في الذكرى الثالثة عشرة لرحيله: جوانب ملهمة من حياة محمد رويشة وسر خلود أغانيه وتحولها إلى ظاهرة فنية

“لقد اختارتني آلة الوتار “بوتكزوين” وأنا اخترتها… ومازلت أبحث عن الخلود (…) أي وطن بتاريخه وتراثه وبثقافته هي ديبلوماسيته” محمد رويشة
“لا أعتقد أن هناك ظواهر تتكرر، لكن بالفعل ثمة أسباب متشابهة من حيث التأثير، وقد تأتي بنتائج متشابهة، ولأن محمد رويشة ظاهرة شديدة التعقيد، لارتباطها عمليا بأوضاع اجتماعية وثقافية وتاريخية، فلا يمكن البتة لهذه الشخصية الفنية أن تتكرر كما هي أي بحذافيرها إن صح هذا التوصيف، ولا أخفيكم سرا فمحمد رويشة كان عاصيا على أن يكون منسوخا أو مقلدا”، على حد ما عبر عنه الأستاذ والإعلامي الحسين برحو، في شهادة له عن فقيد الأغنية الزيانية الأطلسية الفنان محمد رويشة.
هل يمكن أن نتصور حديثا عن الأغنية الأمازيغية عموما، والسائدة بالأطلس المتوسط على وجه التحديد، دون إثارة الحديث عن الفنان الأمازيغي المشهور محمد رويشة أو محاولة تجاوز ذلك؟، ولنفترض مثلا أن هذا تحقق، فإنني لن أجد حرجا في القول بأن هذا الحديث لن تستقيم أركانه، إن لم أقل بأنه باطل من عدة أوجه، ولعل أبرزها أن هذا الفنان الذي يعد ملك الوتار استطاع أن يجدد الأغنية الأمازيغية بشكل ملموس، حيث اتخذت هذه الأخيرة، منذ بدايته الفنية حلة جديدة، دون الخروج عن قيمها الأصيلة، لكونها المحرك الأساس لها، وهذا ما بينته في ثنايا السطور الموالية، ولا أخفيكم سرا فما جاء فيها، هو محاولة لتسليط الضوء على سيرة هذا الفنان وتأثيره في معالم الأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط، بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة (13 ) على رحيله عنا.
دعونا بداية للتأكيد على أن محمد رويشة فنان عصامي يملك مقومات الإبداع، فهو عبقري ومجتهد معا، لذا حظي اسمه بشهرة لدى القاصي والداني، وبدون مبالغة، فسر ذلك يعود أساسا إلى مستواه العالي في عزفه على آلة الوتار، وقد تحقق ذلك أمام الجمهور، ب”منتجع جنان ألماس” وبشهادة أحد كبار شخصيات الفنية بالأطلس المتوسط، وهو “حمو اليازيد” ) 1927م-1973 م) أحد أعمدة الأغنية الأمازيغية، ولم يحظ محمد رويشة كما هو معلوم بشهادة من مدرسة أو معهد موسيقي، بل كان يكتفي بمراقبة الرواد آلة الوتار في جلساتهم ومناسباتهم الفنية إلى درجة حفظ حركاتهم، وطرقهم المختلفة والمتعددة في العزف، وفي الوقت ذاته كان يستغل استراحة هؤلاء الفنانين العازفين على آلة الوتار ليحضن هذه الأخيرة، والتي من خلالها يطل على عالمه الفني والإبداعي.
فبمدينة خنيفرة، والتي تعد عاصمة قبائل زيان الأمازيغية، والواقعة بين جبال الأطلس المتوسط، ولد الفنان محمد رويشة عام 1950م. وفي هذه المدينة المعروفة تاريخيا بمقاومة المستعمر الفرنسي في بداية القرن العشرين، وفي فضاءاتها ترعرع محمد رويشة، ونخص بالذكر هنا الأحياء القديمة، فقد عاش طفولته في حي قديم، ولم يستطع أن يختار أي مدينة أخرى للاستقرار فيها، وكأنه ينطبق عليه ما يردده” خنيفرة ما نخطاك حتى نموت حداك”، وهذا دليل صريح على عدم قدرته على مغادرة بلدته التي ولد فيها.
وبالمناسبة فهو ابن “الهواري مولاي لحسن بن محمد” و”عائشة بنت مولاي الحنفي البلغيتي”، ورغم يتمه وفقره، إلا أن قوة شخصيته، وقدرته على مواجهة تحديات الحياة، وإبداعه الفني المستمر، أسهم في تحقيق سعادة الملايين من متتبعي فنه وعزفه وأغانيه المعروفة في الساحة الفنية المحلية والعالمية من نوافذ عدة، لذا لا يمكن أن نجد مغاربة من طنجة إلى الگويرة يجهلون اسم هذا الفنان وأغانيه، أو لم يشاهدوا حفلاته على القنوات المغربية.
