يحل في الخميس الثالث من شهر نوفمبر كل سنة اليوم العالمي للفلسفة، ليواصل تذكيرنا بفضائل ومزايا الفكر الفلسفي في الثقافة والمجتمع. وقد أحسنت اليونسكو وهي تقرر سنة 2002، تخصيص يوم عالمي للعناية بالفلسفة ومآثرها في الحاضر والمستقبل، حيث يتم في هذا اليوم تنشيط لقاءات وعروض وحوارات، كما يتم تنظيم ندوات وموائد ومنصات للحوار، تُعْنَى ببعض أسئلة الفلسفة ومفاهيمها، من أجل مزيد من احتضان شعلة العقل والعقلانية في الفكر الإنساني، ومزيد من محاصرة الفكر القطعي والمواقف اليقينية المطلقة. ويتيح لنا استرجاع القضايا الكبرى، التي تمت العناية بها في هذا اليوم، وفي مختلف الفضاءات الفكرية التي أقامت خلال العقدين المنصرمين منصات فكرية بالمناسبة، معرفة الآفاق التي ما زال الفكر الفلسفي يُوَجِّهُ النظر نحوها، من أجل تطوير النظر الفلسفي، وترسيخ قيمه ومفاهيمه ونمط اشتغاله في الفكر المعاصر.
يتساءل البعض أحياناً عن جدوى الفلسفة اليوم، وترتفع أصوات أخرى مُعلنة نهاية الفلسفة في زمن العلم والتكنولوجيا. يغفل الذين يطرحون هذه الأسئلة أن النظر الفلسفي لا يرتبط بزمن معين أو بإشكالات محددة، إنه أحد العناوين الكبرى للخبرة والحكمة البشرية في التاريخ، وأهميته تَكْمُن في قدرته على مواكبة المتغيرات، في النظر والعمل، والحفر في مجاريها وأسسها وأهدافها وفَحْصِ كيفيات نَظَرها والوقوف على مختلف أبعادها. وأن هذا الموقف بالذات، يمنح الفعالية النظرية الفلسفية إمكانية مواصلة بناء تاريخها وأنظمتها الخاصة. ويمكننا أن نضيف إلى ما سبق، أن التساؤلات التي أشرنا إليها، لا تخص الفضاء الثقافي العربي، بحكم أنه اليوم لا يزال في أمسّ الحاجة إلى مزيد من توطين وترسيخ قيم الفلسفة في فكرنا.
يُشكّل اليوم العالمي للفلسفة في الثقافة العربية مناسبة ثمينة، لمزيد من الدفاع عن مكانتها المركزية في برامج التعليم بمختلف مستوياته، بهدف تعميم دروسها في المدارس الثانوية، وفتح شعبها وأقسامها في مختلف المعاهد والجامعات، وذلك لأهمية الآفاق التي يفتحها تدريسها في التكوين النظري العام للطلبة والتلاميذ والباحثين، وأهمية طرق ومناهج النظر التي يسمح بها التكوين الفلسفي، في موضوع كيفيات التعامل مع قضايا الفكر والمجتمع والحياة. فقد رسم تاريخ الفلسفة وما فتئ يرسم في تاريخه، مجموعة من الطرق والأدوات المنهجية المساعدة في عمليات تطوير الثقافة والمجتمع والتاريخ، الأمر الذي سمح للبشر ببناء ما يسعفهم بعملية تجاوز كثير من المعضلات النظرية والتاريخية التي واجهتهم. ومن سقراط إلى دولوز ومروراً بتاريخ حافل بكثير من طرق ومفاهيم النظر الفلسفي، تَمَكَّنَ البشر من ركوب دروب الحرية والعقل، من أجل الانتصار على كثير من عِلَل التاريخ والمجتمع، عِلَل الأفراد والجماعات.. ويواصل النظر الفلسفي المتبلور اليوم، مواجهة كثير من الإشكالات الجديدة الناشئة في مجتمعاتنا وفي ثقافتنا.
إذا كنا نلاحظ اليوم في كثير من المجتمعات العربية، انتعاش خطابات التمذهب العرقي والطائفي، ممّا حوّل بعض مجتمعاتنا إلى بؤر للحروب، وترتّب عن ذلك إدخال العديد من شبابنا في متاهات مخيفة، فإننا نتصوَّر أن الإيمان بأهمية درس الفلسفة في التاريخ والانتصار لقيمها، يُسعفنا بالتعلم من فضائل الانفتاح والحوار وأدوار العقل في التاريخ. كما أن مواجهة سقف العقائد المهيمن اليوم في حاضرنا، يتطلب أن نواصل الجهود والمساعي الرامية إلى استئناف وتوطين القول الفلسفي في ثقافتنا. فلا يُعقل أن تظل عقولنا متشبثة بآليات في الفكر لم تعد ملائمة لمتطلبات الأزمنة الجديدة التي نُعاصرها، دون أن نتمكن من الانخراط الفعَّال في بناء أدواتها في الفهم والعمل، وصناعة أحداثها في التاريخ.
تزداد حاجة الثقافة العربية التي ما زال يهيمن عليها سَقْفٌ في النظر مُعادٍ للعقل والتاريخ، إلى آليات في النظر تساعد على توسيع وتعميم، مساحة النظر الفلسفي في ثقافتنا ومجتمعنا. ومن هنا فإن حاجة الفكر العربي إلى الفلسفة، تعد مسألة لا ينبغي اليوم تقديم أي تنازلات في موضوع الحرص على مواصلة توطينها، وتوسيع مساحات حضورها في مدارسنا وجامعاتنا وفضائنا العام. فلا أحد يجادل اليوم، في ضرورة الاستفادة من مكاسب ومنجزات الفكر النقدي والفكر التاريخي، كما تبلورت في الفلسفة الحديثة وتطورت في منظومات الفلسفات المعاصرة، نقصد بذلك فكر النسبية في المعرفة، وفكر الحداثة ومواثيق وإجراءات العمل الجماعي الإرادية والواعية في السياسة والأخلاق.
يتيح لنا التمرُّس بالمكاسب والدروس التي أشرنا باختزال شديد إلى بعضها، المشاركة في تملُّك المعارف التي نتطلع إليها، وامتحان أدواتها في أساليب النظر والعمل، قصد ملاءمتها مع شروطنا العامة في التاريخ، الأمر الذي يمكننا من مواجهة مختلف صوَّر الفكر الواحد، والرأي الواحد، والعقل الكُلِّي، فَنُعَوِّدُ الأجيال الناشئة، على إدراك أهمية الحوار والتناقض والاختلاف والتسامح، ودور التاريخ في تنويع وتطوير مضمون المبادئ والقيم والعقائد، فتصبح دروس الفلسفة في النهاية، مناسبة لتعويد الذهنيات على مخاصمة التفكير المغلق، ومخاصمة منصات فضاءات تمرير الثقافة المعادية للإنسان وللتاريخ، من أجل فهم أعمق لمختلف قضايا الإنسان في تشابكها وترابطها وتعقّدها.
يمنحنا اليوم العالمي للفلسفة، مناسبة لمواجهة خصومها القدامى والجُدُد، الخصوم الذين يواصلون التشبث بحصون الفكر التقليدي، والخصوم الْجُدُد الذين يتغنّون بفتوحات العلم والتقنية دون عناية بالأسئلة التي تترتَّب عن الثورة التقنية في حياتنا. وتمنحنا الفلسفة اليوم إمكانية فحص ومناقشة الصوّر الجديدة التي تفرزها التقنية في عالمنا. لعلنا نتمكّن من محاصرة البلاهات والأحكام التي يتسع حجم انتشارها في فضاءات التواصل الاجتماعي.
لا نتحدث هنا عن فلسفة بعينها، بل نروم الإشارة إلى أهمية الفاعلية النظرية التي رسمها درس الفلسفة في التاريخ، حيث تتسع وتتنوع مجالات وحدود درسها، ذلك أن حاضر الفلسفة في مجموع تجلياته، مَنَحها وما فتئ يمنحها الطابع الذي أصبحت عليه اليوم، حيث استقرت في حنايا المعارف المختلفة، وتسربت آليات عملها إلى العديد من الخطابات، لتؤسس لعملية إعادة انتشار تُوَاصِلُ من خلالها مُحَايَتَثِها لمختلف خطابات المعرفة وفنونها، حيث تنتعش لغة الفلسفة ومفاهيمها في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما تبتكر لنفسها مفردات ورموز في الفنون والآداب وفي مجال القيم، وكذا في مباحث التقنية ومجتمعات المعرفة، كما تحضر في القانون والسياسة والحرب، وهذا دون الحديث عن حضورها المؤكد في الرواية والشعر وباقي النصوص المفتوحة، سواء كانت مكتوبة بالكلمات أو بالأشكال والأصوات والصُّور.
في الاحتفاء بالفلسفة وقيمها
الكاتب : كمال عبد اللطيف
بتاريخ : 29/11/2024