يفتتح المخرج الألماني إدوارد بيرغر (مواليد 1970) فيلم All Quiet on the Western Front أو «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية»، بمشهدية لضباع صغيرة نائمة إلى جانب والدتهم. يبدو المكان باردًا وقد مات أحد الضباع، فما كان من البقية من أخوته سوى أن نهشوا لحمه واقتاتوا عليه. ثم يرسل بيرغر إشارة أخرى تتمثل بغربان تحوم في السماء منتظرة التهام جثث القتلى المسجاة في طول أرض المعركة وعرضها.
في الحرب يأكل الإنسان أخيه الإنسان. الحرب تعيدنا إلى حالتنا الحيوانية البدائية. الحرب تقتل أهم ميزة تميزنا عن باقي الكائنات، الحرب تقتل إنسانيتنا
من بداية الفيلم يطلعنا بيرغر على رؤيته للمسألة: في الحرب يأكل الإنسان أخيه الإنسان. الحرب تعيدنا إلى حالتنا الحيوانية البدائية. الحرب تقتل أهم ميزة تميزنا عن باقي الكائنات، الحرب تقتل إنسانيتنا. الحرب دراماتيكية. في الحرب تخرج كل المشاعر الإنسانية إلى العلن وبشكل متطرف: الحب والخوف والألم والحزن، وتتعرى المظاهر الحقيقية للجنس البشري من البدائية والحيوانية والقتل إلى الخيانة والصداقة والتضحية.
والإنسانية في الحرب تصبح كلمة مطاطة، ولشرحها أكثر يمكن أن نعبر عنها بكونها: الضمير الحي، التعاطف، المشاعر النبيلة، الرقة، التعامل الحسن، عدم الأذية إلخ.. هذه الصفات تصبح لزوم ما لا يلزم إبان الحرب، فيما تسود النزعة إلى الخلاص الفردي. هذا الخلاص الذي يقتضي إفناء حياة بشر أخرين كي يتمكن الفرد من البقاء على قيد الحياة. يطرح بيرغر تحفته السينمائية أمامنا ويدخلنا إلى عمق القضية محاولًا فحصها من زوايا عدة: الطبقية، العبثية، سخرية القدر، السياسة، الخداع والتغرير بالشبان عبر الأيديولوجيا، التعصب، الواقع الدموي الصادم وغير المحتمل للحرب، والآثار النفسية والندوب التي تخلفها الحروب فينا.
أنسنة الجندي الألماني
يصور لنا بيرغر النفاق السياسي الذي تمارسه الأنظمة على شعوبها وسيما الشباب من أجل سوقهم إلى المذبحة ليكونوا وقودًا لحرب ذي شعارات فارغة مقارنة بقيمة الحياة نفسها: «الشرف والكرامة»، ومن أجل «القيصر والرب والوطن». تلعب الأنظمة بعقول الشبان وتشحنهم بخطابات القوة والمستقبل الواعد والعرق المنتصر: إنهم «الشباب الحديدي الألماني» الذي سيغير وجه التاريخ. وحين يصل الشبان إلى أرض المعركة، يقول أحدهم: «هذا ليس ما تخيلته». لقد غرر بهم. لقد ظنوا أنهم ذاهبون لاحتلال فرنسا وتمضية عطلة في العاصمة باريس والسهر حتى الصباح مع النساء الجميلات وشرب الكحول. لكنهم اصطدموا بالواقع المأساوي. هناك قتل ودماء ومعارك.
يحكي لنا بيرغر كيف أن أصحاب النفوذ والجنرالات يتنعمون بما لذ وطاب من الحياة فيما يلقى الجنود حتفهم. مفارقات عديدة يرمي بها بيرغر أمام أعين المشاهدين. الجندي يأكل الخبز اليابس فيما كلب الجنرال يأكل اللحمة. جنود تجمدت أصابعهم من البرد فيما الجنرالات يشعرون بالدفء داخل قصورهم ومراكزهم. جنرالات يستعرضون قوتهم من بعيد حيث أنهم يعلمون أن الموت لا يحيق بهم عن قرب، في مقابل جنود وضعوا أيديهم على أكفهم وباتت حياة كل واحد منهم مجرد رقم متسلسل.
الفيلم عمل ملحمي. يأخذنا بيرغر في رحلة لاستكشاف أهوال الحرب على الصعيد الفردي. الحرب تفتك بقلب الإنسان. الحرب قتلت قلب الجندي باول، والإنسان حين يموت قلبه يتحول إلى وحش. ولم يعد هناك من فرق سواء بقي الجندي على على قيد الحياة أم لقي حتفه. الجندي باول باومر مات فعليًا حينما بات القتل عنده حالة ميكانيكية يقوم بها دون أدنى شعور. باول أصيب بطعنة من الخلف في قلبه تحديدًا ليؤكد لنا بيرغر مقتل قلبه. باول مات حين اهتز وجدانه وكيانه وعقله وروحه بعد مشاهدته لتأوهات خصمه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. يدخلنا بيرغر إلى الحفرة، حيث تدور معركة طاحنة بين جنديين من أجل البقاء. أحدهما يجب أن يموت ليعيش الآخر. وأداة القتل هي السكين. أداة سمحت للقتيل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ببطء دون عجل فيما نشاهده ونشاهد خصمه القاتل ينظر إليه والدم يخرج من فمه وعينيه تتمسكان بالحياة. الجندي المقتول يخبء في جيبة بذته العسكرية صورة عائلته: زوجته وأطفاله.
مفارقات عبثية يقذمها بيرغر في وجهنا مصورًا لنا سخرية القدر وعبثية الحرب في عدة مشاهد من الفيلم. بدءًا من عنوان الفيلم الذي استمد من برقية عسكرية إبان الحرب العالمية الأولى تفيد بأن كل شيء هادئ على الجبهة الغربية، بينما كانت أشلاء الجنود تتبعثر بمئات الآلاف (الجبهة كانت فعلًا هادئة بسبب كثرة الأموات).
عبثية أخرى نراها حين تعرض الجندي باول للطعنة في الثانية الأخيرة من الساعة الحادية عشرة صباحًا، أي موعد سريان الهدنة بالتحديد! وكذلك مقتل الجندي كاتزنسكي بعد تسلله إلى إحدى المزارع وسرقة دجاجة، فيتلقى رصاصة تودي بحياته. فهل يمكن أن نتوقع استباحة منازل وأراضي وبلدان الأخرين وننتظر منهم التفرج علينا؟ بطبيعة الحال سوف يقاومون. هذا الجندي الذي لم تهزمه الحرب لكن هزمه الجوع، هزمته دجاجة وصبي صغير تغلغل الحقد بداخله وصار رغبة عارمة للثأر فأرداه بطلقة في خاصرته. ومن هنا يلقي بيرغر باللوم على جميع الأطراف المتحاربة، فليس الجندي الألماني وحده من ارتكب المجازر، بل أيضًا الطرف الفرنسي قتل سرية بكاملها خنقًا بالغاز. لكن شيطنة الجندي الألماني أتت بفعل خسارة الحرب مما جعل من سردية المنتصر تسود.
يقدم لنا فيلم «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» النفاق السياسي الذي تمارسه الأنظمة على شعوبها وسيما الشباب من أجل سوقهم إلى المذبحة
لكن بيرغر لا يوجه الفيلم باعتباره وسيلة نقدية ضد النازية والألمان كما فعل كثير من المخرجين. بيرغر يوجه سهام نقده للحرب بذاتها دون تمييز بين الفريقين المتحاربين. ما يعني بيرغر ليس أسباب الحرب وأحقيتها من وجهة نظر أطرافها. ما يريد قوله هو أن الحرب بشعة بشعة بشعة وبأن الجنود وقود الحرب وهم بشر لهم خصال إنسانية.
وعلى عكس السردية التي سادت طيلة مئة عام مشوهة صورة الجندي الألماني نازعة منه إنسانيته، تلك السردية التي يمكن استنتاجها بسهولة من خلال الكم الهائل من الأفلام والروايات والأعمال الفنية والأدبية التي صاغ صورة وشخصية الخاسرين في الحرب مقابل تلميع وتجميل وأنسنة صورة وشخصية الرابحين في الحرب. وهذا ما تنقله كاميرا بيرغر المليئة بالمشاعر الإنسانية بغية إعادة ولو القليل من الأنسنة للجنود الألمان حيث تصورهم في أكلهم وشربه وأحلامهم وألامهم وأحزانهم وصراخهم وأفراحهم وابتساماتهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض وسذاجتهم وبراءتهم.
