فيلم «جوكر»، فن وربح وسياسة..

أحيانا، وعلى مدى زمني متفاوت، تخلق بعض الأفلام حدثا سينمائيا مدويا، فيكون تلقّيها و التفاعل معها غزير سريع الانتشار قويّ المفعول كالعدوى الحادّة.. ذلك ما ينطبق على الفيلم الأمريكي الجديد (جوكر) للمخرج طود فيليبس. فيلم غير مألوف ينبثق من الآلة الهوليودية، ويحقق الجمع بين عدة معادلات في نفس الآن:
– فن (تحفة) وسياسة (التحريض على سلوك احتجاجي قوي).
– ربح مالي عالي (تجارة) وجمال (فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسياالعريق).
– قبح وجمال، أو جمالية القبح: فيلم قاس أليم، ومثير للدهشة والإعجاب. تنطبق على مشاهديه، ليس الكل طبعا، قولة «أننا نرتعب بطريقة ممتعة غريبة» لإدغار موران.
-سينما الشباك و سينما المؤلف. فإذا كان بعض النقد السينمائي يصنّف ويميّز الأخيرة، إما بـ(تأليف) المخرج المبدع..أو بالخلفية النصيّة القويّة (السيناريو).. أو بالأداء التمثيلي.. فإن النجم (خواكين فينيكس) في(جوكر) يستحق بأدائه المبهر أن يكون هو خاصية سينما المؤلف في الفيلم.
-تضارب التفاعل النقدي والصحفي الواسع مع الفيلم بين، التصفيق/ الإطراء/ الإشادة من جهة (المخرج المتمرّد الأمريكي الأوسكاري (مايكل مور) يرى فيه رؤية ثورية إصلاحية ضد أمريكا ترامب.. أمريكا تحكّم المال والجشع والظلم والفساد)، والازدراء والتّحامل من جهة أخرى (رأى بعض النقاد أن الفيلم بخلفيات فاشية، بخطاب مخادع، برؤية سطحية سامّة تجمّل العنف والعدمية والفوضى..).
نستطيع القول إن الفيلم، حقّا، فظيع في عنفه، لكنه ليس الأول من نوعه في هذه المنحى، إنما آسر وعاطفي بخلفياته الفنية والإنسانية..

*********

لو ظهر فيلم (جوكر) زمن الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، لصنّفه النقد اليساري، دون تردّد، ضمن السينما التي تفضح وحشية الرأسمالية الأمريكية، وتخوض الحرب الطبقية، وتبشّر بالثورة التي ستجهز على البورجوازية والاستغلال.. بل ولزجّت هوليود نفسها بفاعليه ضمن اللائحة المكارتية السوداء..
وفعلا، يصبغ الفيلم تمايز طبقي واضح و حادّ: من جهة مجتمع سفلي عريض يقبع في الوضاعة والبؤس والعاهة. ليس فقط في شخصية (آرثر) الذي ظل يعاني الإقصاء والسخرية وعدم الاعتراف والمرض العقلي (حتى مرضه هذا ليس إلا تعلة لهذه المعاناة الشاملة، إذ جاء على لسانه في أحد الحوارات «أنا موجود، لكن لا أعلم إن كنت موجودا أصلا».. فهو لا يسعى إلا إلى كسب قوته، وإلى والإضحاك والإسعاد كما ظل يأمل ويطمح.. قلت، ليس فقط في شخصية (آرثر)، ولكن في فضاء وأجواء وألوان مشاهد المسار العام للفيلم في مدينة (غوثام): إضراب عمال النظافة بالمدينة.. أكوام القمامة في كل ركن.. جرذان كبيرة تكتسح المدينة.. روائح كريهة.. إنارة كابية معتمة.. البرد وفقر التدفئة..مستشفى للأمراض العقلية حيث يعالج (آرثر) سيكفّ عن مدّ المرضى بالأدوية.. أدراج إسمنتية طويلة شاقة يصعدها (آرثر) وكأنه سيزيف.. (سيظهر نازلا مرة واحدة وذلك في المشهد الأخير لما كان ذاهبا بزهو وانتشاء إلى البرنامج الكوميدي ل (موري)، وكأنه سيعانق حلمه الكوميدي المتمنّع أخيرا..أو وكأنه سينزل هذه المرة إلى الهاوية نهائيا كما تحقّق..) كل هذا وغيره، يعبّر بالجملة عن البشاعة والقبح والتقزّز والانسحاق.. عن الإنذار بحلول الطاعون.. ومن جهة أخرى، بورجوازية معدودة مترفة مرفهة، ومعزولة في أبراجها عن المجتمع.. وفي نفس الوقت، متحكّمة في النظام والسلطة بل وحتى في نوعية ما يضحك وما لا.. (كما عبّر آرثر بسخرية). يجسّد هذه الطبقة (توماس وين) المرشّح إلى عمودية المدينة الذي صرّح بالتلفزيون أن مقتل ثلاثة أشخاص، يعملون في القطاع المالي بوول ستريت، بالميترو عمل المهرجين الفاشلين المعادين للأثرياء/الناجحين والنّاقمين عليهم.. (هذا تعبير طبقي، نعم، لكن لا يحكمه الصراع الطبقي والاستغلال كما يذهب اليسار، ولكن ثنائية الفشل والنجاح الذاتوية..هل هو الواقع فعلا، أم هي رؤية المخرج الساخرة من خطاب هذا الثري، تماما كما هي سخرية (آرثر) وهو يسمع خطابه السياسي بالتلفزيون؟؟.
يمكن أن نضيف إلى هذا الصف، الموقف الإعلامي- ممثلا في البرنامج الكوميدي المباشر لـ (موري فرنكلين) الذي يقدمه/يمثله (روبير دي نيرو)- البارد والخبري (فقط) والذي تعبر وتردّد أغنية جنريكه دوما قولة «تلك هي الحياة»، ما تأويله أن الحياة هي هكذا بطبيعتها معاناة ورفاه.. ألم وفرح.. فشل ونجاح.. ويجب التسليم بها هكذا..