من الثابت أن درجة موهبة محمد رويشة العالية، أثارت انتباه أمه للاعائشة، فقد كان في داره يأخذ مائدة الطعام، ثم يشرع في ملئها بمسامير مطروقة بشكل عجيب، ويضع عليها الأوتار التي تستخدم في صيد السمك (السبيب)، وبعد ذلك يأخذ من ريش الحمام ريشة ليبدأ العزف بها، وقد استطاع بذلك أن يعزف مزيجا من الأغاني الأمازيغية والشعبية والشرقية والهندية، وكلما أرادت أمه أن تطلب منه أن يطربها بهذا الكوكتيل الرائع، توجه إليه خطابا بشكل مباشر بالأمازيغية، حيث تقول له: ” إِوَا (أروي شا امحمد اينو)”.
وبخصوص حقيقة هذه الكلمة أي (رويشة)، لابد من الإشارة إلى أنها مركبة من كلمتين: فعل “أَرْوِي”، و “شَا”، ف”أَرْويِ” هو فعل أمازيغي، يفيد الأمر، ويعني باللغة العربية امزج، في حين أن “شَا” الأمازيغية، فيراد منها” أي شيء”، فشخصية رويشة إذن شخصية فنية منذ وقت مبكر، ومايؤكد ذلك علاوة على ما تقدم ذكره، تأثره بالأفلام الاستعراضية التي كانت تعرض آنذاك على الحيطان فِي الهواء الطلق، بسبب غياب القاعات السينمائية، وهكذا جذبته الأفلام الهندية، لدرجة أنه كان يفضل الرقص وهو يستمع إلى الأغاني أثناء عرض الأفلام، فهي تجذبه أيما انجذاب، وهكذا تأثر بفيلم “أمنا الأرض”، وهو أول فيلم تمت دبلجته إلى الدارجة المغربية، وفيلم “صداقة” عنوانه الأصلي الذي اشتهر به” دوستي” الذي عرض عام 1970م بالمغرب، وكذلك أفلام “شامي كابور” و”أميتاب باشان” و”شاروخان”. فعلا أمر غريب، فقد كان قصد محمد رويشة من كل ما سلف ذكره، تحقيق نوع من المؤانسة، سعيا لمواجهة الوحدة والتعاسة… وهكذا اعتاد أن “يدندن” أجمل أغانيه، وقد ظلت أصابعه تتراقص في الهواء، وكأنها تنادي الأوتار، وذات مرة في القسم، بقي يدندن بصوته؛ وينقر الطاولة بأصابعه، لكن معلمه الذي رفض هذا السلوك لم يرحمه، فقرر إلحاق العقاب به، وكان جزاؤه الضرب المبرح حتى لا يكرر هذا السلوك، وقد كان هذا الحدث، في الحقيقة فصل آخر من فصول قتل ما تبقى له من بذور الأمل، وعلى إثر ذلك، اتخذ قرار بمغادرة المدرسة بشكل نهائي، لكن العناية الربانية، ستفتح أمامه آفاقا أخرى لم يكن يتوقعها في حياته قط.
صحيح أن الأم للاعائشة كما ذكرت سابقا هي التي اكتشفت موهبة ابنها محمد رويشة في البداية، كما أثارت انتباه الفنان الأمازيغي الكبير “حمو اليازيد” عام 1965م، بمنتجع جنان الماس في خنيفرة، بعدما سلم آلته الوترية له، فتمكن من العزف عليها، وبمجرد ما وقعت بين يديه، عم الصمت المكان كله، وبعد لحظة بدأ يغرد فوق الأغصان، وهكذا بدأت أنامله كخط أجنحة الفراشة الخفيفة، حيث تظهر رشيقة تنبض بألف نغمة و لون إلى درجة الانصهار في الموسيقى الصادرة من هذه الآلة، وفي تلك الأجواء يصغي الفنان “حمو اليازيد” للظاهرة الرويشية، ويهز رأسه، ثم يميل طربا ونشوة، خصوصا عندما كان يؤدي قطعة ” وايمانو علم إوسمون أَوَا ياغولخ لباس”، وهي من إبداع حمو باليازيد، لكن الملاحظ أن محمد رويشة ألبسها حلة جديدة عزفا وأداءً.
في هذا السياق، قال محمد رويشة” ارتعشت وأنا أمامه … شعرت بإحساس غريب، كنت أمام مثلي الأعلى، وبمجرد انطلاق عزفي على الوتار، شعرت وكأن الآلة أصبحت جزءا مني. ولم أشعر كيف تتحرك أناملي عليها، لكني تمكنت من إخراج نغم يختلف كثيراً عن باقي أنغامي التي تناولتها في أمكنة ومناسبات أخرى، لقد عرفت إذن معنى المسؤولية الفنية عندما اعترف لي “حمو اليازيد” أمام كبار شخصيات زيان بموهبتي وقدرتي على الإبداع”.
بعد هذا الحدث، قرر “حمو اليازيد” اعتزال العزف على آلة الوتار ليحتضن آلة الكمان، أي لحظة بزوغ “محمد رويشة”، ف”حمو اليازيد” صراحة توصل بحدسه وخبرته إلى أن رويشة فنان أو ظاهرة فنية نادرة، ومن حقه أن يكون مدرسة فنية يرجع تكوينها إليه.
