في أول اختبار للحكومة بعد خروج شباب z إلى الشارع .. هل يكون قانون مالية 2026.. ميزانية إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟

مع اقتراب موعد تقديم مشروع قانون المالية لسنة 2026 (قبل 20 من الشهر الجاري) تواجه الحكومة لحظة امتحان عسيرة تختبر فيها قدرتها على تصحيح الأخطاء التي راكمتها في تسييرها الاقتصادي والاجتماعي بعد 4 سنوات من الولاية التي اتسمت بجمود الإصلاحات الهيكلية الحقيقية وارتفاع منسوب الاحتقان. فالمؤشرات الماكرو اقتصادية تبدو في ظاهرها مستقرة، لكنها تخفي اختلالات عميقة في توزيع الثروة وفي مردودية الإنفاق العمومي، مما يجعل قانون المالية المقبل امتحانا حقيقيا لقدرة الحكومة على الانتقال من منطق التسيير المحاسباتي الضيق إلى منطق السياسة العمومية ذات الأثر الاجتماعي الملموس. فالتحدي اليوم لم يعد في خفض العجز أو التحكم في الدين، بل في إحداث توازن جديد بين الاستدامة المالية والعدالة الاجتماعية، لأن الاستقرار الماكرو اقتصادي لا يقاس بمعادلات رقمية فقط، بل بمدى قدرته على تحسين شروط الحياة اليومية للمواطنين.
نزول الشباب المغربي اليوم إلى الشارع للمطالبة بالإصلاح، أثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن المقاربة الميزانياتية الجافة التي تبنتها الحكومة الحالية فشلت فشلا ذريعا في تحقيق النقلة المنتظرة نحو نموذج تنموي أكثر إنصافا. فبدل أن تتحول السياسة المالية إلى رافعة للعدالة الاجتماعية، ظلت حبيسة أرقام جامدة تبحث عن توازنات محاسبية على حساب الاحتياجات الحيوية للمواطنين. ويكفي الاطلاع على التقارير الاقتصادية والمالية لميزانية 2025 لإدراك حجم المفارقة بين الخطاب والنتائج. فعجز الميزانية بلغ 4,4 في المائة سنة 2024 ومن المرتقب أن يظل في حدود 4,3 في المائة سنة 2025، فيما تجاوزت المديونية العمومية الإجمالية 72 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وهو ما يجعل ثلث موارد الدولة الجبائية مخصصا فقط لخدمة الدين، دون أثر ملموس على تحسين الخدمات أو تقليص الفوارق.
ورغم هذا الهامش المحدود، لم تبد الحكومة قدرة على إعادة ترتيب أولوياتها المالية. فالنفقات الاجتماعية، وإن بدت مرتفعة في ظاهرها، تظل محدودة المردودية في عمقها. فقد خصصت الحكومة 101 مليار درهم لقطاع التعليم سنة 2025، أي ما يقارب 17 في المائة من إجمالي الميزانية العامة، لكن ما يزيد عن 85 مليار درهم من هذا المبلغ يوجه إلى كتلة الأجور، مقابل استثمارات لا تتجاوز 16 مليار درهم في بنية تعليمية تزداد هشاشة سنة بعد أخرى. أما قطاع الصحة، الذي تدعي الحكومة أنها رصدت له اعتمادات تناهز 32 مليار درهم،(وهو رقم يشكك فيه جميع المراقبين والعارفين بخبايا ميزانية القطاع) فما زال يعاني خصاصا هيكليا مهولا يقدر بأكثر من 65 ألف إطار طبي وشبه طبي، في وقت يتواصل فيه الاكتظاظ وضعف التجهيز داخل المستشفيات العمومية.
