يشتغل المخرج آري آستر على الخوف العميق الكامن في دواخلنا نحن البشر، منطلقًا من تلك العقد التي تجعلنا متأكدين من أنه لا يمكننا الإفلات من قبضة مصيرنا. وراثي فيلم يصيب المشاهد في مقتله. التقرير المترجم الآتي يقرأ الخفايا.
للوهلة الأولى، يبدو فيلم «وراثي «من الأفلام السخيفة الخارقة للطبيعة التي لا تتحلى بالمنطق، المليء بالعبارات المجازية الرثة التي تمتلئ بها أفلام الرعب. وعلى الرغم من ذلك، فقد لمس فيلم الرعب الأول لآري أستر وترًا حساسًا، إذ يبدو أنه ظل عالقًا في أذهان من رأوه. ما السبب في ذلك؟
كثير من أفلام الرعب (مثل Blair Witch، وThe Babadook، وIt Follows) تلجأ إلى أسلوب جانغيان اللاوعي لإثارة المخاوف الخيالية المجردة. بينما تلجأ أفلام أخرى (مثل Carrie، وDon’t Look Now، و Get Out) إلى الرعب الواقعي. غالبًا ما يحظى ذلك النوع الأخير باستمرارية أطول.
قورن فيلم وراثي بفيلم Rosemary’s Baby، والذي أقر آري أستر بنفسه أنه كان مصدر إلهام له. إذ لم يتمحور الخوف في ذلك الفيلم في الحقيقة بشكل كبير حول الأرواح الشريرة بقدر قسوة غريزة الأمومة. فقد كانت رسالة بولانسكي صارمة تمامًا، لكن علاقة أستر بالواقع كانت أكثر غموضًا. فلا يجب فهم فيلم وراثي في إطار جنون امرأة تحتاج إلى علاج نفسي. فقد أكد الكاتب/المخرج لنا على أن الفيلم «حرفي». لكن بالطبع لا يمنعه ذلك أن يُأخذ بشكل مجازي، أيًا ما كان غرض كاتبه. مجاز عن ماذا إذًا؟ ربما كان مفتاح الأمر في اسم الفيلم.
تنحدر آني بطلة فيلم وراثي التي تؤدي دورها توني كوليت، من أسلاف يعانون الفصام، والعلل الاجتماعية، والميول الانتحارية، والحقد بغض النظر عن وضعهم الغامض. فقد قلص نفوذهم من إرادتها وسيطرتها على سلوكها. فحتى الأمومة التي تجسدها لم يكن لها دور في اختيارها. حسب أستر، فقد «عرفت في قرارة نفسها بشكل ما أن حياتها ليست ملكها». تصيب عدوى الروح الشريرة التي سكنت آني في إصابة ابنتها تشارلي، وابنها بيتر، لكنها لا تصيب زوجها المميز جينيًا. وعند خضوعها لأوامرها الشريرة، تفسر الأمر بأنها تمشي نائمةً.
يعكس مصير آني رؤيةً قديمة ومتجذرة للوضع البشري، لكنها أصبحت تثير الفزع اليوم. هل يمكن أن نكون رهنًا لجيناتنا الوراثية بدلًا من كائنات لديها القدرة على إدراك ذاتها؟ هل نسير نائمين مثل آني بدلًا من أن نصنع جوهرنا الخاص؟ هل يجعل التوارث حياة الإنسان بلا قيمة؟ وجه معلم بيتر سؤالًا للفصل ما إذا كان سقوط بطل سوفوكلين أكثر مأساوية أم أقل لأنه ارتبط بالقدر أكثر من الإرادة. كانت الإجابة، أكثر مأساوية لأن القدر يعرقل الأمل.
لقد أصبح إدراك الذات عقيدة في عالم يتمحور حول الذات. جميعنا يطالب بالحق في تحديد، وتحسين، وتطوير، وتعزيز هويتنا الذاتية. إن فكرة أن تكون إمكانياتنا محصورة في حمضنا النووي تُعد إهانة مرفوضة. لا يهدد ذلك شخصيتنا فحسب، بل يهدد شعورنا بالمجتمع الذي نتحرك فيه.
يقوم التزامنا بهندسة التقدم الاجتماعي على فرض أننا نستطيع تصحيح السلوك السيء. نحن نفضل أن نصدق أن السلوكيات السيئة ما هي إلا نتاج لتهيئة بيئية فاسدة. لذلك، نستطيع إقناع أنفسنا بأنها قابلة للتغيير.
