في الأسئلة الكبرى لتكنولوجيا الإعلام

“«تعرض معظم الأفراد لمحتوى وسائل الإعلام بأشكال مختلفة على نطاق شبه عالمي يؤثر بنحو خفي في جزء كبير من الأفعال الاجتماعية والمعتقدات ويقيدها» ـ روجر سيلفرستون ـ
من أخطر الاستشعاراتSENSORS التكنولوجية الرقمية الحديثة، أن تدخل الوسائط مجالات استخدام الابتكارات في تداول وتخزين وإنتاج المحتوى.
وتغطي هذه الاستشعارات كل مناحي الإعلام الرقمي، من وسائط وخدمات معلوماتية،وليس أقلهامجموعة الأدوات والمنصات الرقمية، بما فيها الأنظمة التي تتيح إنشاء الوسائط وتوزيعها واستهلاكها في عالم اليوم.
تصنف الإحداثيات الجديدة منظومة المعارف تلك، في عديد من التكنولوجيات البحتة، منها ما يرتبط بالتقنيات التقليدية والميكانيكية وخدمات تكنولوجيا المعلومات، والتكنولوجيا النظيفة/الخضراء ، كما هو الحال بالنسبة لتكنولوجيا صناعة الخدمات المالية والحيوية والألعاب وغيرها. وتفرض تكنولوجيا الوسائط نفسها كجسر فاعل ومؤثر، باعتبارها مرهونة بنشرالمحتوى وتخزينه وإنتاجه مسبقا.
ومع أن الجدل أحيانا يستعر، حول ماهية نظام «تكنولوجيا الإعلام» ، وتعالقاته بإزاء «الوسائط الجديدة» أو «الرقمية»، مما يزجيبتعقيدات تطرح المزيد من علامات الاستفهام حول استهلاك الوسائط وتفاعلاتها البنيوية، فإن تنظيم هذه العلاقة الصعبة، قد أحدثت تحولاً في عمق قابلياتنا للتسوق واستهلاكنا للمنتوج، مما أدى إلى خلق مناطق شكية وتحديات جديدة، خصوصا مع التسارع المستمر للتكنولوجيا، وارتباط ذلك براهن تصييرها عنصرًا حاسمًا في صناعة الوسائط، حيث تقدم حلولاً متقدمة لتحسين الكفاءة وتعزيز تجربة المستخدمين.
تشير تكنولوجيا الوسائط الجديدة إلى أحدث الأدوات والمنصات الرقمية الناشئة المستخدمة في إنشاء محتوى الوسائط وتوزيعه. وهو يشمل مجموعة واسعة من التكنولوجيا التي تتيح توصيل الوسائط من خلال القنوات والوسائط والمنصات الرقمية. والتي تشملالخدمات المتصلة بالبث، باعتبارها ثورةمحررة في طريقة التفاعل،والتي نستهلك بها الوسائط. وعلى هذا الأساس، تستخدم هذه الأنظمة الأساسية تقنية الوسائط لتوصيل محتوى الفيديو المباشر مثلا، إلى المستخدمين عبر الإنترنت. ومن خلال تدفق الوسائط، يمكن للمستخدمين الوصول إلى مكتبة واسعة من المحتوى في أي وقت وفي أي مكان، باستخدام هواتفهم الذكية والأجهزة اللوحية وأجهزة التلفزيون الذكية.
كما أن تكنولوجيا الوسائط تعمل على تمكين منشئي المحتوى وشركات الإعلام والمستهلكين من خلال أدوات ومنصات مبتكرة لإنشاء المحتوى وتوزيعه وتجربته بطرق جديدة.
ومن خلال الاستفادة من قدرات تكنولوجيا الوسائط، يمكن للمؤسسات ذات الشأن البقاء في طليعة المشهد الرقمي المتطور، والتكيف مع سلوك المستهلك المتغير لضمان بقائها ذات صلة ومتاحة لجمهور واسع.