****

تحمل الشخصية الرئيسية في الفيلم ثلاثة أسماء: (آرثر فليك) الاسم الإداري الرسمي، وهو الأكثر تداولا في الفيلم. (هابي)، أي السعيد، وهو الذي تناديه به أمه فقط، ربما نكاية في سعادة معدومة، وتعويضا رمزيا منها عمّا أذاقت هذا الولد في صغره من صنوف القهر والتعذيب. و(جوكر) وهو الاسم الحركي، الاسم الفني (المهرج). هو طبعا عنوان الفيلم ككل، لكن (آرثر) هو من اقترح على (موري) أن يناديه به خلال استضافته بالبرنامج في المشهد الأخير من الفيلم. (جوكر) اسم مفكر فيه بعناية رمزية (عنوان لطبقة تتشابه في وضعها وتتقاسم الفقر والظلم) وسينمائية (له مرجعية/ خلفية سينمائية شريرة في أفلام « باتمان» الشهيرة). ويهمنا في هذه الشخصية أن نتوقّف عند مسألتين:
الأولى هي الضحك الذي يمثل في الفيلم علامة بارزة، رمزية قوية، لغة خاصة.. هو ضحك ليس كالضحك. هو ضحك أسود، عويل، هيستيريا، جنون، تعويض، صراخ، احتجاج، شقاء.. ضحك يكثف التعبير عن حياة هذه الشخصية كونها فقط « مسرحية هزلية لعينة» كما قالت عن نفسها لحظة قتلها/ خنقها للأم المفترضة.. إنه، إذن، ضحك واع ينفجر من شخصية تقول « أسوأ ما في الإصابة بمرض عقلي انتظار الناس أن تتصرف وكأنك لست مصابا».. وتعتذر عن هذا الضحك بإشهار بطاقة المرض..
لقد برع (خواكين فينيكس) حقّا في تجسيد هذا الضحك النوعي الذي يمكن حسبه أيقونة الفيلم.. وتجدر الإشارة إلى أن نوبة هذا الضحك كانت تثور في سياقات مشهدية مخصوصة و مقصودة من أحداث الفيلم، وانتهت برسم(آرثر) بيده على طرفي فمه ابتسامة عريضة بالدم، هذه المرة، والمدينة غارقة في حركة المهرجين الاحتجاجية..
الثانية، هي القتل. قبل تناول هذا الفعل الذي يقترفه (آرثر) بفظاعة وفظاظة، نفهم أن هذه الشخصية وقد عانت، منذ طفولتها، من عنف تربوي واجتماعي قاس مؤلم ومزمن، (أي أنها ضحية كباقي الملايين المستضعفين..) تتعرض في بداية الفيلم لرفس مبرح ظالم بأحد الأزقة من شبان عابثين، والذي (أي الرفس) تكرر في الميترو من طرف ثلاثة رجال مخمورين ظلما و عدوانا، مما حدا ب(آرثر) لقتلهم بقسوة.
وهنا كانت بداية لجوئه إلى وسيلة القتل..لقد قتل هؤلاء لأنهم حاولوا الاعتداء على فتاة بجوارهم، فغاظه الأمر، ولجأ إلى ضحكه.. فانهالوا عليه برفس جماعي مبرح. وهو ممدّد أخرج المسدس وأجهز على اثنين، ثم لاحق الثالث خارج الميترو وأرداه صريعا. ليس في هذه الحادثة، ردّه الفظيع الذي تجاوزت طبيعته ودرجته عتبة الدفاع عن النفس..بل هي أيضا قتل رمزي، هي انتقام من السلطة الظالمة للمال، إذ الثلاثة يشتغلون ببورصة وول ستريت..لا ننسى أن هذه الحادثة وقعت و (آرثر ) في سياق نفسي محبط ومهزوم، إذ اقترف هذا الفعل مباشرة بعد طرده من العمل، بعد أن علم مشغّله في ورشة الضحك أنه حمل معه مسدسا وهو يقوم بعرض فكاهي في مستشفى للأطفال.