ومهما بلغت قدرة محمد رويشة في العزف والغناء، فإنه لم يجد حرجا للاعتراف بأن المدرسة التي ينتمي إليها هي مدرسة “حمو اليازيد”، لذا قال:” لقد ولدنا من مدرسة واحدة هي مدرسة حمو اليازيد”، وما يدل على هذا الأمر، تأثره ببعض أعماله، لكن الملاحظ أن هذا التأثير لم يستمر، على اعتبار أن رويشة اتخذ مسألة التجديد في الأغنية الأمازيغية غايته العظمى، والمتعلقة بنهجه الفني، لذا عمل على تشييد معالم مدرسته الخاصة والتجديدية معا، هذا دون أن يفقد انتماءه الحقيقي إلى المدرسة التي تخرج فيها، وفي هذا السياق قال الفنان رويشة ” :”كانت غايتي العظمى، إخراج الفنّ الغنائي الأمازيغي من حدوده الضيقة إلى حيّز واسع، ولم أتعلّق بفنّ “حمو اليازيد” إلاّ لمّا أحسست فيه من تطرّق إلى نواحي جديدة في أفق الموسيقى الأصيلة”.
والحق أن الذي اكتشف موهبة محمد رويشة، واستطاع أن يخرجها إلى حيز الوجود الفني الوطني والعالمي في مرحلة أخرى هو “سي محمد شرف العلوي”، وقد عرف بهذا الاسم في الوسط الخنيفري، فقد بدأ حياته المهنية مدرسا، ثم لعبا لكرة القدم ب “نادي سطاد المغرب”، والآن متقاعد في وزارة الداخلية،
وقد حكى العلوي عن قصة اكتشافه لموهبة محمد رويشة بلسانه؛ حيث قال: “إنها لحظة تاريخية قوية عشتها في حياتي عندما رأيته لأول مرة، عام 1963م، ففي حفلة كنت مدعوا لحضورها، فإذا بطفل لم يتجاوز 13 ربيعا، يحيي الحفل، وتشع نظرات الذكاء من عينيه، ينسج سيمفونية بديعة، فما إن تقع أصابعه على الأوتار حتى تتدفق خيوط الإلهام من قلبه، وتصل لأنامله الرشيقة التي تغزل سحرًا، ومن المؤكد أن هذا الطفل يعرف طريقه إلى وجدان الحضور، حقيقة أمتعنا في تلك الليلة، وهو يستحق أكثر من تصفيق، وهو أضعف ما يمكن أن نقدمه له…لقد صفقنا له طويلا”.
وفي حوار أجريته مع “سي محمد شرف العلوي”، قال لي: ” لقد توسمت في محمد رويشة، في تلك الليلة الذكاء وحبه الشديد للموسيقى، ثم إن جمال عزفه وصوته هو الذي جعلني أتمسك به أكثر، آنذاك اتخذت قرار مساعدته بكل ما أوتيت من قوة، لكي يصبح إنسانا مثقفا في المجال الذي أحسست أنه قد أهل نفسه له”.
وبطبيعة الحال، فهذا الأمر، حقيقة أكدها لي محمد رويشة بلسانه حيث قال لي ولغيري في مناسبات عدة “أمي هي أول من اكتشفت موهبتي في وقت مبكّر جدا. وبعدها “سي محمد شرف العلوي” الذي تصرف بصورة سليمة معي، فقد وعدني بالرعاية الفنية الكاملة، التي لا يمكن أن أنال مثلها إلا في أعلى معاهد الموسيقى، فعلا لقد فهم بالفطرة السليمة كيف ينبغي أن يربي موهبتي وشخصيتي”.
فقد طلب “سي محمد شرف العلوي” مرافقة الفنان محمد رويشة إلى مدينة الرباط للتعريف بفنه وعزفه على آلة الوتار للمستمعين المغاربة عبر الإذاعة الوطنية، وقد وافق رويشة على الأمر شريطة قبول أمه “للالة عائشة” التي أبدت موافقتها في الحين، بعدما أحست بالطمأنينة تجاه كلام “سي محمد شرف العلوي”، سيما عندما أبدى لها تحمل مسؤوليته وتبنيه. وبقدر ما كانت رحلته إلى مدينة الرباط مصدر متعة بقدر ما أصبحت مصدر عذاب شديد، مادام قد ترك أمه وحيدة، تكابد مشقة غيابه عنها ووحدتها، وكيفما كان الوضع، فالعناية الربانية هي التي ساقت الأستاذ “سي محمد شرف” لينتشل محمد رويشة من أحضان الإهمال واليتم والضياع، ليرعى موهبته الفذة التي لا تزال نبتة دفينة في صدره، وهل لهذه الحكاية بقية كما يقال؟
أجل، الحكاية لم تنته، ففي زيارة “الحسين برحو” للأستاذ “سي محمد شرف” تعرف إلى محمد رويشة، وفي هذا السياق قال: ” كنت في ضيافة الأستاذ “سي محمد شرف العلوي” بديور جامع بالرباط، في بداية الستينيات من القرن الماضي، وفي بيته تعرفت إلى الفنان محمد رويشة، وحينذاك كان طفلا لم يتجاوز 14 ربيعا، فخاطبته :” تسمعنا شي حاجة؟”، فأمسك محمد رويشة آلته الوترية، وبعد لحظة انحنى رأسه ليصبح قريبا من آلته، وكأنما يتبادلان معا كلمة سر لا نعرفها، ثم رفع رأسه، فانطلق مناجيا أوتارها، في براعة العزف وحسن الإلقاء، وهكذا كنا نصغي إليه، ونميل طربا ونشوة في تردد بين المتعة والسعادة معا.
