة)، والحال أننا لا نقترب من الله بعيدا عن النشوة. الله نشوة، ذبذبة، اتحاد، مغامرة، استغراق في الماء، إقامة على الحواف، لمس، ألم، تعرف، سخاء. الله حب.
إن فيلم «برق» ينبني أساسا على تركيب سردي نكتشف من خلاله الحكاية الأصل عبر تبئير الحكاية الفرع. إنه نوع من الانشطار المرآوي المتوازي الذي يتعامل مع الحكايتين كحكاية إطار تصنعها شخصيتان. كما ينبني، على مستوى الحبكة، على التعرج بين مسارين حكائيين يتناوب عليهما التحسين والانحطاط، مما يساهم في نقل تلك التداعيات المتحركة والمشبعة، في المقام الأول، بشعور حقيقي بالاكتشاف والحرية. إن الله، أو الشيطان، في هذا المستوى الفلسفي، ليسوا سوى تعبير عن تأويل عن «خوف عام» من الحرية، ومن الانفلات إلى الحب والطبيعة. وفي مستوى آخر، إنه تكسير لتلك النماذج الجزمية المتعالية وغير القابلة للفحص، أو على الأقل غير قابلة للقياس على ما يخالفها، وتحديدا «المرأة في نظر الدين» وكيف ينبغي أن تتعرض لـ»القولبة»، تربية وتأطيرا وزجرا. وفي مستوى ثالث، إنه نفي لـ»الدوبلغنجر» وتمزيق للحبال وتحرير للجسد، وإيمان بالمستقبل (الشقيقتان).


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 21/11/2022