قتل أيضا (أمه) بعد أن اكتشف أنها ليست أما حقيقية (تبنّته فقط)، وأنه ليس ابنا للثري (توماس وين) كما ادّعت. اكتشف (آرثر) صدفة هذه الأبوّة المدّعاة في أحد الرسائل التي كانت تبعثها إلى هذا الثري الذي كانت تشتغل عنده في شبابها.. كما عرف أنها كانت مريضة بالذهان.. وأنه أذاقته في طفولته شديد التعنيف والشقاء.. وهو الذي ظل يحبّها ويدود عنها، حتى أننا شاهدناه في لقطة عاطفية حميمة وهو يتولّى تنظيفها بالحمام.. وهكذا أجهز عليها بالخنق وهي في سرير المستشفى.. هل هو، إذن، قتل للعواطف المزيّفة والممسوخة حتى ولو كان ضد من ظل يناديها بصدق (ماما)؟ قتله لصديقه وزميله (راندال) في ورشة التهريج. الأخير هو الذي منحه المسدس بالسلف منذ بداية الفيلم، وقد ردّ عليه (آرثر) «لا يفترض أن أمتلك سلاحا» دليلا، من الفيلم، على نزوعه السلمي.. لقد ظل (راندال) يكيد الشر لـ(آرثر)، حتى جاء وزميلهم القزم الودود المسالم لمواساته في وفاة (الأم)، فلمّح له بأن الشرطة تشتبه في تورطه في واقعة الميترو…. هو، إذن، قتل لصداقة الزيف والسوء والكيد والشر.. وأخيرا قتله لـ (موري) صاحب البرنامج الكوميدي على الهواء مباشرة.
لقد ظل(آرثر) معجبا بالبرنامج وصاحبه حد الهوس.. وكان يحلم بأن يصير هو أيضا كوميديا شهيرا.. لكنه أحس بمرارة دامية وهو يفطن إلى سخرية (موري) المبطّنة اللاذعة في فقرات الدعاية لحضوره البرنامج.. لقد انفجر (آرثر) خلال حضوره المباشر في وجه (موري) متهما إياه بالفظاعة أيضا، وبالخضوع لسلطة النظام في اختيار نوع الضحك المسموح.. قبل أن يرشّ فيه الرصاص..فهل هو قتل رمزي لإعلام النظام والسلطة؟
من جانب آخر، نعتقد أنه لا يهم في شخصية (آرثر)، حسب رؤية الفيلم، إن كان لا يمتلك الموهبة الكوميدية اللائقة كما بتورية (موري)، ما يهم هو الإنسان في (آرثر) قبل الفن.. أو الفن من أجل الإنسان..ما يهم هو الإقصاء، هو عدم الاعتراف، هو الظلم، هو الألم.. ما جعل (آرثر) يدوّن في دفتره الخاص جملة يائسة «يا ليت موتي يكون (منطقيا) مريحا أكثر من حياتي».. لقد صيّر هذا الوضع (المهرج) رمزا/ عنوانا لحركة احتجاجية هادرة سمّيت بـ(حركة المهرجين).
صار (آرثر) بالرغم منه بطلا سياسيا لحركة ترفع شعارات (كلنا مهرجون)، (اقتلوا الأغنياء)،(يسقط توماس وين)، إذ صرح لـ(موري) في بداية البرنامج بأنه لا يؤمن بأي شيء، ولا ينتمي لحركة المهرجين، وليس سياسيا.. وأنه يعمل فقط على إضحاك الناس.. هل هي، إذن، رسالة من الفيلم، أن عدم السياسة هي سياسة.. أو لابد أن تنتهي سياسة؟ مهما يكن، فقد ينطوي الفيلم، هذا أو غيره، على همّ أو رؤية سياسيتين، لكن بتعبير/ لغة فنية هي السينما.. أي بالتعبير عن السياسة بالفن.. وهنا لا يستوي أي تصنيف سياسي أو إيديولوجي للفيلم، كونه يدين النظام ويدعو للإصلاح أو يحرّض على العنف والفوضى، إلا على ضوء معايير الفن والجمال. والأخيرة قد تكون مستقلة.. مبدعة.. متمرّدة.. حتى في ظل مجتمع بتناقضات وتفاوتات حادّة ومتعسّفة كالمجتمع الأمريكي.. وهذا ليس غريبا أو جديدا في السينما الأمريكية وفي هوليود نفسها.
وأخيرا، لا يخلو الفيلم من شاعرية رومانسية حالمة جميلة في أغنيتين: الأولى وهو ينظف أمه بالحمام، والثانية في اللقطة الأخيرة وهو منته بالمجهول، إلى المجهول.. لقد أغرقت الأغنيتان/ القصيدتان نفسيتنا وعاطفتنا، بمتعة وتأثر بليغين، في المسار الحالم و المأساوي للفيلم..


الكاتب : محمد الحاضي

  

بتاريخ : 04/01/2020