الوسيلة والرسالة:
اللاتماهي يولد التناقض

يذهب الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان، إلى الاعتقاد أن «الوسيلة هي الرسالة»، وأن التماهي بينهما يولد رؤية اتصالية محددة الأبعاد والنتائج، بيد أن تفرقهما وانقسامهما، يردي حصيلة تناقضهما.
هذا البعد الإطاري المحدد لعلاقة الوسيلة بالرسالة، يضبط بالتحديد قدرتنا على فهم المجال الرقمي، وردود الفعل والتفاعل، وما يحدد ويميز الطفرة الكامنة فيه، ومن خلال رؤية ردود الفعل يمكننا استخلاص استنتاجات مباشرة وفق منظوره ومتغيراته.
ومثلما يتغير الإعلام، ويعيد اختراع نفسه لجذب الجمهور، فإن زمن هيمنته يتغير أيضا. ويأتي سياق هذا التفكير في الصيرورة التي تكبح سير قطار الرقمية وتقاطعها مع منجز التأويل التكنولوجي وتشاركاته المتعددة. ليس في المجال الاتصالي والإعلامي فحسب، ولكن أيضا، في المجالات الفضائية والحربية والاستخباراتية وغيرها.
لقد غيرت عاداتنا كمستهلكين وكمتلقين للاتصالات في جميع وسائل الإعلام، على جميع مستويات التلقي. لا نتفاعل بنفس الطريقة التي كنا نتفاعل بها قبل خمس أو عشر سنوات على الأكثر، مع أي وسيلة إعلام موجودة، رغم استمرار هذه الوسائل في استنفار خصوصياتنا واستيعاب آثارها. إذ إنها تحولت بأشكال وسياقات متضاربة، على نحو يثير الدهشة والصدمة في آن؟.
وأعتقد أن الحروب العسكرية والسيبرانية، التي أضحت مؤخرا، فضاء للمواجهات التكونولوجية والحضارية والثقافية، أعادت صياغة أسئلة الراهن الإعلامي الرقمي، واستنبتت أرقاما جديدة للهوية الثقافية واللغوية، ومسار الإنسانية.

تحولات قيم
الإعلام الرقمي:

كثيرا ما يصرخ خبراء الاتصال، كون القيم الجديدة التي أضحى الإعلام الرقمي، يبتلع جزءا غامضا منها، أن المتلقين باتوا أكثر إرهاقا في تلقف الوصفات القديمة، رغم شكلانيةالنموذج . بيد أن تكرره على صور وواجهات في الماركوتينج العصري المتحول، يكرس بعضا من التحاذق والاستحواذ المقنع، ويفرز بالتالي قدرة عجيبة على الاستمرار والتجذر.
تحولات تلك القيم، أقصمت نوعية الطموح إلى الحصول على رؤية مختلفة ومتكاملة حقًا للتواصل، ففي صرعات آخر معاقل التكنولوجيات الرقمية، يصير الحدث غيمة فوق الأكتاف، وتنحصر الفعالية في تلقي الأخبار بمجرد انقشاع الغيمة وتحورها إلى أشتات وأنقاض رذاذ. ما يعني بروز أسئلة مختلفة تماما عما تبنيه القيم إياها، من عدم حصر العالم بين رقمي وغير رقمي، لأننا بالتأكيد سنستخلص استنتاجات خاطئة عند تقييم ما تم، وليس فقط عند التخطيط له وتنفيذه. عند تطوير تواصل متكامل حقًا، ما يفرض تطوير تقييم برؤية غير منحازة تماما،ومرتقية إلى أبعاد التدبر الأخلاقي للتواصل مع الكائنات الجديدة في إعلام ما بعد الرقمي؟.
والغاية أن حتميةمن كل ذلك،سعي علماء الاجتماع لفهم التغيرات الرقمية، وسياقاتها، وآثارها الاجتماعية والثقافية، بمايشمل المراجعات الإبستيمولوجية،أو مفهوم المجتمع المحلي باعتباره عالمًا اجتماعيًا مليئًا بالمعاني، وبضمور ما تشكله المعاني الكلاسيكية المرتبطوبالمكان والزمان، وكذا المؤشرات المرتبطة بالمشترك الثقافي التضامني والمصالح المتبادلة لجماعة بشرية ما وتكويناتها المذهلة، سيطال التحول باستمرار ما جعله «قوة اجتماعية متكيفة للغاية»، كما سيؤدي لا محالةإلى تفكيك نظرية استرفاد العصر الرقمي، واتساع معانيه وتحويلها وتحسينها، وحمله على أن يكون أكثر تركيبًا وتعقيدًا والتباسًا»*.1
فهل يتغذى هذا النمط من الشعور بالفقد الجسيم لقيم التداول في الإعلام الرقمي، بالاستنكاف الغارق في الفزع والنرجسية السلبية، والتحرر من آثار وتمثلات الوعي بالآخر، بالسحق الصامت لكل ما هو حقيق بالروح والإحساس الشفاف بكل ما هو إبداعي وجوهري؟.

