«في أجمل بلد في العالم»

أو عندما يغرقنا «الطاهر بن جلون»
في ما يسميه ب»أرض النعمة المأساوية»

 

 

يعود إلينا «الطاهر بن جلون»، من جديد، في مجموعة قصصية ترتحل بين حكايات «الحب غير المحتمل» و»القصص الجميلة والمأساوية» على حد سواء، و»لحظات البهجة» حيث تستيقظ الأماكن ومعها «قصص الصداقة المؤثرة» و»التاريخ القديم» الذي يفقد ذاكرته تباعا، وتتدمر فيه «الجذور المختلطة للأرض»، و تتفاقم معه «المحرمات» و»الجهل».. لكن، و»في أجمل بلد في العالم»، نحن على علم بطريقة إعادة «صباغة» الأيام القاتمة باللون الأزرق…

«في أجمل بلد في العالم».. عنوان مميز لمجموعة من 14 قصة قصيرة، فيها يغرقنا «الطاهر بن جلون» في قصص تتنوع بين «الحميمية» و «التطرق لمشاهد من الحياة» غالبا ما تكون «منغمسة» في «الحب» و «الجمال» و «المأساوية» في نمط رهيب، جميعها مرتبطة بجذور من «الأرض الأم» خاصته، و مما يعتبره مكونا لـ»أجمل بلد في العالم»، و أشبه بـ»بداية نغمة موسيقية» لمقدمة «قصيدة تكريمية» تفتح المؤلف المتحدث عن «بلد الكرم» خاصته، وحيث «لن نرفضك ب»لا» أبدا.. حيث «نشارك ما لدينا» و القليل الذي لدينا، شاملة «الخبز» و «الزيتون» و شيئ من «الحماس» المضيء للأيام.. معجزة «مصدر المياه».. في أجمل بلد في العالم، لا يتمكن المطر أبدا من «تدنيس» زرقة السماء غير القابلة للتغيير في النفوس التي «ترفض سوء الحظ» عن طريق «البهجة» و «الأغاني».. في هذا البلد، حيث «يسافر المرء في عيون الآخر»، يبدو أن «الحب» و»الفكاهة» و»الشعر» الذي ينير «أرض النور» هذه ، يقف في وجه «البؤس» و»الألم» و»قسوة» العصر والمكان والزمان.
مقدمة جميلة حقا لهذا المؤلف (القصيدة كما تراها كاتبة التدوينة)، حيث يعبر المؤلف عن إعجابه «المرهف» ب»بلد حبيب» يعرف كيف يمد يده للغير، و فيه هذه «القوة الطبيعية الهادئة» لإعادة رسم «إبتسامة» السماء الحزينة باللون «الأزرق المبهج». منذ البداية، كان على القصص التي تفتتحها هذه القصيدة أن تمثله، وتصبح ممزوجة ب»الحب» و»الألم» و ننغمس فيها مع وبقلم «الطاهر بن جلون»، في حيواة متعددة تشمل «عائلة» و»زوجين» ومواضيع شتى، منتقلا بنا تارة بين «احتفال» أو «ذكرى متقلبة» لصداقة ما أو «ألم» أو «نجاح»…
يبدو أن المؤلف، يتخلى عن «لهجة الحكواتي» و يعود إلى الظهور في بعض الأحيان هنا و هناك، و خاصة عندما يترك الكاتب السرد الواقعي ليكشف عن حقيقة ما يحيط بنا من «الأساطير»، مثل رحلة «باربرا هوتون» أو «ميغيل سرفانتس» إلى تطوان، التي قدمتها تلك الصيغة السحرية الشهيرة «ذات مرة»، و التي تحيلنا الى أن نتوقع بشكل إستباقي مآل بعض القصص التي من شأنها أن نسبح معها مرة أخرى في ذكريات الطفولة، المثيرة لليال سحرية ممزوجة فيها همهمات أنثوية غامضة.