ولمن يسأل من هو الأستاذ “الحسين برحو”، فهو ابن منطقة (أروگو) بخنيفرة، التحق في عام 1959م بدار الإذاعة الوطنية، بموجب عقد كمنتج ومذيع ومحرر، وفِي عام 1962م، تم اختياره صحفيا ضمن الفريق الصحفي الأول الذي كان يرافق موكب جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في جولاته وأسفاره الرسمية داخل المغرب وخارجه. وفي عام 1964م، تم تعيينه مندوبا جهويا لوزارة الأنباء ومديرا جهويا لإذاعة أگادير، وفِي عام 1977م عين مفتشا عاما للمكتب الوطني المغربي للسياحة، وبعد حصوله على تقاعده، رجع إلى بلدته (أروگو) ليستقر بها، وعموما فقد أسهم عمليا في إغناء الإذاعة الوطنية بالعديد من القطع الغنائية الأمازيغية الأطلسية.
عندما عزم محمد رويشة تسجيل أول أغانيه بدار الإذاعة بالرباط، اختار له الأستاذ “سي محمد شرف العلوي” قطعة موسومة ب”بيبيوسغوي” المفعمة بنكهة خنيفرة فكلفه بتلحينها، وهذا درس في الحقيقة، لاختبار قدراته في التعامل مع النص الغنائي، ولم يتردد محمد رويشة في التعامل مع تلك القطعة، التي اكتسبت حلة ” رويشية” في نهاية المطاف، بشكل لا يخلو من لمسات فنية عالية الإخراج.
لمَّا دخل محمد رويشة دار الإذاعة لتسجيل قطعته، لم يكن أحد يتصور أو يتوقع أنه سيقدم شيئا جديدا، ما عدا أستاذه “سي محمد شرف العلوي” الذي كان متفائلا، فهو يعلم أن طفله المبدع سيقدم مفاجأته الفنية المدهشة، وفي هذا الصدد قال الأستاذ “برحو الحسين” “بدأ محمد رويشة بمعزوفة موسيقية مرتجلة، فساد الصمت داخل “أستوديو6″، كما لم تفارق الدهشة كل الوجوه، أمام طفل يغازل آلته التي بين أحضانه بذكاء، وبذلك وضع قطعة” بيبيوسغوي” في إطارها الصحيح، إن صح هذا التوصيف”. وفي مطلع هذه القطعة، يمكن أن نقف عند ما يلي:
أَبِيبِيوسْغُويْ أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ أيمانو أعوذخاش أنمون ؤرثريـــث
أيمانو أذسيخ ؤلينو أذا سيــخ أدرع
ئيداد أوشيبان سوحوذر غْرْ الهــوى
أَبِيبِيوسْغُويْ أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ أيمانو أعوذخاش أنمون ؤرثريـــث
أيمانو أذسيخ ؤلينو أذا سيــخ أدرع
أوي ثوالفث ثمارث نْسْ ئيمثمي نزيــن
أَبِيبِيوسْغُويْ أي
مانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ أيمانو أعوذخاش أنمون ؤرثريـــث
أيمانو أذسيخ ؤلينو أذا سيـخ أدرع
مباشرة بعد نهاية التسجيل، عاد محمد رويشة إلى منزل “سي محمد شرف “، حاملا معه أحلامه وآماله، وهو ينتظر بفارغ الصبر إذاعة الأغنية عبر أمواج الإذاعة، فراح يتابع عقارب الساعة إلى أن سمع صوت المذيع، يعلن عن ولادة فنان جديد من مدينة خنيفرة اسمه “محمد رويشة”، وهكذا انتشرت قطعة “بيبيوسغوي”، بشكل واسع في كلّ مكان، لكنها ظلت لصيقة ببيئتها الأولى وهي خنيفرة، وهذه القطعة بالذات حسب الأستاذ “برحو الحسين” التقط كلماتها الأستاذ “سي محمد شرف”، من فم مجنون بخنيفرة يدعى “مولاي إدريس احيوض”، وهو يصرخ ويردد كلمة “بيبيوسغوي”، وكأن ما تحقق تنطبق عليه القولة المعروفة: “خذوا الحكمة من أفواه المجانين”، وعلى كل حال، فمحمد رويشة هو أصغر فنان أمازيغي يسجل بدار الإذاعة الوطنية قطعته الأولى عام 1964م، أما أول تسجيل لمحمد رويشة على الأسطوانة من فئة 45 لفة لشركة الإنتاج صوت الغرب، فقد تحقق عام 1972 م.
وجدير بالذكر أن بزوغ الفنان محمد رويشة تليفزيونيا، تحقق في برنامج (الأصيل) بعين الشق في الدار البيضاء، وهو من إعداد الأستاذ “عمر أمرير”، والدكتور “فليب سكاير” – الحاصل على دكتوراه الدولة عن الموسيقى الأمازيغية من جامعة ولاية واشنطن في الولاية المتحدة الأمريكية -، وفي عام 1987م، تم تصوير برنامج مع المخرج المصري شاكر يسري.
صحيح أن قطعة “بيبيوسغوي” حققت نجاحا، وشكلت البداية الحقيقية للتفاعل الجماهيري مع الفن الرويشي، ورغم ذلك فإن الفنان محمد رويشة لم يكن مطمئن البال ومرتاح الضمير، لأنه يعلم أن مشواره الفني يستلزم منه تحقيق الاستمرارية المفعمة بالإبداع والتجديد معا، وهذا سر تألقه. لذا بدأ من حيث توقف المرحوم “حمو اليازيد”، وهكذا كلما مرت الأيام إلا ونضجت تجربته الفنية والإبداعية، لكونه من السلالة الإبداعية التي لن تتكرر. وأيّا كان الأمر، فقد تفتحت عليه عيون المنتجين للأسطوانات آنذاك، وبدؤوا يتسابقون قصد احتضان أعماله الفنية.
وفِي عام 1972م، انطلق في سماء الغناء بأشهر أغانيه مع أسطوانته الأولى من فئة ” 45 لفة” والتي تضمنت أغاني(أهيواوي أوي ليتموم أوول أوناريخ اسومارگ ذيگي شعلاخ العافيث، أممينو أَوَا كرد أذورگان إشعلي وفا ذيـگي) لفائدة شركة “صوت الغرب” بالدار البيضاء – رقم الأسطوانة 1928 MB- وفي مطلع القطعة الأولى نجد :
أهيواوي أوي ليتموم أوول أوناريخ اسومارگ ذيگي شعلاخ العافيث
أيذي يجاران أربي گولمو ناورغــــوري
أهيواوي أوي ليتموم أوول أوناريخ اسومارگ ذيگي شعلاخ العافيث
أريگ أرساويخ أيگونو غريش نـــعاري
أهيواوي أوي ليتموم أوول أوناريخ اسومارگ ذيگي شعلاخ العافيث -أما القطعة الثانية، فنجد في مطلعها:
أممينو أَوَا كرد أذورگان إشعلي وفا ذيـگي
أبوسوال أري عاري اسرمد أعگـــــاذي
أممينو أَوَا كرد أذورگان إشعلي وفا ذيـــگي
إنياس إممينو أَدَّا يديدو اوسمونينو لعارنش أَگَا
أممينو أَوَا كرد أذورگان إشعلي وفا ذيــگي
وبحكم أن الفنان محمد رويشة يتمتع بقدرة فائقة على تسويق نفسه إعلاميا، وقريب من المثقفين والكتاب والشعراء، فقد كان يعرف كيف ينتقي، ويدقق في كلمات الأغنيات التي يتناولها، وهذا ما قاده للاعتماد على أروع كتاب الكلمات والقصائد ك: “أمزيان عبد العزيز” و”حسن كورياط” و”موحى بيبيي” و”عزيز الحسين” و”عز الدين أوخويا” و”بنحسين مصطفى” و”باجي محمد” و “الطاوس عمر” و”المرحوم علي العبوشي”…وغيرهم.
ومن أروع الكلمات التي غناها محمد رويشة عام 1983م، على سبيل المثال: – قطعة “دمعة سخونة جرات على الخد الْيَوْم “، وهي من كلمات الزجال “حسن كورياط (طنان)”، ومما جاء فيها ما يلي: دمعة سخونة جرّات على الخد الْيَوْم
گلبي اتفكر الحومة ؤُلحباب وجفاني النوم
گلتلو صْبْرْ احشومة صاح راني مهموم
رماتني لقدار اليومة فبحر عميق لازم نعوم
خليت لميمة مهمومة ؤُعايش فبلاد الروم
معاشر القوم المسمومة انصرَّف الوعد المحتوم
تساعدوا اسرائيل المعلومة بالغضر ؤُحق العرب مهضوم
فلسيطين تبكي ونتوما يالعرب جاكوم النوم
واش تعيش ديما مهزومة ؤُترضاو بالدل إيدوم
فيقو وحدو لخصومه الظالم إيولي محكوم
يرجع الفلسطيني لبلادو هاني اويجيه النوم
والواقع أن سر نجاح الإبداعات الغنائية لمحمد رويشة لا تعود إلى الكلمات المغناة فحسب، بل إن الألحان التي يضعها لها تجعلها مثيرة، ومدهشة معا، وهو بالمناسبة لا يكتفي بلحن واحد للقطعة، بل يقوم بثلاثة ألحان أو أكثر، ثم يتظاهر في الوقت ذاته بنسيان ما قدم للأغنية الواحدة من الألحان، إلا أنها في الحقيقة تبقى مخزونة في أعماق ذاكرته من بعيد.
لا مبالغة في القول، إن اللحن الذي يضعه محمد رويشة لكل قصيدة هو في الواقع نسيج طويل متصل الخيوط، ويمثل صدى أفكاره ومشاعره التي تغدو ثورة في الرؤيا الموسيقية، سواء تعلق الأمر بالنغم أم الشعر أم الأداء.
فالأغنية الرويشية، أغنية شعبية بامتياز، ولها خصوصيات تنفرد بها، وفي الوقت ذاته، فهي تتجاوز مواصفات الأغنية الشعبية المغربية الصرفة والمعتادة، وعليه فقد أسهمت هذه الأغنية الرويشية بخصائصها المميزة في رفع الذوق المغربي، وبلورته وتطويره. ففي عمقها، يطبعها الالتزام بالقضايا الوطنية والإنسانية الكبيرة، وقد حرص محمد رويشة على خلق نوع من التجانس من خلال ربطها إلى أقصى حد بالروح الشعبية، وهذا ما جعلها أداة للتأكيد على قوة الانتماء للوطن من خلال أبعادها الإنسانية والعاطفية والسياسية، وهكذا كان ظهور محمد رويشة؟
فمحمد رويشة صاحب مدرسة التجديد في الغناء الأمازيغي بعد المرحوم “حمو اليازيد” بل إنه أذكى وأهم تلميذ في مدرسة “حمو اليازيد”. وعلى ضوء ذلك، فتح رويشة الْبَاب لمدرسته، وقد أسفر ذلك عن ظهور كل من: “محمد الخضر”، “ناصري عزيز”، “الكاس عبد النبي”، “جنان حسن”، “أمنصور عبد المجيد”، “العكري مصطفى”،”الكورت عبد الله”، “سلواح”، “نجيم عبد الله”، “ألمو حميد”، “العريم عزيز”، “زرزوقي عبد الرحمان”، “شهبوني مصطفى”، “نورالدين أورحو”، “الگرواني محمد”، “موجان سعيد”، “اشيبان لحسن”، “حميد خمو”،”العتماني نورالدين”،”بلعيد حركات” وهاته الأجيال كلها تربت أو تتلمذت في مدرسة محمد رويشة.
وفي هذه المدرسة غنت العديد من الأصوات، ك: “يامنة عقا”، “فاطمة توسيدانت”، “زينب اوخثار”، “عائشة اولبوحماد”، “يامنة قورو”، “الصفية”، “باخة”، “فطومة تادلاوية”، “حادة وعكي”، “رابحة نجالوق”، “يامنة قورو”، “بنات السفناج”، “الشريفة”، “نعيمة نكودة”، “مونة الكينة”، “حفيظة تيغسالين”، “خدوج تولعنزيت”، “خديجة أطلس”، “الحسنية” …. وكل صوت من هذه الأصوات، كما لا يخفى، له أسلوبه الخاص لحنا وأداء. ولا يفوتنا في هذا السياق، أن نشير إلى أغاني كل من “علي ودا”، “حسن بويقفي”، “محمد اطلحة”، “رحو المساوي”،”مصطفى كريبس”، “مولود أوحموش”، “محمد أمزيان”، ومعظم الأصوات التي سمعتها منطقة الأطلس المتوسط على وجه التحديد في تلك الفترة الغنائية الذهبية.
في تقديري، يمكن اتخاذ القطعتين “ثبرم ساعث” و”همي شاكيني” بمثابة المحطّة التاريخيّة الأولى والحقيقية، والتي تؤكد ميلادا من صنف آخر للفنان “محمد رويشة” في القرن المنصرم، وهي تعكس جذور هذا الموسيقار الضاربة في أعماق التراث الأمازيغي التقليدي؛ ومن سماتهما الطربية اعتمادهما التدرج الطبيعي في الانتقال من مقام إلى آخر، حسب ما تتميز بهما من عقود فرعية، من جهة واعتماد المسافات القريبة واللوازم نفسها من جهة أخرى. وبعدهما بزغت قصائد في منتهى الروعة والجمال، شكّلت في مجملها المرحلة الثانية في إبداعات محمد رويشة، وهنا يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر: “أوسان ايوسان” للأستاذ “عمر الطاوس”، و”ماك بين أمان” للشاعر “محمد باجي”، و”كين ثريث ثيثريت” للأستاذ “العزيز الحسين”، وتعد هذه القصائد الغنائية، الجسر المتين الذي وضعه “محمد رويشة” للانتقال إلى مرحلة أخرى من مراحل تطوير القصيدة الغنائية.
ولا أخفيكم سرا فأغنية “همي شاكيني” صعبة الأداء، وتعد تدريبا مهما للصوت على الغناء والسكك المقامية ومزاوجة المزاجات المختلفة و السيطرة على الأوتار والنفس أثناء الانتقال من وضع العزف الى وضع الغناء، وقد أظهر فيها محمد رويشة والفنانة “خديجة أطلس” خيالا خصبا، وقدوة على التجديد و المعاصرة والأصالة و التفرد. و على كل حال، فقد استطاع الفنان محمد رويشة زرع الكلمات و الألحان و المجد فِي صوت الفنانة خديجة، فظلت المحرك الأساس لتلك الكلمات إلى درجة أنه بات يخاف على كيفية تفاعلها مع الألحان ومقاماتها، وقبل الوقوف عند كلمات هذه القطعة، تجدر الإشارة إلى أنها من كلمات وألحان “موحى بيبي”- شاعر وملحن، ورجل تعليم – وقد كتبها بمدينة أسفي عام 1996م، – رقم الشريط 1251 تشكافون – وإليكم كلمات هذه القطعة:
حتى همي شاكيني شاكي شاكي مني
حتى خدي شاكي عيني شكى من عيوني ودموعي
آش إكول اللي عيا مني
حتى همي شاكيني شاكي شاكي مني
حتى خدي شاكي عيني شكى من عيوني ودموعي
ملي عقلي ضايع مني شكون باقي يستحملني
يعطي ودنو يسمعني ارد بالو يفهمني
لكن شكون شكون باقي يسمعني
شكون باقي يفهمني
حتى همي شاكيني شاكي شاكي مني
حتى خدي شاكي عيني شكى من عيوني ودموعي
ما لقيت احبيب إواسيني إصبرني ويمسح دمعي
إنسيني فالماضي إساعدني تتلم جرحي
لكن شكون شكون باقي يسمعني
شكون باقي يفهمني
حتى همي شاكيني شاكي شاكي مني
حتى خدي شاكي عيني شكى من عيوني ودموعي
بغيت نحقق أحلامي أونمحي آثار اعدابي
تعود البسمة ليامي بالفرحية تزول احزاني
لكن شكون شكون باقي يسمعني
شكون باقي يفهمني
حتى همي شاكيني شاكي شاكي مني
حتى خدي شاكي عيني شكى من عيوني ودموعي
والله السيف ما ركعني كيد الناس اللي قاهرني
الصفا والنية ما نفعوني قلبي حار ما هناني
لكن شكون شكون باقي يسمعني
شكون باقي يفهمني
هزيت كفوفي للعالي هو لمن شاكي ضري
هو قادر يشفيني ويجازي اللي ضالمني
لكن شكون شكون باقي يسمعني
شكون باقي يفهمني
لنرجع قليلا إلى الوراء، لنؤكد مرة أخرى أن محمد رويشة لا يمثّل فقط ظاهرة موسيقيّة استهلكتها الجماهير، بل ظلّت علامة بارزة المعالم، وفارقة في تاريخ الأغنية الأمازيغية، فهي عبارة عن ثورة ثقافيّة وموسيقيّة لصيقة بإبداعاته المتنوعة، والتي يستحيل تجاوزها في الموسيقى والأغنية الأمازيغية إلى حدود الآن. لقد أسهم الفنان محمد رويشة في نقل الأغنية الأمازيغية من النطاق الوطني إلى النطاق العالمي، وغير خاف أن أغنية “إيناس إيناس” من أكثر الأغاني التي نالت إعجاب محبي رويشة سيما في الوقت الراهن، سواء من حيث لحنها أو أبعاد موضوعها، وتفاديا للتيه، فليست هذه الأغنية آخر ما غناه رويشة، بل هي أغنية
“أَذِي ثْخُو ثُوسْرْ مْشْ أُورْمُوثغْ زِيكْ”، وفيها يردد:
أَذِي ثْخُو ثُوسْرْ مْشْ أُورْمُوثغْ زِيكْ نْتا سُولْخْ شَبابْ أَيْذْيِٰيخْ
أَمَاحْنَّانٰو مَاخْفْ تَاسِيخْ أَنْزْگُومْ
أَذِي ثْخُو ثُوسْرْ مْشْ أُورْمُوثغْ زِيكْ نْتا سُولْخْ شَبابْ أَيْذْيِٰيخْ
أَمَاحْنَّانُو إِرَاشْمْ أُوُلِينو إِنَاقْصْ بَابَانُو ذَاثِي
أَذِي ثْخُو ثُوسْرْ مْشْ أُورْمُوثغْ زِيكْ نْتا سُولْخْ شَبابْ أَيْذْيِٰيخْ
أْ ثْزِيلْ ثْمَرَا غَاسْ أوكَانْ أَذُورْ دَّامْ
أَذِي ثْخُو ثُوسْرْ مْشْ أُورْمُوثغْ زِيكْ نْتا سُولْخْ شَبابْ أَيْذْيِٰيخْ
وَرْيخْ أَد إِسِينْخْ أَد الِيخْ إِبضٰو
أَذِي ثْخُو ثُوسْرْ مْشْ أُورْمُوثغْ زِيكْ نْتا سُولْخْ شَبابْ أَيْذْيِٰيخْ
أَيْمَانُو أَوَا عْنْدَاشْ ايْمَانُو أَوَا عْنْدَاشْ
أَوَا دْعِيخَاكْ سٰويْنَا نْشَارْ أَوَا ينْحُوبَا مْ شِيثْتُوثْ
أَيْمَانُو أَوَا عْنْدَاشْ ايْمَانُو أَوَا عْنْدَاشْ
أٰورِگِي طْعَامْ إِحْلاَّلْ إِقْنْ أَذِوْثْ أُونَّا يْخَانْ
هذا، وقد تعدد القضايا التي تناولها رويشة في أغانيه ومن أبرزها:
القضايا الدينية –الأخلاقية: وهذا يتجلى من خلال القصائد التالية : “سيدي رَبِّي جود غيفي”، ا”ديسك ابدوخ امزوارنو أعليم”، “افوس نش أم أورني اوجميل نس اذ اقضو”
القضايا الاجتماعية : كما يلاحظ من خلال قصائد: “ثبرم ساعث ارعب أونا اورموثن”، “غاس اذعفو رَبِّي”. ومنها ما يتعلق بالأم ك ” امحنانو”، “سمحي الوالدة”، ومنها ما يتعلق بقوارب الموت: “حرقة المسافر”
قضايا الغزل والوجدان: كما يبدو في “شاوظبيب اورثوفيخ اوولْ”، “اعماي بضاضنش”، “أمني العهد أمني العزازيث”.
