فيلم «مرض الأحد» للمخرج الإسباني رامون سالازار.. قصة تسردها الكاميرا لا الكلمات

ماذا يفعل الهجران بنا وكيف يصيبنا في أعماقنا ويزرع داخلنا عقد النقص والذنب. حتى نتساءل كأطفال: ما البشع فينا لكي يتخلى عنا آباؤنا؟ وما الذي فعلناه حتى هجرنا آباؤنا؟
كاميرا المخرج رامون سالازار ساحرة، وسحرها يشد الحواس ويخلق متعة في الوجدان. وفيلمه «Sunday’s Illness» (مرض الأحد) يعد مثالًا بارزًا لهذا السحر المفعم بالجمالية البصرية والحسية، حيث إن كل كادر له جاذبية ومشغول بحرفية وعناية مطلقة. الفيلم الآتي من إسبانيا مدته 113 دقيقة، وصدر عام 2018 ومن كتابة سالازار وإخراجه، وتمثيل سوسي سانشيز بدور الأم أنابيل، وباربرا ليني بدور الابنة كيارا.

أنابيل وكيارا

تخلت أنابيل عن ابنتها كيارا عندما كانت تبلغ من العمر 8 سنوات. بعد 35 عامًا، حددت كيارا أخيرًا مكان والدتها واقتربت طالبة طلبًا غريبًا قوامه قضاء 10 أيام سويًا في منزل الابنة في إحدى القرى النائية ذات الطبيعة الخلابة. كيارا لا تريد أي نقود من والدتها الأرستقراطية، ولا تعير اهتمامًا لأن تكون جزءًا من عائلة أنابيل الجديدة، جل ما تريده فقط أن يقضيا معًا الوقت وحيدين بمفردهما فيما يشبه العطلة. توافق الوالدة على مضض وذلك بعد تعهد الابنة بأنها ستخرج من حياة الوالدة كليًا بعد انتهاء العطلة. عدة أفكار راودت أنابيل: هل تريد كيارا قتلي والانتقام مني على هجري لها؟ أم هل تريد استعادتي إلى حياتها؟ لكن الوالدة أنابيل ليس لديها فكرة أن كيارا لديها هدف خفي وأنه سيتعين عليها مواجهة أهم قرار في حياتها، ولا يكشف سالازار عن القطبة المخفية سوى في العشر دقائق الأخيرة، تاركًا بذلك المشاهدين أمام تكهنات عديدة.

لا ندم!

خرجت الفكرة إلى سالازار من خلال العمل مع الممثلة سوسي سانشيز لمدة عامين حيث إنهما تأثرا بكتاب يروي قصص أمهات تخلين عن أطفالهن بدون اعتذار عن أفعالهن. يضم الكتاب الذي وقع بين يدي سالازار وسانشيز شهادات أمهات لم يشعرن بالتعاطف والندم حيال التخلي عن أطفالهن أو عدم منحهم الحب. كانت قراءة هذه الشهادات مليئة بالقسوة والقلق وشتى المشاعر الإنسانية العميقة والمظلمة والمتناقضة.
من هنا يسرد الفيلم قصة العلاقة المضطربة والمعقدة بين الأم وابنتها، فالغياب الطويل عن بعضهما البعض جعل لكل منهما قصة وماضي ومسار حياة مبهم كليًا. فالأم قضت 35 سنة بعيدة عن ابنتها، والابنة قضت 35 سنة بعيدة عن أمها، ودون أي تواصل بينهما. أثناء كتابته، قام سالازار، بتحضير تفاصيل ماضي كل شخصية- بيوغرافي- وأعطاه لكل ممثلة على حدة مما أثرى التفاعل بين الشخصيتين. تبعًا لذلك أتت المشاعر والأفكار والعلاقة بين الأم والابنة على الشكل الذي ظهرت خلاله في الفيلم، إذ لم تعرف أي واحدة منهما تاريخ الأخرى وما جرى لها وما حصل لها في تلك الفترة التي استمرت 35 عامًا. ومن هنا، كان من الصعب وضع 35 عامًا في سياق مليء بالمشاعر بين الأم وابنتها، ولذا أتت الشخصيات باردة من الخارج، ولكنها تضج بالمشاعر المكتومة من الداخل.
بنى سالازار شخصياته بعناية فائقة، بدءًا من الكتابة، إلى اختيار الممثلات، مرورًا بالتحولات التي النفسية والفيزيائية للأم وابنتها. في البداية نجد الابنة تقتحم عالم أمها أنابيل، ذلك العالم البرجوازي، وتشعر بأنها مفصولة عنه. ثم تقتحم الأم أنابيل عالم ابنتها الهادئ في القرية ذات الطبيعة الخلابة، ونرى كيف تتكيف أنابيل من جديد مع الوضع المستجد وتتحرر من الحياة التي عاشتها طيلة 35 عامًا، وذلك بفعل الروابط اللاواعية بين الأم وابنتها والتي أعادت أنابيل إلى حقيقتها وجعلتها تزيل عن نفسها كل قشور الماضي إبان حياتها البرجوازية المتسقة اتساقًا تامًا.
يسرد سالازار قصته بصمت طويل محمول بعاطفة، بكادرات ثابتة خلابة، بقليل من الحركة في الكاميرا، بأصوات الطبيعة وما فيها من عناصر، بالسكون الجميل، بنظرات الممثلين الشاخصة التي لا تحتاج إلى مفردات للتعبير عن نفسها، بالأزياء الفاتنة المعبرة ذات الدلالات الرمزية. اختار سالازار فرنسا لتصوير فيلمه، ولم يصور في إسبانيا، موطن سوسي سانشيز وباربرا ليني، لأنه أراد أن تشعر الممثلتان بعدم الانتماء للمكان بفعل العاطفة المتجذرة تجاه بلدهما إسبانيا، فعدم الانتماء للمكان يزيد بالشعور من الانسلاخ داخل نفوس الشخصيات.

