في الحديث عن كتـابــة السير


كل كتابة عن الذات هي في بعض جوانبها تعبير عميق عن ما يخالج النفس من أشجان ولواعج، ومن حيث هي كذلك تعبير مرئي يحمل تفاصيل تربط الخاص بالعام فتحيل على المخيال الجمعي واستعادة المشترك، وتحقق تواصلا وجدانيا بين أشخاص أو مجموعات تختلف هواجسهم ودرجة تفاعلهم وتأثرهم . غير أن وقعها يختلف حين تكون تلقائية مفعمة بالبساطة، وحين تكون غير ذلك مثقلة بالإحالات التي تخفي حقيقة أو تتجنبها، الإفصاح عن مكنون وتضمر حقائق.
وإجمالا في كتابة المذكرات الشخصية أو السير الذاتية ، كثيرا ما يعتمد أصحابها في كتابتها إلى بسط ما يرونه ضروريا لتلميع مسار تجربتهم ويكسبهم تفاعلا إيجابيا مع معاناتهم أو نجاحاتهم، دون عرض ملاح الواقع المجتمعي العام الذي شكل إطارا حيويا لمسار إنساني، في سياق تحقيق نوعا من التفاعل مع مكونات هذا الواقع بالتأثير أو التأثر بمجرياته . ففي كتابات سير متعددة ركز أصحابها على محيطهم الضيق وأجوائهم الخاصة. وعلى العكس من ذلك ما نستشفه من معطيات ترتبط بالواقع العامل وتطوراته المدنية والسياسية، في نوع من السير التي تعرض ما عرفته الذات الساردة من تفاعل مع واقع عام، مرتبط بتحولات اجتماعية وسياسية تخص جماعة أو مجموعة من الفاعلين السياسيين والمدنيين.

في مذكرات الأستاذ محمد فكري « يوميات الزغبي المنحوس» ، يتجاوز الحاكي الذات لتسليط الضوء على المحيط المجتمعي والظروف السياسية التي حكمت العلاقات بين الساكنة ومدبري شؤونها، حيث يقوم السرد على بسط الشرط العام الذي عاشه المجتمع، بكل مكوناته المجتمعية المادية والبشرية، فيضعنا النص أمام فضاءات وأجواء حياتية تشكل خلفية لمجموعات بشرية، في سياق حفاظها على وجودها وحماية ممتلكاتها والدفاع عن مجال عيشها. هكذا كانت فاتحة السيرة توصيفا دقيقا للقرية التي ولد فيها السارد، فقرة مكتملة تبسط معالم مكان، ترسم موقعه وتحيل على تاريخه وطبيعة الروابط التي تحصر خصوصياته، وتميز مجموعة بشرية بتاريخها الخاص..
«في واحة نخيل تقع في الصحراء، تبعد عن مدينة أكادير بمسافة 260 كيلومترا، عبر الطريق المؤدية لمركز فم الحصن، أو فم لحسن، كما يطلق عليه العامة، واسمه بالشلحة ( ايمي اوكادير)، وأكادير هو الجدار أو الحصن. هذه الواحة الصغيرة ، تسمى أيت أبلي ، قريبة من مركز أقا، تبعد عن مدينة طاطا بمسافة 100 كيلومتر.»
هذا الحرص على توصيف المكان الذي ولد فيه يبرز منذ البداية دوافع الكتابة ومراميه ، فالغاية ليس إبراز الذات أو بسط معالم مسار خاص، ما عاشه محمد فكري كمناضل جايل أفواجا من المناضلين السياسيين بمختلف توجهاتهم وتعدد إطاراتهم السياسية، بل كان ذلك مدخلا لتحديد مسار الحكي ونوعية تركيبة فقراته. فمن التحديد الجغرافي ينتقل إلى التركيبة الاجتماعية ونوعية العلاقات التي تربط أفراد القبيلة وطبيعة التساكن مع المحيط القبلي، وصولا إلى مقاومة الأجنبي والوقوف في وجه سطوته، وتحدي حجم قواته وإمكانياته العسكرية .
« الزغبي المنحوس، وهو لايزال طفلا صغيرا، كان يسمع من جده الذي كان شيخ القبيلة وزعيمها، بعضا مما جرى قبل وصول الجيش الفرنسي لأقا ، ومن ثم بسط سيطرته على الطريق المؤدية لمدينة تندوف . فقد كانت هناك داخل القرية ومع القرى المجاورة لها، حرب زعامات وتصفية حسابات فردية وجماعية، تكون فيها الغلبة للأقوى مالا وجاها.» هي معطيات تاريخية بخلفياتها السياسية وتحولاتها المجتمعية، يبسط من خلالها ظروف المقاومة في المنطقة التي ولد فيها، قبل أن ينتقل إلى بلاد زعير بضواحي مدينة الرباط، حيث ترعرع وشب على ثنائية السؤال بين العيش تحت قهر الاحتلال وبطش الاستعمار، والبحث عن فضاء أرحب لمواصلة تعميق معارفه وتطوير إمكانياته التعلمية. وهي الرحلة التي ستقوده فصولها إلى مدينة مراكش، حيث سيفتح صفحة الحديث عن الحياة الحزبية، وتاريخ التشكيلات السياسية وموقعه فيها إلى جانب أعلام العمل الوطني والنضال الاجتماعي من أمثال عبد الله ابراهيم، محمد الحبيب الفرقاني والشهيد المهدي بنبركة. يتحدث عن هذه الحقبة ويتناول بالتفصيل الدقيق أعمال بعض المناضلين البارزين ومستوى عطاءاتهم وسمو تضحياتهم . في كل ذلك لا يتحدث عن نفسه إلا من زاوية الرفقة وموقعه كشاهد واكب كل التطورات التي عرفتها الحركة السياسية المغربية المعاصرة، منذ مرحلة المقاومة وأبرز رجالاتها، وصولا إلى دروب الصراع على السلطة وتضارب وجهات النظر في تحديد شكل مواجهة الاستبداد في دولة ما بعد الاستقلال . ويعتبر محمد فكري شاهدا بحضوره المتواصل منذ نعومة أظافره على معرفه الحقل السياسي في بلادنا وما يعرفه من تحولات، وما عرفه اليسار بالخصوص من تقاطبات وانقسامات كان لها الأثر الكبير على قوته وامتداد فعله على مختلف المستويات .
« الزمن الذي هرب فيه الزغبي من منزل والده، تزامن مع الإضراب العام بعد نفي محمد الخامس»… مرحلة يعرض تفاصيلها الأستاذ محمد فكري على أكثر من مستوى، حيث يرصد تحولات البنية الاجتماعية والأنماط الاقتصادية المختلفة القائمة في المنطقة، وكيف تشكلت فئات توافدت عناصرها من مناطق متعددة من جنوب البلاد ، حاملة لهجاتها وتقاليدها الخاصة، مع عرض وظائفها ومسار توطد علاقاتها وكذا تطور وعيها بضرورة وضع حد للوجود الاستعماري، واستعادة السيادة الوطنية وحماية الوحدة الترابية . هروبه المستمر من شروط الإقامة في بيت أسرته سيقوده في قمة تطور معارفه إلى مدينة مراكش، وصل إليها وقد اكتسب وعيا سياسيا بواقع التحولات السياسية، التي عرفها المغرب بعد نهاية عهد الحماية وبروز الخلاف بين مختلف الفاعلين السياسين، الذين ساهموا من مواقع متباينة في معركة الاستقلال. في مرحلة من تطور الصراع في صف القوى الوطنية أصبح « الزغبي المنحوس « عضوا فاعلا بعد أن حدد موقعه في الصراع بين إخوة جمعت بينهم ظروف النضال في مرحلة قاسية، تميزت بحدة الخلاف داخل المعسكر الواحد . وفي عرضه لأجواء الصراع وتطوراته وبسطه لمختلف القضايا الخلافية، يتضح موقعه في تركيزه على إبراز مميزات اختياراته، وعناصر دوافعه للانخراط الفعال في تيار شبابي سينقله في سياق فكري وحركي إلى المساهمة في بلورة تنظيمات ذات نزوع يساري يعتقد في فرض قواعد جديدة لضبط العلاقات الاجتماعية، تهدف تغيير ملامح الدولة ومؤسساتها. تجربة ستقود محمد فكري وثلة من رفاقه إلى قضاء فترة من شبابهم وراء القضبان بمدد تراوحت بين خمس سنوات وسبع عشرة سنة.
تلك بعض ملامح النص الذي أراد سعى محمد فكري من خلاله لأن يقرب الأجيال اللاحقة من واقع مجتمعي اختلف في الكثير من ملامحه عما نعيشه اليوم، أكثر من الحديث عن ذاته وتاريخه الخاص وهو الأمر الذي تركه لرفاقه ومن خبروه عن قرب، وظلوا يكنون له كل التقدير والاحترام لما لمسوه في سلوكه من استقامة ونبل وتفان في العمل ونكران الذات، خصال اجتمعت فيه وتفرقت في غيره، وهو ما جعل الأستاذ إبراهيم موطى رفيق دربه يغير عنوان السيرة ويعتبره «الزغبي المبروك»، فإن عاشره زمنا طويلا لم يكن يعرف الكثير من تفاصيل حياته إلا بعد ان قرأ مذكراته. فيقول عنه في المقدمة المرفقة بالسيرة، أن من « صفاته حفظ الأمانة والأسرار …. لم أذكره يشكو يوما من شيء….كان ماضيه وحاضره ومستقبله هو الوطن والجماهير الشعبية والأمة العربية والقيم الإنسانية : الحرية والكرامة والنضال ضد الظلم التي وسمت شخصيته منذ نعومته في تمرده ضد كل القيود الظالمة، سواء في الأسرة أو في المجتمع»
هكذا اكتشف كل من اطلع على السيرة أن محمد فكري مرجع وخزان الكثير من المعطيات التاريخية والسياسية ، فصمته الدائم لم يكون سوى لحظة استيعاب وتوثيق لكل اللحظات التي عاشها والتجارب التي انخرط فيها ، سجلها في ذاكرته كل تفاصيلها في قوتها وضعفها. فتحية تقدير وإجلال للأستاذ محمد فكري، الذي فسح لنا فرصة استعادة لحظات قوية من تاريخنا المشترك كمواطنين ومناضلين.


بتاريخ : 08/12/2021