يُعزى السلوك الإجرامي إلى الحرمان، وبالتالي تُصبح العدالة الاجتماعية هي الحل. فالعنصرية وكراهية النساء عادات سيئة تتعاظم بسبب الجهل بها، ويجب فقط تنمية الوعي بها. تريد الفتيات أن تُصبحن أميرات لأن ديزني قد غسلت أدمغتهن. حسنًا، لتنتج إذًا أفلام مثل Wonder Woman، و Ocean’s 8. إذا كانت السمات المقصودة متجذرةً وراثيًا، فلن يتسنى استئصالها عن طريق التعليم، أو التوبيخ، أو إصدار قواعد جديدة براقة.
سوف تفقد الخبرات والأفكار المتراكمة لحل المشاكل بريقها. وربما لا يكون إعادة التأهيل هو الحل للاعتداء في نهاية المطاف. فالعرقيات المختلفة تتضمن بلا شك شخصيات مختلفة. قد يؤدي التباين في الوعي المكاني إلى أفضلية لجنس على آخر في مرآب سيارات. وقد تصبح الذكورة الضارة إلى مجرد ذكورة لا يمكن اصلاحها.
ينبع شح الحراك الاجتماعي الحالي استمرار الوضع الحالي القائم الامتيازات. فمن البديهي أن يورث الأسلاف وارفي الثراء أبنائهم تلك الميزة، عن طريق منحهم تعليم فائق، وإدخالهم في شبكاتهم الخاصة. ولكن لنفترض أن ثمة أمر آخر يرتبط بذلك، وهو النجاح في «التزاوج المتجانس»، أي أنهم يتزاوجون من بعضهم البعض. فإذا استطاعوا تمرير الذكاء، والإصرار، والشخصية، فإن السيرة الذاتية القاصرة لن توقف تقدم ذريتهم.
سوف يتبين أن إيماننا بمرونة العقل البشري ليس سوى وهم أو خداع للهروب من الواقع غير المرغوب، تمامًا كما اُبتدعت الحياة الآخرة للتغلب على نفورنا من الموت.
قد يشكل الدور الواعد للوراثة تحديًا واضحًا للنظرة التقدمية للعالم، لكنه أيضًا قد يهدد آفاق مفهوم الحقوق. فإذا كان الخطأ يرجع إلى جيناتنا، ليس هناك حاجة إذًا للمسؤولية الشخصية. وسيطل عليك فتيان عصابات، واستغلاليون من كل الجوانب. ففي فيلم وراثي، اعترض بيتر على عدم وجود مسؤولية. وقد أقرت آني بالذنب، لكنها صححت لفظها الفور قائلة «أنا المُلامة» مشيرة بشكل ضمني إلى أن هذا اللوم ليس عادلًا.
لا يجب أن نندهش إذًا، فالتفسيرات الوراثية للسلوك تجد مقاومة عنيفة على كافة الجبهات. ينظر كثيرون إلى علم النفس التطوري، وعلم الاجتماع الحيوي على أنهما هرقطة محضة. فعندما أشار لاري سامرز، رئيس جامعة هارفرد، إلى تفوق الرجال على النساء في الرياضيات والعلوم بسبب اختلافات بيولوجية، أثار موجة من الغضب اضطُر للاعتذار على أثرها قبل أن يستقيل في نهاية المطاف.
لسوء الحظ، تشير الأدلة إلى أن الوراثة تلعب دورًا هامًا ومقلقًا في حياة الإنسان، ولا يمكن إهمالها بسهولة كما يأمل البعض. لا ينكر أي شخص أن الصفات المرئية، بداية من الشعر الأحمر، وصولًا إلى أنف العمة إيثيل، يمكن أن تنتقل إلى الأبناء. فإذا كانت الخصائص الفيزيائية تنتقل، فلم لا تنتقل السمات الأخرى إذًا؟ لم يلق قول آني أنها ورثت عنادها من والدتها انتباهًا كافيًا. فإذا كانت قد ورثت العناد فعلًا، فلم لا ينطبق ذلك على الانفعال أو التهور أو الإبداع أو العنف أو الغباء أو التعاطف؟ يختار الصبية اللعب بالبنادق، بينما تختار الفتيات اللعب بالدمى، وذلك قبل أن تُتاح الفرصة للتأثيرات الاجتماعية أن تشكل تفضيلاتهم.
هذا هو منبع القلق الذي أثاره فيلم وراثي بقوة. يميل صناع أفلام هوليوود إلى السماح للروح البشرية الحرة أن تنتصر في النهاية. أستر ليس ملزمًا بذلك، فهو سوفوكليسي التوجه في أعماله، أي أنه رسالته قاتمة. ولكنها على الرغم من ذلك أبعد ما تكون عن كونها غير مقنعة. ربما يرجع كره الجمهور لفيلمه إلى هذا السبب، على الرغم ثناء النقاد عليه.