وبينما حاول رئيس الحكومة في خروجه الإعلامي الأخير الترويج لمزاعم ولأرقام لا أساس لها من الصحة، والادعاء أمام ملايين المغاربة بأن «تجربة الحكومة الحالية التي يقودها “مثالية” وغير مسبوقة في الحكومات المتعاقبة ” ، فإن خروج آلاف الشباب إلى الشارع كان جوابا واضحا يؤكد أن الحكومة لم تنجح في جعل ميزانيتها أداة للتغيير الاجتماعي، إذ ظلت تفكر بمنطق التحكم في الأرقام والنفخ في الصفقات أكثر من منطق تطوير الخدمات. فبينما يواجه المواطن ارتفاع كلفة المعيشة وتراجع القدرة الشرائية، اختارت الحكومة الحفاظ على توازنات شكلية لا تترجم إلى أثر ملموس. وقد بلغ معدل البطالة 12 في المائة، وارتفع إلى 30 في المائة بين الشباب الحضري (الذي خرج اليوم بكثافة الى الشارع للتعبير عن غضبه)، فيما واصل التضخم ضغطه على الأسر رغم تراجعه إلى 3,5 في المائة سنة 2025، ما جعل الاستقرار الاقتصادي مجرد توازن هش لا ينعكس على الواقع.
وتكشف المقاربة التي تعتمدها الحكومة اليوم في تدبير المالية العمومية محدودية الرؤية وغياب الجرأة في إعادة توزيع الموارد نحو القطاعات المنتجة والمجالات الأكثر هشاشة. فبدل تحويل فائض الدين إلى استثمار اجتماعي، تستمر الميزانية في تدوير نفس أولويات الإنفاق، مما يعمق العجز في الخدمات الأساسية ويضعف ثقة المواطنين في جدوى السياسات العمومية. ولعل الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها عدة مدن مغربية جاءت لتؤكد فشل هذه السياسة في تحقيق التوازن بين الأرقام والإنسان، بين صرامة الحسابات ومتطلبات الكرامة الاجتماعية.
لقد كان بإمكان الحكومة أن تجعل من الظرف الدولي المواتي وانخفاض أسعار الطاقة طوال 2025 فرصة لتوسيع هوامش الاستثمار الاجتماعي وتحسين أوضاع الفئات المتوسطة والهشة، لكنها اختارت الحفاظ على أمان مالي هش ولو على حساب الأمن الاجتماعي. لذلك فالأرقام التي يتحدث عنها رئيس الحكومة (توفير 300 مليار درهم من المداخيل الضريبية) لم يكن لها أثر لها على حياة المواطنين و لم تترجم إلى تحسين في المؤشرات الاجتماعية.
ويبدو واضحا أن الرهان لم يعد في التحكم في المؤشرات، بل في استعادة البعد الاجتماعي للسياسات المالية. فالمجتمع الذي يعاني من ضعف المدرسة العمومية وازدحام المستشفيات وتراجع فرص الشغل لا يمكن أن يقتنع بخطاب الأرقام مهما بدا متناسقًا. إن الحكومة مطالبة، في مشروع قانون المالية 2026، بإحداث قطيعة مع هذا النهج التكنوقراطي الذي اختزل الإصلاح في التوازنات، وإطلاق رؤية مالية جديدة تجعل من الاستثمار الاجتماعي محركا للنمو وليس عبئا عليه.
خروج الشباب إلى الشارع يلزم الحكومة بعرض مشروع قانون المالية لسنة 2026 مغاير تماما لما سبق، حيث بات من المفروض أن يكون أكثر من مجرد تمرين محاسباتي مكرور، وأن يتحول إلى ميزانية إنقاذ ما يمكن إنقاذه: إنقاذ الثقة المتآكلة في جدوى السياسات العمومية، وإنقاذ ما تبقى من الطبقة الوسطى التي تتآكل بين الغلاء والضرائب، وإنقاذ المدرسة والمستشفى من مزيد من التراجع. فالمغرب لا يحتاج اليوم إلى “تجربة غير مسبوقة” في الخطاب، بل إلى تجربة “غير مسبوقة” في التنزيل. فالاستقرار الماكرو اقتصادي لا قيمة له بتاتا إذا ظل معزولا عن الاستقرار الاجتماعي، صمام الأمان الذي طالما شكل “الاستثناء المغربي” .


الكاتب : عماد عادل

  

بتاريخ : 07/10/2025