السينما أداة تغيير
تحفة بيرغر هذه لا يمكن نقدها بالسلب، كل ما يمكن الحديث عنها يكمن في مديحها والتغزل بها. أحيانًا يصبح الكلام عاجزًا عن وصف الصورة والمشهدية، فالمشهدية أقوى بأشواط من الكلام. هكذا هي سينما إدوارد بيرغر والتي تجلت في فيلمه هذا. سينما تفوق الوصف لكثرة ما فيها من جمال. كادرات فسيحة خلابة، موسيقى تهز الكيان والأبدان وترجف على وقعها الأفئدة. شجرة وشاحنة ودراجة نارية وسهول خضراء وسماء فسيحة ملبدة بالغيوم الرمادية وصليب المسيح في كادر واحد.
هي سينما من النوع الذي لا تستنفد جماليتها. سينما يمكن أن تعاد وتعاد مشاهدتها لمرات عديدة دون أن تمل عين منها أو تسأم. ومهما قيل إن «الفن ليس أداة للتغيير بل مجرد أداة للتعبير»، فإن سينما بيرغر تعارض هذه المقولة، نعم، يمكن للفنون عامة والسينما خاصة أن تكون أداة تغييرية، أقله على الصعيد الفردي. مشاهدة فيلم «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» تضغط في اتجاه هذا التحول النفسي عند المشاهد. ومن تجربتي الخاصة، وهي تجربة إنطباعية ذاتية، يمكنني القول: أشهد أنني قبل فيلم بيرغر كنت إنسانًا مختلفًا عن الإنسان الذي أصبحت عليه بعد مشاهدة الفيلم. قد يظن البعض أني أبالغ. لا بأس، لكل منا حساسية معينة وربما تكون حساسيتي مفرطة، ولكني في كل مرة أشاهد فيها سينما أتغير وأتحول وأتبدل وأصبح رجلًا أجمل وأفضل.
الفيلم مقتبس من رواية للأديب الألماني إريك ماريا ريمارك التي صدرت عام 1929، وشارك في كتابة السيناريو كل من إدوارد بيرغر وليزلي بيترسون وأيان ستوكل. مدة الفيلم 148 دقيقة، ومن تمثيل فيليكس كاميرر وألبريخت شوتش وأرون هيلمر وموريتز كلاوس. وتدور أحداث الرواية/ الفيلم في الحرب العالمية الأولى في ألمانيا وفرنسا، ربيع العام 1917، أي بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاع الحرب. يقول مؤلف الرواية الأديب الألماني إريك ماريا ريمارك: «هذه القصة ليست اتهامًا ولا اعترافًا ولا مغامرة، لأن الموت ليس مغامرة بالنسبة لمن يواجهونه وجهًا لوجه»، ويضيف: «تحاول هذه القصة، ببساطة، سرد قصص جيل من الرجال نجوا من جحيم الحرب، لكنهم دمروا من الداخل».
فيلم بيرغر الحالي ليس النسخة الوحيدة المقتبسة عن الفيلم. فقد صدرت النسخة الأولى من الفيلم المقتبس عن الرواية عام 1930 وكانت من إخراج الأمريكي من أصل مولدوفي لويس مايلستون، وصدرت نسخة ثانية من الفيلم باللغة الإنجليزية عام 1979 من إخراج الأمريكي ديلبرت مان. تنطلق النسخ الثلاث من رواية إريك ماريا ريمارك، لكن المعالجة تختلف بين النسخ الثلاث، مرد ذلك إلى عوامل عدة منها الزمني ومنها السياسي والثقافي لكل مخرج، مضاف إلى ذلك التغيرات الهائلة في تطور التقنية بين الأمس واليوم. لكن بيرغر يضيف مشاهد إضافية ويطرح معالجة جديدة على الفيلم تهدف إلى إعادة التوازن للسردية التي سادت طيلة المئة عام الماضية فيما يخص صورة الجندي الألماني، وتجدر الإشارة إلى أن نسخة بيرغر تعد النسخة الأولى باللغة الألمانية فيما النسختان الاولى والثانية كانتا باللغة الإنجليزية.