في المشهد الافتتاحي لفيلم جيمس بوند الشبح في عام 2015، عرض المخرج سام ميندز (الذي فاز بالأوسكار عن أول فيلم روائي له وهو American Beauty ) لقطة متتابعة لا تنسى من مهرجان الموتى في مدينة مكسيكو. تتبع الكاميرا رجلًا مقنعًا عبر الشوارع المزدحمة إلى ردهة فندق ثم إلى السطح مرورًا بالمصعد والنافذة لينفذ عملية اغتيال مميتة. هذه الافتتاحية الجريئة والجذابة كانت المشهد الأقوى في الفيلم.
عاد ميندز في فيلمه الجديد 1917 إلى إغراء اللقطة المتصلة، لكن هذه المرة على مدار الفيلم كله. وعلى غرار فيلمي Rope لهيتشكوك وBirdman للمخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، يستخدم فيلم 1917 عدة لقطات ومواقع تصوير مترابطة في ظاهرها، ليقدم للمشاهد إحساسًا باللقطة المتصلة من منظور الشخص الأول، رغم بعض الانقطاعات الدورية. وكانت النتيجة فيلمًا دراميًا شعبويًا يقود المشاهد عبر الخنادق وساحات المعارك في شمال فرنسا، حيث يحاول جنديان شابان بريطانيان شق طريقهما عبر صفوف الأعداء في 6 أبريل 1917.
يؤدي الممثلان جوك مكاي ودين تشارلز تشابمان دور البطلين شوفيلد وبلاك، الجنديين المكلفين بمهمة اختراق مناطق العدو لإيصال رسالة إلى القوات الموالية التي تستعد لشن هجوم كارثي. نفذ الألمان انسحابًا استراتيجيًا متظاهرين بالفرار. لكنهم في الحقيقة يقبعون منتظرين ومسلحين وجاهزين لصد الهجوم البريطاني. وعلى هذين الجنديين اليافعين الوصول إلى زملائهم وإيقاف الهجوم، في سباق ضد الزمن وواقع الحرب المستعصي.
وعبر عناية فائقة بالتفاصيل يستحق عليها مصمم الإنتاج دنيس غاسنر كل الإشادة، والتصوير السينمائي المذهل الذي قدمه روجر ديكينز والذي ينقل المشاهد من المنظور الأرضي إلى منظور عين الصقر بسلاسة مذهلة، يضع ميندز المشاهدين في قلب الفوضى التي تجتاح الجبهة.
يعتري المشاهد إحساس حقيقي بملحمة تنتقل فيها الكاميرا من جحيم إلى الذي يليه، وتنقل ببراعة مشاعر الأبطال وإحساسهم بالقلق أثناء انتقالهم من منطقة مجهولة إلى التي تليها. هذه اللحظات المفرطة في إثارتها تتخللها على مدار الفيلم لحظات من الصدمة والاندهاش. سواء كان انفجار لغم يقطع أنفاس المشاهدين أو معركة بعيدة تقترب شيئًا فشيئًا لتستحوذ على الشاشة بأهوالها، أو طلقة نارية تدفعك للقفز من مقعدك أثناء مشهد صامت.
لكن على الرغم من كل هذه الكفاءة الميكانيكية في تصوير مشاهد الحرب، فإن اللحظات التي تأسرك حقًا، هي تلك التي تصور فداحة التكلفة البشرية للحرب. وكما هو الحال في فيلم بيتر جاكسون الوثائقي المؤثر «لا يجب عليهم أن يكبروا»، يصل 1917 ذروة كماله حين يصور الوجه الطفولي لهذا الصراع. محنة جيل من الشباب يموتون أو يشيخون قبل أوانهم. نرى ذلك جليًا في عيني ماكي المفتوحتين اللتين تنقلان على الدوام إحساسًا بالبراءة الممزقة والإرهاق والاستسلام للمقدر والأمل.
«الأمل شيء خطير»، ينطق الممثل بنديكت كامبرباتش العبارة على لسان العقيد ماكينزي. وهي عبارة مركزية في فيلمThe Shawshank Redemption وهو ملحمة إنسانية أخرى مليئة بالرعب تطارد ميندز وكاتبة السيناريو كريستي ويلسون كارينز. ويلجأ المخرج إلى إحالات أخرى مثل فيلم Saving Private Ryan للمخرج سبيلبيرغ، والذي لم يستلهم منه التصوير المثير لعنف ساحات المعارك فحسب، بل والخط الرئيسي للحبكة كذلك، والذي يضع الجنود في رحلة بحث عن رفيق لهم في مهمة مستحيلة نحو الخلاص.
في أحد المشاهد السوريالية حيث يتحول الليل إلى نهار بفضل الأضواء الفسفورية الصفراء، ربما يتذكر المرء مشهد الحلم في فيلم والتز مع بشير، والذي يخرج فيه شباب من الماء مثل الأشباح يسيرون بين الأحياء.
وخلال هذه الأوديسا الهوميروسية، تلعب الموسيقى التصويرية لتوماس نيومان دورًا حيويًا في تصوير الأجواء المتوترة والمشحونة، سيرًا في الخنادق أو عبر الأجساد الممزقة في غابة الأسلاك والخشب والعظام والدماء، ومرورًا بالمنازل الريفية المهجورة والكنائس المدمرة. تردد الموسيقى في بعض المواضع، الإيقاع المتصاعد لموسيقى هانز زيمر في فيلم دانكيرك. وفي مواضع أخرى تأتي موسيقى نيومان مشبعة بحزن دفين مصحوبًا بخوف من خطر وشيك.
في فيلم تعلب فيه الموسيقى هذا الدور الحيوي، ليس من المستغرب أن يكون المشهد الأقوى هو مقطع من أغنية تقول بعد خروجنا من النهر بعد دورة من الفناء والبعث، نجد أنفسنا في غابة يقف فيها شاب يدندن أغنية الغريب المسافر. تجمع الأغنية شخصيات الفيلم مع المشاهدين في صمت، في صوت الهدوء الكامن في ثنايا كثير من أفلام الحروب العظيمة.
(عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية)