في الحاجة إلى محمد عابد الجابري

 

تحُلُّ الذّكْرى العاشرة لرحيل المفكر والسّياسيّ والمربّي والمثقّف المتنوّر محمد عابد الجابري، في سياق مشحون بالخوف والرعب، وبمواجهة الإنسان وباء لامرئيا،وفي ظلّ الاعتزال الصّحي الذي يرزح تحت سطوته العالم، الأمر الذي يدعونا إلى العودة إلى فكر هذا الرجل للاغتراف والنهل من معينه الخلّاق والاغتراف من معين فكره الخلّاق،في هذه اللحظة العصيبة والمصيرية، ولفهم الطروحات التي طرحها بخصوص قراءة التراث.
فقراءة منجزه ستزيل عنّا جميعا بعض الغشاوة، عمّا يكتنف الفكر العربي – تجاوزا- من انتكاسة في التفكير وإنتاج الفكر والإبداع ، خصوصا في ظلّ سيادة الفكر الظلامي الذي يتخذ الدّين مطية لأهواء آنية زائلة. فكتابات الجابري تحفل بمنظومة فكرية هدفها الأساس الوعي بالذات أولا، ثم التمكّن الجيّد من استيعاب التراث العربي المدبوغ بالاختلالات والنواقص الناتجة عن سيادة عقلية نقلية ( من النّقْل) لا تأخذ بعين الاعتبار السياقات التاريخية والسياسية والحضارية، وثالثا بتجسير الصلة مع الآخر الذي بدون معرفته لا يمكن أن تكتمل صورة الذات، وبدون إدراك النقيض يستحيل أن يتأسس الفكر الذي يخدم الإنسان.
وأعتقد أن محمد عابد الجابري، رغم الاختلاف معه في بعض الأمور والقضايا، وهذه طبيعة منطقية ومسلّمة طبيعية، قد حاول أن يجتهد في بلورة تصور فكري لا يهادن الموروث،بقدر ما يضيئه بالحفر فيه، واستنباط ما يزخر به من ثراء معرفي وفكري لخدمة الفكر المعاصر، فهاجسُه لم يكن تجاوز المشترك العام الذي يجمع الأمة العربية والإسلامية، وإنما مدارسته بمسلك عقلاني، يطرح الأسئلة المتعلقة ببعض الشوائب العالقة بالدين جرّاء الفهم الخاطئ له، وتحديدا التأويلات التي أعطيت له من لدن فقهاء وحراس التوابيت، مما زاد من إساءة إلى الدين، فحجروا على العقل العربي، من خلال إغلاق باب الاجتهاد ممّا زاد الطين بلّة، أضف إلى هذا الصراعات السياسية والمذهبية التي جعلت الإخوة في الإسلام أعداء، كل هذه المعطيات كانت الدافع الجوهري للجابري للخوض فيها برؤية تختلف اختلافا جذريا عمّا كان مهيمنا في قراءة التراث قراءة منهجية محكمة تنمّ عن حذْقه وعبقريته في المقاربة.
وعليه فإن مشروع الجابري يقوم على أطروحتين أساسيتين، تتعلق الأولى بتعامله مع التراث، الذي يعتبره ماضيا متخلّفا لا يستطيع مسايرة الحاضر واستشراف المستقبل،ممّا يستلزم ضرورة تجاوزه لعدم صلاحيته – كما يعتقد- وعجزه عن الإجابة عن إشكالات معاصرة. ولتخطي هذا التراث من المنطقي والموضوعي نقد العقل العربي لـ»أن الحاجة تدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تدشين عصر تدوين جديد (…) تكون نقطة البداية فيه نقد السلاح (…) نقد العقل العربي» وهذا الموقف يتطلب تحطيم البنية الفقهية المهيمنة، بخلق بنية عقلية تستجيب للحظتها التاريخية وللواقع، وحلحلة النّسق التّقليدي من أجل إبعاده حتى يتم تحقيق استقلالية الذات، ويصبح هذا العقل قادرا على الإسهام في صُنْع التاريخ والحضارة والتأثير فيهما. أما الأطروحة الثانية فتكمن في إشكالية المنهج، من خلال، العمل على اختيار الطريقة، التي بإمكانها قراءة هذا التراث قراءة معاصرة تقود إلى الوعي ببنيته وفهمه الفهم العميق، وقد اتّسم المنهج الذي اتّبعه بالتعدّد في ما يخص الرّوافد المتنوعة، إذ اعتمد على التحليل البنيوي والتاريخي والإيديولوجي في جل كتابته وتحديدا كتبه «تكوينُ العقل العربي» و» بنية العقل العربي» و» العقل السياسي العربي..».
التصور الذي نهجه الجابري، في قراءته للتراث العربي الإسلامي، يكشف عمق الرؤية والخلفيات المعرفية التي تؤطر مشروعه، فهو يدعو إلى الاستقلال الذاتي والابتعاد عن النقد الاستشراقي وإحداث قطيعة إبستمولوجية مع التراث، بُغية تجديده وتثويره تثويرا عقلانيا، لأن قارة التراث العربي الإسلامي ملغومة بالكثير من الإشكالات المرتبطة بفهم الذات والوعي بها والأنساق الفكرية القائمة ،الأمر الذي سيتدعي التّسلّح بالآليات المعرفية والنقدية التي من خلالها، نستطيع الحفر في هذا التراث ،الذي يشكّل نسقا ثقافيا واجتماعيا وحضاريا للعرب، لهذا يستفيد « من العقلانيات الحديثة ويتسلح بمناهج نقدية عصرية (…) فهو يحسن توظيفها بالعمل على تكييفها وإعادة إنتاجها في معرض انشغاله على موضوع بحثه (…) كما أنه ينجح في أَقْلَمَتَهَا وتَعْريبَها على نحْو يُتيح له المساهمة في تحديث اللغة وتجديد الفكر في آن معا، كما ينمّ عن ذلك خطابه». لهذا نجده في كتابه «الخطاب العربي المعاصر» يقول إن» ميدان (ا) واحد(ا) لم تتجه إليه أصابع الاتهام بعد، وبشكل جدّي وصارم هو تلك القوة أو الملكة التي بها يقرأ العربي ويحلم ويفكّر ويحاكم (…) إنّه العقل العربي ذاته» ولعلّ تركيزه على نقد العقل العربي مرجعه إلى قدرة هذا العقل – شريطة تحرّره من الرؤية الفقهية المتحكّمة فيه، والتي تحقّق نهضته – على اقتحام المناطق الأكثر التباسا.
ويشير الجابري إلى العوائق التي تعيق نهضة العقل المتجلّية في ارتباطه بالسلف كيقين لا تطاله الشّكوك، والاعتماد على القياس الفقهي كآلية لفهم الواقع، ثم جعل الممكنات الذهنية كمعطى واقعي، وعدم الإلمام بتحوّلات الواقع وإبدالاته، والتقوقع والانكفاء حول الذات. وللخروج من هذا الوضع يحلّل الجابري بنية العقل العربي عبْر تفكيك المكونات والبنى الثقافية والمعرفية واللغوية؛ متوقفا عند أهم الإشكالات ذات الصلة بتاريخ الفكر العربي الموسوم بإبعاد العقل وإقصائه؛ كآلية للإنتاج النظري أي الأداة المنتجة والمبتكرة للأفكار؛ و تغليب النّقل كأداة لتكريس ثقافة التوابيت، متوقّفا عند مرحلة التّدوين وعَارِجاً على دراسة العقل السياسي والأخلاقي، ليتوصّل إلى كون العقل العربي بَاتَ ولايزال مُبتعدا عن تداول القضايا الحضارية الكبرى، إنه عقل خارج التاريخ، وقد أطلق عليه الجابري صفة «العقل المستقيل» أي العقل المستكين إلى تراث موصوف بكونه «عنوانا على حضور الأب في الإبن، السلف في الخلف، الماضي في الحاضر». وعليه فإن العقل العربي، لدى الجابري، سليل العقل الفقهي، أي أن الثقافة الفقهية المؤمنة بالقارّ والكافرة بالمتغيّر، هي التي شكّلت العقل العربي، وفي هذا السياق يستعير الجابري من أندري لالاند العقل المكوِّن الناهض المبتكر والقادر على إخراج العرب من هذه المحنة الوجودية والحضارية، في مقابل العقل المكوَّن ذي البعد الجماعي.
وتبقى اجتهادات محمد عابد الجابري ذات أفق فكري – جوهره المعرفة الإنسانية – يعتمد على رؤية عقلانية تعتبرها النبع المتدفّق المتحوّل، والسبيل الأنجع لمناوشة التراث ومقاربته مقاربة بعيدة كل البُعد عن أيّة شوفينية ضيّقة وغارقة في التصور الواحد المتزمّت. لكن لابد من الإشارة إلى أن محمد عابد الجابري قد جاء بمشروع حداثي متنوّر، أصْلُه فلسفة الأنوار والإشراقات المضيئة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، مشروع يقوم على إيلاء الأولوية للعقل المُفسّر والفاهم، المُحلّل والمُفكّك، والمؤوّل وفق شرط الموضوعية، مادامت -حسب قوله- « الأفكار تسافر، تنام وتستيقظ! والمهم في تاريخ الفكر ليس الفكرة في ذاتها، بل الدور الذي تقوم به في النظام الفكري العام في وقت معيّن. أما الفكرة التي تبقى يتيمة معزولة عاقرا فهي لاتدخل التاريخ. « فهذا المقول تعبير عن الأفق الفكري الرحب الذي يتحلّى به الجابري، وإبراز للإطار المعرفي المؤسَّس على الفكر الحداثي المُنتصر للعقل دون سواه، العقل المنتج للفكر، والفكر المُؤثّر في الفكر الإنساني، وفي بنية المجتمع، لكونه نتاجاً متحرّراً من قيود عبدة التوابيت، ومن إسقاطاتهم المجانبة للواقع و للعلمية والمنطق، والتي تسعى إلى تكريس عقلية الاستنساخ بدل عقلية الابتكار والاختراع والإنتاج، فكرا ينخرط في ثقافة حداثية، ويعمل على غرْس بذورها في تربة المجتمع، ويسهم في تشكيل الوعْي بالذات والتاريخ والآخر، ومن ثمّ خدمة الإنسان، وذلك بعد الاستيعاب العميق للتراث العربي الإسلامي.
أعتقد أن الجابري بمنجزه هذا يدعونا إلى ضرورة الإيمان بهذا الفضاء المتعدّد -كما قال بول. ب. أرمسترونغ – فضاء سِمَتُه الاختلاف في الرؤى والتصورات، وغاياته تكريس ثقافة ترسّخ التّأويل المُنسجم والمتناسق، والمعتمد على آليات موضوعية في التعبير عن وجهات النظر، وهنا تكمن حيوية الفكر وديناميته التي تعمل على إشاعة ثقافة عقلانية.
إن جدارة الجابري التي اكتسبها، كانت نتيجة الانخراط الفعلي في الحياة السياسية، كمثقف واع بالمسؤوليات الملقاة على كاهله، والمتمثلة في الدفاع عن الحق بتجلياته المختلفة، والوقوف إلى جانب قضايا المجتمع وإضاءة معضلاته المختلفة، وهذا ما عبّر عنه علانية، إما عن طريق المنجز الفكري؛ أو القناة التربوية باعتباره أحد أعمدة الجامعة المغربية، الذين كانت لهم بصمة واضحة على أجيال من الطلبة. و يتميّز مشروعه الفكري بثلاثة أبعاد، الأول يتمثل في البعد الرؤيوي الذي يشكّل عصب الانشغال النقدي، إذ يمتلك رؤية أسعفته على تشخيص الاختلالات والأعطاب التي يعاني منها المجتمع، وعلى القيام بالحفر المعرفي ورحابة الأفق في مقاربة التراث العربي الإسلامي، ثم البعد التغييري الذي يؤمن بالرغبة في تثوير العقل العربي والسعي نحو المغايرة، النّاجمة عن المغامرة التي خاضها الجابري للتداول والنقاش في إشكالات معقّدة، ملتبسة ومحفوفة بالكثير من الغموض،ومغلولة بأصفاد الاتباع. وثالث الأبعاد البعد التعليمي التربوي، إذ تميّز نقده للعقل العربي بتجلياته الأخلاقية والسياسية وأنساق اجتماعية وثقافية متخلفة، بالبساطة والسلاسة في اللغة والطرح والمنهج.وهذا الأمر لا يتحقّق إلا عند النّزر القليل من المفكرين الذين يمتلكون ثقافة عميقة، ودراية بمصائر المجتمعات.لهذا كان محمد عابد الجابري في قلب العملية التنويرية، منافحا عن أفكاره ومشروعه بروية العارف والواعي بالدور الحقيقي للمثقف، الفاعل والمتفاعل مع مجريات التاريخ وتبدلاته، وباذلا جهده بكل ما يملك من عمق المعرفة ورجاحة النقد، بُغية بناء الإنسان العربي، الذي لا يركن إلى الجاهز والسائد في الفكر العربي الإسلامي، وإنّما يخترقه ببدائل تحرّك البِرَك الراكدة في هذا الفكر، تجعله أكثر تأثيرا في الذات والعالم المحيط به، لا كائنا غير فاعل يعيش على هامش التاريخ والحضارة.