سيكولوجيا الإعلام
: التأثير الأقنومي

هناك مجال تأويلي ناذر يتصل بعلم النفس الإعلامي، باعتباره جزءا متصلا بالبحث في حقل الاتصال والإعلام ، يختص به علماء النفس الإعلاميين، المرتبطين بخدمات الصحة العقلية أو استشاريين أو مطورين رقميين.
يقول الباحث البريطاني باميلا روتليدج، إن علم النفس الإعلامي ينطبق مبدئيا وأساسيا على مجموعة واسعة من الصناعات والمهن التي تنطوي على استخدام أو تطوير الاتصالات وتقنيات المعلومات.
وباعتبار أن علم النفس الإعلامي يشمل الأبحاث والتطبيقات التي تتناول جميع أشكال تقنيات الإعلام، من وسائل تقليدية وجماهيرية، علاوة على التقنيات والتطبيقات الجديدة والناشئة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي. الوسائط الاتصالية، وتصميم الواجهة، والتقنيات التعليمية، وتقنيات الوسائط التفاعلية، والبيئات المدمجة والافتراضية والمختلطة. فإن التركيز على الضرورة المنهجية للسلوك الإعلامي، كحالة سيكولوجية واعية بالزمن والأحداث والتفاعلات الأخرى، يضفي على واجهة المنظومة الإعلامية، نافذة منشأة لتدبير الطرق التي يتأثر بها الناس ويتفاعلون بإزائها و بالوسائط والتكنولوجيا المتعددة.
لاغرو أن راهننا التكنولوجي والاتصالاتي، أضحى يعكس وباستمرارارتباطنا النفسي والذاتي بالوسائط والتكنولوجيا، ونتيجة لذلك، أصبحت دراسة تأثير وسائل الإعلام جزءًا لا يتجزأ من السيكولوجيا. ومع ذلك، فإن طبيعة المجال متعددة التخصصات والتغيرات المستمرة في كيفية تفاعل الناس مع وسائل الإعلام تجعل من الصعب تحديد مجال الدراسة.
ومن المهم أيضا التأكيد على أن علم النفس الإعلامي يستمد بشكل كبير من علم النفس وعلم الاتصالات، ولكنه يتضمن أيضًا أبحاثًا من مجالات أخرى، بما في ذلك علم الاجتماع والدراسات الإعلامية والأنثروبولوجيا.. وغير ذلك.
ويتوزع هذا المجال عبر العديد من التخصصات، حيث لا يعتبر العديد من العلماء أن علم النفس هو مجال اهتمامهم الأساسي للبحث وهو تأثير وسائل الإعلام على الأفراد، بل هو موضوع فرعي ضمن موضوع أكبر من الخبرة.
لكن، دعونا نصوغ إمكانية توجيه هذه المعرفة المستحدثة، وفقا للنصوص القليلة الواردة في المراجع ذات الأهمية، كما هو الحال بالنسبة لتعريف كارين ديل في دليل أكسفورد لعلم النفس الإعلامي، الذي تعتبر فيه علم النفس الإعلامي دراسة علمية للسلوك البشري والأفكار والمشاعر التي يتم تجربتها في سياق استخدام الوسائط وإنشاءها.