في الواقع، لم يكن الحال كذلك، لأن القصص التي يقدمها لنا «الطاهر بن جلون» هنا هي قصص «واقعية و خاطفة»، بيد أن «التحول المتزن» نحو الأسطورة لا يخدم سوى هذه الواقعية. إن القصص كلها، متجذرة في «تاريخ» و»حضارة» و»ثقافة» و»مجتمع» متعدد الأوجه، حيث «الترف» و»الفقر» و»القصور» و»الأكواخ» المؤقتة و «السماء» كسقف وحيد يتغطى به أطفال مغيبون على الأرصفة متحدين بعزيمتهم ببرد الليالي القارص.. و الكثير من العناصر التي يبدو أن المؤلف يريد «تذكير» ذاكرة القارئ الذي سيخرج منها بما يغير نظرته «الأسطورية» عن بلده.
يأخذنا «الطاهر بن جلون» في بادئ الأمر إلى «فاس» (مسقط رأسه)، التي كثيرا ما يتم سؤاله عنها في رواياته، هناك حيث نلتقي بعائلتين: عائلة «مراد أحمد» الفخورة بأصولها، ليس فقط لأنها كانت جزءا من هذه «المدينة المقدسة» لأجيال يعتبرها الفاسيون (المدينة) «مستودعا للثقافة والحضارة العربية الإسلامية»، ولكن لأنها تمت لنبي الإسلام بصلة، فهي من نسله ؛ و إلى كل من «مارسيل» و «أنجيل» المنتميين لعائلة «يهودية – مغربية»، إذ كان والدهما «أبراهام توليدانو» أشهر صائغ في المدينة، و على عكس معظم اليهود الذين عاشوا في الملاح، عاشت عائلة «أبراهام توليدانو» في المدينة بين المسلمين.
كانت العائلتان متقاربتين جدا، إلا أن تقاليد «الزواج داخل العائلة أو العشيرة»، منعت «أحمد» و «أنجيل» على الرغم من الصداقة القوية التي ربطت عائلتيهما، من أن يؤسسا عائلة معا ولكونهما أحبا بعضهما البعض لفترة طويلة بعيدا عن أنظار الآخرين و مسامعهم.. غير أن «حمل» أنجيل المفاجئ، قلب الموازين وسط العائلة، ما عجل بمشاورات بين العائلتين أدت لتقرير تزويجهما دون التخلي عن تقاليد العائلتين، خبر مفرح تزامن مع عام 1967، أو عام «الكارثة» كما وصفه الكاتب.
هزت التوترات بين «إسرائيل» و «الدول العربية» معها «المغرب» وزعزعته في هويته، حيث بدأ المزيد والمزيد من «اليهود المغاربة» في الهجرة إلى الدولة اليهودية، و ازدهر «التيار الإسلامي» (الإسلاموية) مع رحيلهم… من جهته، قاوم «أبراهام توليدانو» لفترة طويلة، قبل أن يستسلم ويرحل بعائلته إلى «كندا»، مما أثار اليأس في نفس «أنجيل» التي انتقلت مع زوجها إلى «الدارالبيضاء» المدينة التي لم تحبها لشعورها فيها ب»الوحدة».. قررت (لتحطيم هذا الشعور)، أن تعطي دروسا في محو الأمية و لتكون بها صداقات بين النساء من الطبقة البسيطة. منذ ولادة إبنها «أمين»، اعتنقت أنجيلا «الإسلام» بناءا على طلب زوجها و اختارت لها إسم «ياسمين»، في حين أن عائلتها لم تعترض على قرارها ولم تبد أي امتعاض منه، حيث كانت ياسمين مسلمة «نموذجية». بعد إسلامها، ذأب زوجها على ممازحتها، إلا أن ياسمين اعتادت أن تجيبه قائلة : «لقد ولدت مسلما، لذلك لم تبد أي مجهود لاعتناق هذا الدين»… كانت ياسمين (أنجيلا) بعيدة عن والديها المسنين، اللذين كانا يحسبان السنوات من أجل اقتناص الفرصة وزيارة ابنتهما، في الوقت الذي علمت فيه ياسمين أنها مصابة ب»سرطان الثدي». كان على أحمد، الذي عاش أمدا من الحب الذي لا يتزعزع مع زوجته، أن لا يغرق بدوره في «اليأس» و يبقى ملازما لسرير زوجته، على أمل أن تعهد إليه بأمنيتها الأخيرة… في لحظة ما، عندما شعرت باقتراب أجلها، همست له ياسمين أخيرا: «أرجوك، اجلب لي حاخاما !».