قصة تسردها الكاميرا لا الكلمات

كلما اقتربت الأم وابنتها من بعضهما البعض نجد الإضاءة أكثر إشراقًا، وكلما ابتعدت الأم والإبنة عن بعضهما البعض أصبحت الإضاءة باهتة أكثر. يلقي سالازار بالفيلم أمام أعين المشاهدين دون أي معلومات توضيحية: الشخصيات لا تتحدث عن الموضوعات الرئيسية في الفيلم، لا يتم ذكر مرض كيارا، لا يتم ذكر تخلي أنابيل عن ابنتها، لا يتم ذكر مسألة الانتقام (كيارا) أو الخيانة (أنابيل)، وكذلك لا تفصح الممثلات عن مشاعرهن بكلمات واضحة. هناك ما يشبه عملية الانسحاب من قبل المخرج والممثلين وترك المسألة للكاميرا لكي تفضح عما يمكنها الإفصاح به دون كلمات، من خلال وسائل شتى، وبذلك أتى فيلم سالازار كسينما خالصة صافية أقرب ما تكون إلى السينما غير الناطقة في بداياتها حيث الصورة هي الجوهر والوسيلة.

موت من الداخل

ماذا يفعل الهجران بنا وكيف يصيبنا في أعماقنا ويزرع داخلنا عقد النقص والذنب. حتى نتساءل كأطفال: ما البشع فينا لكي يتخلى عنا آباؤنا؟ وما الذي فعلناه حتى هجرنا آباؤنا؟ فهل المشكلة فينا؟ تشوهات عميقة يتركها الهجران في عمق أعماق وجدان الطفل ويشكل شخصيته ومستقبله بأكمله. كيارا واحدة من هؤلاء الأطفال التي حملت هذه المشاعر داخلها طيلة حياتها فكان موتها مؤجلًا إلى حين فقط لا غير. المفارقة هنا أن كيارا لم تفصح عن أفكارها ومشاعرها بل دفنتها داخلها حتى تورمت وصارت مرض عضال. وعلى الرغم من كل هذا التشوه الداخلي الموجع، غير أننا نرى شخصيات هادئة من الخارج في صوتها ونبرتها وتحركاتها، وهذا ما يضفي على الفيلم وشخصياته السحر والفتنة.
قسوة أنابيل ليست بحاجة إلى مبالغة لتظهر للعيان. إنها تتخفى وراء كلماتها البسيطة وأزياءها الباهرة. في بداية الفيلم تطلب انابيل استفسارات من كيارا، تسمح كيارا لأنابيل بطرح سؤال واحد فقط، فيخرج السؤال من فمها كقنبلة «هل هناك أحد غيرك يعلم بالأمر؟». أنابيل، وبعد مضي 35 عامًا، وفي ذلك الموقف المشحون بالعاطفة عند كيارا، وبدلًا من إظهار القليل من اللطف، نجدها لا تكترث سوى إن كان هناك أي أحد أخر يعلم بالمسألة! في المقابل، هناك غضب وقسوة تميل إلى الشر داخل كيارا وتعبر عن هذه القسوة بتعاملها مع الكائنات الحية ومنها الحيوانات فنجدها تضرب بالحجر على رأس الكلب المجروح ربما لتنهي ألمه الذي يشابه ألمها. وربما كان المشهد تصويرًا بلاغيًا لحالة كيارا بكونها كائنًا مجروحًا يجب إنهاء ألمه عبر قتله.
جل ما تريده كيارا أن تلتئم جروحها قبل موتها بعد إصابتها بمرض العضال. تريد الموت بسلام. تريد الراحة النفسية قبل أن يتناثر جسدها. إن موتها في البحيرة على يد والدتها إنما يشبه تعميد الطفل في المسيحية عند ولادته. كيارا ماتت من الداخل في اللحظة التي هجرتها فيها والدتها، ونجد قسوتها في تعاملها مع الكائنات الحية الأخرى. العضال هو الرحلة الأخيرة والموت الأخير في حياة كيارا فقط لا غير.
تقول أنابيل لزوجها ردًا على سؤال إن كانت متأكدة من أن كيارا ابنتها: «أرى نفسي فيها». لكن هناك جسرًا يفصل بين الأم وابنتها، جسرًا معبدًا بالتراجيديا يصعب شفاؤه. والفيلم لا يعتمد على القصة بقدر ما يعتمد شخصيتين تحاولان اكتشاف أجزاء من حياتهما التي دفناها منذ فترة طويلة.
هناك ارتباط بين الموت والولادة. كل موت يحيل إلى ولادة جديدة أو ربما العكس. في المشهد الأخير حيث تقوم الأم أنابيل بإغراق ابنتها كيارا، تتبدى لنا فكرة العلاقة بين الموت والولادة. كيارا تموت، بينما تولد أنابيل من جديد. ولادة أنابيل تعني رمزيًا تخلصها من ثقل الماضي والتحرر منه.
أحيانًا تشفى الجروح بواسطة التخيل، بحيث يحفز خيال الإنسان الشفاء عبر تركيب أحداث وسيناريوهات لم تحصل في الواقع، وهدف هذه الأحداث هو التطهير وإزالة القلق والتوتر والشعور بالراحة. يبدو الفيلم لكأنه مجرد حلم وظيفي من هذه الأحلام يعتمل في رأس كل من الأم والابنة في محاولتهما للشفاء من جروح الماضي! إنه بمثابة بورتريه عن اللاوعي عند كل منهما.


الكاتب : فراس حمية

  

بتاريخ : 29/04/2023