قضايا الحكمة والتأمل: وهذا يتضح من خلال ” أونا يتصودن گوغو”، “دا ثغدرث ادونيث”، “أوسان ايوسان”.
قضايا سياسية ودولية: “فلسطين”، “العراق”، “للبنان: دمعة سخونة”، “الكريم يالعالي”
القضايا الصوفية: من خلال قصيدة التوبة”جمع المومنين”، ومن تلك القضايا أيضا مايتعلق بالاعتقال ك “تهموني وسجنوني”.
صحيح أن ثلاثة عشرة عاما مرت على رحيل ملك الوتار محمد رويشة، الذي أعطى للفن أكثر مما أخذ، وخلد اسمه على نوتة ألحانه، لكن أغانيه مازالت تتردد على لسان محبي فنه، كما تسجل أرقاما قياسية على شبكة الأنترنت. فما أحوجنا إلى فنه الأصيل، والذي لا يخلو من صيغ تجديدية، والتي انطلقت عمليا من أجواء إبداعاته التي لم تفارق في بداياتها أجواء “غار الهداوي” على ضفاف نهر أم الربيع، لذا ظلت إبداعاته صافية، ومن الطبيعي أن تتجه إلى العالمية، لكونها مشحونة بقيم إنسانية ذات صلة بتراثه، وهذا ما صرح به محمد رويشة بقوله “الصلة بين الفنان وتراثه الأصيل يجب أن تتحقق، مثل الحبل الذي يربط بين الجنين وأمه، فعبره يتم نقل الغذاء وأسباب الحياة، ومثلما يخرج الجنين من الأم يخرج الفن الجديد من الفن القديم، لكن عند خروجه تكون لديه نوع من الاستقلالية… وبإمكانه أن يحقق التجديد لتحقيق الاستمرارية والمواكبة لمستجدات الحياة والأذواق…”.
وقد توفي الفنان محمد رويشة يوم الثلاثاء17يناير 2012م، ببيته في مدينة خنيفرة، بعد تدهور فجائي لحالته الصحّية، بعد أن حظي بالرعاية الملكية في محنته هاته. وبمجرد انتشار خبر وفاته عرفت مدينة خنيفرة مشاهد مهيبة، لكونه الابن البار لهذه المدينة، وقد كانت جنازته بمثابة رد الجميل، وكان الحب الممزوج بالحزن عنوانا لهذا الحدث الأليم. وهكذا أغلقت شوارع خنيفرة، في حين أعلنت البيوت الحداد، وارتفعت الصلوات على روحه الطاهرة، وقدم الفنانون من كل ربوع المملكة، بدون آلاتهم الموسيقية، ليعزفوا بقلوبهم لحن الوداع الأخير، مرددين “لا إله إلا الله محمد رويشة حبيب الله” و”هادي ساعة من ساعة الله احضر فيها النبي رسول الله”.
أما صوت البكاء والعويل من السيدات والبنات فكان في الحقيقة هو السائد والأقوى، ولا أخفيكم سرا، فقد نزل الخبر على رؤوسنا كالصاعقة أصابنا الذهول لفترة، وارتفع نشيج حزين، فقد فاجأنا بصلابة فظة كحد السكين، فتلعثمت المشاعر، أخيرا يسقط الملاك من فوق شجرة الحياة مثل ورقة خريف، فعلاقتي برويشة لا يمكن التعبير عنها بكلمات، فقد تعرفت إليه منذ عام 1978م، وكانت علاقتنا وطيدة حتى آخر سهرة ببيته قبل أن يرحل عنا.
لقد نقلت الصحف هذا الخبر الأليم، الذي تصدر كل الصحف، والقنوات التلفزية المغربية، أما تغطية هذا الحدث الأليم فقد كان في غاية الأهمية والبلاغة سواء من حيث الإخراج الذي لم يدع شيئًا إلا ورصده، أو من حيث التعليق الصوتي الذي كان مؤثرا بشكل يثير الذهول، حيث جاء على لسان أحد المعلقين: “محمد رويشة لم يكن فنانا عاديا، بل معجزة يقف بشموخ إلى جوار جبال الأطلس، ونهرا عذبا يضاهي بصوته نهر أم الربيع جمالا ونقاء، أخضع بقوة صوته وحلاوة عزفه القلوب التي صارت أسيرة لفنه”، وبتاريخ 28-02-2012م ، نظمت “جمعية أنازور للثقافة والتنمية والفنون الأمازيغية الرباط” أول قافلة لإحياء ذكرى وفاة المرحوم محمد رويشة بمنزله بخنيفرة.
اسمحوا لي، سأقف هنا للتأكيد بأن هناك فصولا وقضايا أخرى، تتعلق بشخصية الفنان الكبير محمد رويشة، ويمكن إثارتها في مناسبات أخرى، علني أستطيع التعريف بهذه القامة الفنية والإنسانية التي اختارت أن تكون عنوانا بارزا للأغنية المغربية الأمازيغية بالأطلس المتوسط. فاللهم جدد الرحمة عليه، وإلى لقاء آخر.

* باحث في الفن الأمازيغي الأطلسي، صدر له مؤخرا كتاب “محمد رويشة: المرتجل العبقري”


الكاتب : المكي أكنوز (°)

  

بتاريخ : 28/01/2025