هذه هي «قوة» هذه القصص، التي تعطينا فكرة عن الحياة في «أجمل بلد في العالم»، بلد «متعدد» الثقافات و ب»هوية فريدة»، يتكون من مجتمعات مختلفة مرتبطة ب»عمق» ببعضها البعض.. إلا أن المؤلف، قد غطى في قصصه الجانب المنسي أو «ما وراء الكواليس»، أي «الجرح الذي لا يمكن إصلاحه والذي اقتلع المغرب مت هويته»، مما أحاله الى بلد «معاق» في فترة ما، و يا لها من نوستالجيا. ينبعث شيء من الحنين منها، نعم.. هذه القصص ليست بحكاية خيالية، بل هي «واقعية» و «واضحة»، حيث أن كلتيهما تتساويان في الصورة التي تعطينا إياها حول «بلد ذي جذور متعددة مختلطة متصلة في عناق لا ينفصل حتى الآن»، بها ما بها من «المأساوية» و «قسوة التاريخ» و «العنف» الذي استغله البعض بجد لـ»بتر» جزء من المغرب.. و نعم، الحنين إلى الماضي لا يمكن «إطفاؤه» أو «تغطيته» وراء كارثة ما يعرف ب»الهويات المزيفة».
ما بين القصتين، سيتناول «الطاهر بن جلون» مختلف المواقف التي لا يطلع عليها المجتمع المغربي بشكل جيد أو يقاوم قبولها، منها أيضا «قصة مؤسفة لزوجين» ربما يريدان أن يظهرا لنا أن «الطلاق» لا يزال يرى على أنه «عار» و «الخيانة» هروب جبان منه… و يتناول أيضا مواضيع ذات صلة، على غرار «المثلية الجنسية»، من خلال «قصة رجل متزوج ينتهي الأمر بزوجته إلى الضغط عليه لكونها لم تغادر مرحلة «العذرية» بعد ؛ متطرقا أيضا لـ»الزنا»، من خلال «القصة المتعثرة التي تعيشها امرأة تجبرها على تدمير زواجها و قتل زوجها في نهاية المطاف دون إثارة الشكوك حولها ؛ يتحدث أيضا عن «الإعاقة» (ذوي الهمم)، بنمط «غير معروف» و «مزعج» في بعض الأحيان، من خلال «قصة طفل مصاب ب»متلازمة داون» تقترح الممرضة عند ولادته وضعه في مؤسسة مختصة، مما سيثير غضب والديه الذين سيرون هذا الطفل يكبر هناك في «سعادة» و «وسط حب غير محدود»، يغطي و قد يتناقض مع أي فكرة عن الشر الكامن في الخارج، إلا أنه سيصير بالرغم من ذلك «بطلا في السباحة» و «عازف بيانو» متمرس … ؛ عن «المحرمات» و «العنف» و «الجهل»..
نعم، إنها نظرة «واضحة» و «محبة» و «لاذعة» يحملها «الطاهر بن جلون» في ثنايا قصصه، يجعلنا نسافر معها عبر «فاس» و «الدار البيضاء» و»مراكش» و «طنجة» و «تطوان» و «أصيلة»، في ربوع وطنه الأم، حيث تنتهي قصص هذا المؤلف في مدينة «أصيلة» ب»قصة مؤثرة» يفترض أنها «سيرة ذاتية»، تتحدث عن «صداقة بين الراوي و أحمد»، الذي رحل للعيش في الخارج (كما يصفها الكاتب «تحت سماء أخرى») بعد أن عمل نادلا لفترة طويلة من الزمن.. أحمد، الذي سيحصل على جواز سفره بفضل مزيج «غريب» من الظروف، سيسافر إلى «هولندا» في قصة عن «الحب» و «الغياب»، ربما تكون الأكثر «تأثيرا» و «شاعرية» في المجموعة، و على الأقل ستكون لها نهاية مرضية وجميلة…
في الأخير، نذكرك أيها القارئ، أننا نقاوم رغبتنا في الإفصاح عن خبايا تلك القصص و أحداثها بتفاصيلها، تفاديا لحرقها عليك.. و ندعوك بدلا من ذلك، للإطلاع على المجموعة القصصية بنفسك.


الكاتب : بقلم : بثينة عزمي ترجمة: المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 19/10/2022