وعلى نفس الطريق، يمكن اختزال المقولة، بالذهاب إلى أن ذاك العلم هو بالفعل الجهد المبذول لفهم العلاقة المتطورة باستمرار بين البشر ووسائل الإعلام من منظور نفسي.
هذا السياق، سيحول بين تأويل المعرفة في انتمائها للمنظور الإعلامي، وبين تحديد الفاعلية مع التمظهرات النفسية والذاتية التي يقوم عليها . كما ويتماشى ذلك مع اشتباك الأخلاقي بالمهني، والمعرفي باللامعرفي، ونوع وسياق الفهوم التي يتم عرضها على المنصات والأقنومات التواصلية المفتوحة؟.*2
لنلقي نظرة حول مكامن استحقاق هذا التماثل في استحضار علم النفس الإعلامي، الساعي إلى استكشاف عوالم متعاقبة، ترتبط بتأثيرات وسائل الإعلام على تيمات ومشاهد العنف مثلا، وازدياد نواظم العدوان بعد التفاعل معها، أو تصادم أطراف حول طرق تصحيح مسار علاقة المجتمع بالمرأة، أو المشاكل الأسرية ذات الأولوية في ترميم الخلافات الزوجية، أو العلاقات الجنسية الرضائية، ..إلخ.
إن الموضوع يتعلق بالدرجة الأولى، بمسألة التعلم عبر الإنترنت، حيث يمكن توصيلها بشكل أكثر فعالية وعبر الفئات العمرية المختلفة، والطرق الأكثر مصداقية..
كما أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، مثل كيفية تعديل المنصات لإنشاء صورة أكثر شمولاً للعالم بدلاً من عزلة الأفراد ذوي التفكير المماثل الذي تشجعه وسائل التواصل الاجتماعي حاليًا، وكيف تتأثر العلاقات عندما تتم في الغالب أو فقط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكيفية تقليل التنمر عبر الإنترنت والسلوكيات السلبية الأخرى عبر الإنترنت.
أما مشاركة الجمهور المتفاعل، فهو أكبر مرمى لمعرفة كيفية تأثير الجانب النفسي، مما تفاعلنا معه وبإزائه، حيث سنتمكن من الاستحضار الواعي بوجاهة واعتبار إحساسنا باحترام الذات، وهو ما يلح علينا بتورية السؤال عن كيف ولماذا يجتمع المتناقض الواحد والمتعدد معًا لتشكيل مجتمعات داعمة، رغم أن مسلكيات الإقامة داخل المحتوى غالبا ما ينم عن تناقض واستغلال وجنوح نحو التفاهة.
تلكم، أول العوائق الإبستيمية التي تصيب منظومة «السيكولوجيا» في الإعلام، وتستدعي تعميق التفكير فيه وفي أبعاده وخلفياته. وهو الذي يؤكد أيضا، صعوبة المجال ووظيفة أخصائييهفي البحث عن أشكال التعاطي معه ووفق رموزه وأسراره.

هوامش:
*1ـ كيت اورتون»علم الاجتماع الرقمي: منظورات نقدية» ، عالم المعرفة 484 يوليو 2021/ ص 376
2*_ مايكل هابت، الإعلام في العالم الثالث في نظام الإعلام المقارن، ترجمة: محمد نجيب، ط1 (القاهرة، الدار الدولية للنشر، 1991)


الكاتب : د. مصطفى غلمان

  

بتاريخ : 29/08/2024