فيلم “فرحة” وشرايين الذاكرة الفلسطينية المفتوحة

لافت ذلك الهجوم الذي شنّه قادة الاحتلال الاسرائيلي على فيلم «فرحة» الذي أخرجته المخرجة الأردنية دارين سلام، وبدأ بثّه عبر شبكة نتفليكس في أول أيام هذا الشهر، فقد ندّد أفيغدور ليبرمان بالفيلم وقال إنّ الغاية منه هي «تقديم ادعاء باطل والتحريض ضد الجنود الإسرائيليين»، أما وزير الثقافة الإسرائيلي هيلي تروبر، فقال بأنّ عرض الفيلم في دور السينما الإسرائيلية يبعث على العار، وأضاف بأن الفيلم لا يعرض سوى «الأكاذيب والافتراءات».
استمرّت الحملة الإسرائيلية لمهاجمة فيلم فرحة، وتقدّمتها العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية التي أكدّت من خلال أبواقها بأنّ الفيلم يجيء من أجل تشويه صورة الجنود الإسرائيليون وتصويرهم بأنّهم أشخاص حيوانيون فاقدون لكلّ إنسانية.
ومتابعة ردود الأفعال الإسرائيلية على الفيلم، يدفع بتساؤل مشروع حول المحتوى الذي تضمنه الفيلم وتميّز فيه، ورأى فيه الاحتلال الإسرائيلي وقادته خطرًا عظيمًا على الصورة الوديعة لإسرائيل وجنودها.
ما يُميّز فيلم «فرحة» أنّه فيلم مستوحى من قصة حقيقية حدثت إبان النكبة لإحدى الفتيات الفلسطينيات واسمها الحقيقي رضية، حيثُ كانت شاهدة على جرائم حرب ارتكبتها العصابات الصهيونية إبان النكبة، وتضمنت قتل أطفال وذبح نساء وجرائم إبادة جماعية ارتكبت في حقّ عائلات فلسطينية بأكملها.
تجيء بداية الفيلم لتسلّط الضوء على حياة فرحة التي كانت تعيشها قبل النكبة في آخر أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، يُصوّر الفيلم طموحات فرحة وأحلامها، ونضالاتها العادية في مجتمع تقليدي أبوي من أجل الحصول على حقّها في التعليم.
يأخذنا الفيلم بعدها إلى حدث النكبة الذي يأتي فجأة وبلا مقدمات، ويكون في حياة فرحة بمثابة القطيعة بينها وبين أحلامها وطموحاتها، ففي الفيلم تهجم العصابات الصهيونية على القرية التي تعيش فيها فرحة وتُحاصرها وتبدأ بقصف منازل القرية وتترك منفذًا واحدًا فيها ليُغادر أهلها منه، فيطلبُ منها والدها (مختار القرية) الخروج مع عمها في سيارته والهروب من هذا المنفذ، تركب فرحة سيارة عمها وتكون في صدد الخروج معه، لكنّها تُقرّر في اللحظة الأخيرة الخروج من السيارة والبقاء مع والدها.
وهنا تحدث اللحظة المفصلية في الفيلم التي يُقرّر فيها والدها بدوافع الخوف عليها إدخالها إلى غرفة «المونة» في المنزل، وإغلاق بابها الخشبي الكبير، وإحكامه عليها، ويعدها بأن يعود ليأخذها عندما تتحيّن له الفرصة لذلك.
يَستكمل الفيلم بقية أجزائه بإظهار فرحة وهي في هذه الغرفة الضيقة، ويَعمل على تسليط الضوء على مخاوفها ومحاولاتها للبقاء، ومقاومتها الغريزية لكلّ أفكار الموت القادمة من خارج باب الغرفة.
يُذكّر مشهد الثقوب في جدار غرفتها وفي بابها بيوميات المتلصّص في رواية القوقعة، والذي كان يُطلّ فيها بطل الرواية على ساحة السجن من خلال ثقب في جدار زنزانته، فمن خلال تلك الثقوب تحضر فرحة كما لو كانت متلصّصة على الأحداث التي تجري خارج غرفتها المغلقة، تُشاهدها وتسجلّها بعينها.
تشهد فرحة من خلال الثقوب في غرفتها على عدة جرائم ترتكبها العصابات الصهيونية بحقّ أهالي قريتها، تُسجّل بعينها جريمة إعدام وإبادة جماعية بالرصاص ترتكبها تلك العصابات بعائلة فلسطينية كاملة مكونة من أب وأم وطفلتين، وطفل رضيع.
ورغمَ أنّ الجندي الصهيوني يرفض في مشهد الفيلم تنفيذ أوامر قائده بقتل الطفل الرضيع عبر الدوس عليه بحذائه، إلا أنّ تركه كفريسة سهلة لحرّ الشمس ولأهوال العراء يكون بمثابة قرار إعدام بحقّه وجريمة إبادة أخرى، وهذا المشهد بالذات يَأتي ليقول بأنّ هناك بقايا إنسانية باقية في جندي العصابات الصهيونية آنذاك، وهو قول تنفيه جرائم الاحتلال الإسرائيلي الحاضرة والمستمرّة في حقّ الفلسطينيين ونسائهم وأطفالهم.
فجريمة الإعدام والتصفية الجسدية بالرصاص -الموثقة بالفيديو- التي ارتكبها جندي إسرائيلي بالشاب الفلسطيني عمار مفلح قبل بضعة أيام على حاجز حوارة، تأتي لا لتنبئ فقط بكمّ الحيوانية التي ظلّت تترسّخ ووتراكم في عقول وإدراكات جنود الاحتلال الإسرائيلي وقتلته عامًا بعد عامًا وجيلًا بعد جيل، بل تأتي لتشي كذلك بحجم المفارقة في الرواية الإسرائيلية التي تُصرّ على نفي جرائمها الماضية، مع أنّ جرائمها الحاضرة موثقة وظاهرة للعيان وللعالم أجمع، وتأتي كاستمرار للجرح المفتوح في شرايين الذاكرة الفلسطينية وما تحفظه من بشاعة وفظاعة الاحتلال.


الكاتب : إسراء عرفات

  

بتاريخ : 14/01/2023