إن الدرس الذي ينبغي أن نستخلصه من الجهود الجبارة التي قام بها محمد عابد الجابري يكمن في ضرورة إعادة النظر من جديد في هذا التراث، لمواجهة هذه العودة المحمومة للماضي والارتكان إليه بشكل جنوني يغيب فيه العقل وتحضر العاطفة ، والعمل على قراءة جوهرها، بطرح الأسئلة المخلخلة لهذا الموروث ذي الصبغة الارتكاسية، بتعبير آخر العمل على تبيان العيوب والنواقص التي اعترت قراءات السابقين من الفقهاء ومن المذاهب الفقهية، لكونها اجتهادا بشريا قد تصيب وقد تخطئ ، ولا ينبغي أخذ ما اجتهدوا فيه بطريقة ساذجة، بل لابد من تفكيك تلك الأنساق الفكرية والثقافية علّنا نصِلُ إلى حقيقة الأسباب الكامنة خلف هذا الارتداد الاجتماعي والفكري والحضاري الذي يعيشه العقل العربية ومن تمّ المجتمعات العربية والإسلامية من تقهقر وتخلف على كافة المستويات.
هذا الدرس نحن،في أمس الحاجة إليه، لا لشيء إلا لما تعرفه الممارسة الثقافية والسياسية من ارتكاسات اجتماعية واقتصادية وثقافية، كسّرت أفق انتظار المجتمع المغربي، وزادت من محنة المثقف في ظلّ هيمنة الأصوليات بشتى تجلياته، أصولية ثقافية، سياسية، دينية.نحتاج إلى درس الجابري علّنا نعيد النظر في ما تحقّق من مكتسبات والتي بدأت معالم النكسة فيها والتراجع عنها جلية واضحة بعد عقود من نضالات مناضلين مفكرين مغاربة وعرب كعلال الفاسي وعبد الله إبراهيم ومحمد عزيز الحبابي وعزيز بلال والمهدي المنجرة وعبد الله العروي، وعبد اللطيف اللعبي وعبد الله زريقة وحسين مروة وسمير أمين وغيرها من المنارات الفكرية التي نستضيء بها لكي نضيء عتمة واقع يزداد التباسا وانتكاسة، لبناء مجتمع الحداثة وحمايته من كل ما من شأنه أن يؤدّيه إلى عالم الظلام وثقافة الكهنوت.
خاتمة القول فمحمد عابد الجابري سيبقى علَما من أعلام الثقافة المغربية و العربية الذي أرسى أعمدة الفكر العربي المُتنوّر في العالم العربي هذا من حافّة، ومن حافّة أخرى استطاع تقويض صنمية الفكر التقليدي بمقترح ثقافي أساسه العقل،داعيا، في النهاية، إلى بداية عصر تدوين جديد، لإعادة النظر في هذا التراث، وهذه مسؤولية الأجيال القادمة.

 

 


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 08/05/2020