بالموازاة مع النضال من أجل ترسيخ الديمقراطية كان النضال الحزبي متواصلا لإثبات وحدة التراب الوطني على المستوى الخارجي. كانت الحركة الحزبية لا تترك فرصة لتوضيح موقف الاتحاد والمغاربة من وحدة الوطن وعودة الصحراء إلا واستغلتها
كان لرد بنجلون وقعه حين فضح المؤامرة الجزائرية وعبر صراحة على أنه لا ينبغي للوفد الجزائري أن يمرر على المؤتمر خطاب البوليساريو بلهجة جزائرية مغلفة. ففضح، بذلك، أطماع الحكام الجزائريين الذين كانوا يبحثون عن منفذ بحري في المحيط الأطلسي عن طريق الصحراء المغربية
مرت الآن 49 سنة على يوم الخميس 18 دجنبر 1975 الذي شهد اغتيال الشهيد عمر بنجلون، ومع ذلك، فقد أثبت الشهيد أنه راهني في مواقفه المبدئية ورؤيته الاستشرافية، حيث لم يتردد في الدفاع عن قضية الصحراء المغربية، رغم التوتر السائد آنذاك، في منتصف السبعينيات، بين الدولة والاتحاد، ولم يضع الشهيد عمر بنجلون هذه القضية في ميزان الصراع أو ضمن معادلة التأزيم. لقد كان واضحا كعادته، ولما جاء الفقيد الكبير عبد الرحيم بوعبيد لزيارته في السجن بالقنيطرة، وكان وقتها معتقلا ضمن من اعتقلوا في ملف أحداث مولاي بوعزة الشهيرة، وسأله عن موقفه من عرض سياسي من طرف الدولة يقوم بموجبه عبد الرحيم برحلة للدفاع عن مغربية الصحراء لم يتردد في الدفع بالإيجاب، بل إن عمر، رحمه لله، واصل نفس الموقف ودافع عنه عند خروجه من السجن، ولهذا كتب الشهيد « لسنا هنا في حاجة إلى التذكير بأننا لبينا نداء الواجب منذ أول وهلة، وبدون تردد، وأننا ساهمنا بآرائنا وبتحركاتنا وبرصيدنا في الداخل والخارج، من أجل استرجاع صحرائنا المحتلة، إيمانا منا بأن القضية هي قضية المغرب كله، قضية الأجيال السالفة واللاحقة، القضية التي يجب أن نتجاوز فيها جميع الاعتبارات والاختلافات المذهبية».
الارتباط الموضوعي بالقضية
هذا الموقف، كان يميز فيه بين الوطني الجامع وبين التدبير الرسمي، بين الأحقية الوطنية الثابتة و»الاجتهاد» الديبلوماسي، لذلك قال الشهيد عمر بنجلون «هذا لايعني أننا سنصفق دوما لموقف الجهاز المسير، ولا لحركات وسكنات الحكومة، إن رأينا في هذه القضية المقدسة، وفي غيرها من القضايا الوطنية الأخرى، رأي واضح، وموقفنا منها موقف جدي لايسمح بأي تهاون مهما كانت أسبابه ومقاصده، ولذلك، فإذا كنا قد جندنا أنفسنا للدفاع عن قضيتنا والمساهمة الجدية في خدمتها بإبداء الرأي وتقديم الاقتراحات، فإننا نرى أنه من حقنا، بل من واجبنا تتبع تطورات القضية بكل انتباه وحذر، وعدم التردد في التنبيه إلى مواطن الضعف، والتشهير بمكامن النقص والتنديد بالمواقف التي يطبعها التردد أو الإهمال».
ومن منطلق الربط الدائم والجدلي الذي ميز فكر عمر بنجلون عن الديموقراطية في معركة التحرير، قال «لأننا لانرى أي تناقض أو تعارض بين التعبئة الفعلية والحقيقية من أجل تحرير الأرض، وبين المطالبة بإرساء أسس الديمقراطية الفعلية والحقيقية في هذه البلاد، بل إننا بالعكس من ذلك، نرى في الديمقراطية الفعلية والحقيقية الوسيلة الوحيدة التي بإمكانها أن تخلق الشروط الذاتية والموضوعية للنضال المرير الذي نحن مطالبون به، النضال من أجل استرجاع أرضنا وتحرير اقتصادنا وسياستنا وتشييد صرح مستقبلنا، تلك هي نظرتنا إلى الأمور، النظرة الشاملة التي يمليها علينا الارتباط الموضوعي القائم بين مختلف قضايانا الوطنية، الارتباط الجدلي الذي لايسمح بعزل الجزء عن الكل، ولا بمعالجة الكل معالجة مجردة وكأنه لا أجزاء له، إنه نفس الموقف الصريح والواضح الذي عبر عنه مؤتمرنا الاستثنائي حينما ربط ربطا جدليا محكما بين التحرير والديمقراطية والاشتراكية».
هذا ما أكده مولاي المهدي العلوي، الديبلوماسي والقيادي الاتحادي السابق، في كتابه «أحداث ومواقف» حين قال: «حديثي عن الراحل بن جلون يجرني إلى ذكر بعض المحطات التي برز فيها دوره مدافعا عن قضايا بلده وأمته وفي طليعتهما قضية الصحراء المغربية. فقد زارني رحمه الله في باريس بالتزامن مع انعقاد جلسات محكمة لاهاي الدولية التي حضرها ضمن الوفد المغربي. وبعد عودته إلى باريس قام باتصال مع قيادة جمعية اتحاد الطلبة المسلمين لشمال افريقيا (AEMNA)، الذي كان يرأسه سابقا، بغرض إلقاء محاضرة بمقره بحضور جمع حاشد من الطلبة المغاربيين من المغرب والجزائر وتونس ومصر وسوريا ولبنان. وكانت المحاضرة رائعة وواضحة المعاني عرض فيها اختيارات الحزب بشكل جلي، وكذلك الموقف من قضية الصحراء منذ جذورها التاريخية إلى حالها الراهن آنذاك. وقد اغتنم عمر وجوده بباريس لتوسيع اتصالاته الدولية، حيث حضرت معه صحبة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي اجتماعا بالجزائر من تنظيم جمعية القانونيين الديمقراطيين (Les Juristes Democtrates). وبالطبع كانت تلك مناسبة للقاء قيادة جبهة التحرير الوطنية الجزائرية (FLN)، إذ ظهر من الحوار الذي أجري معهم أن ثقتهم بالملك الحسن الثاني كانت ضعيفة، وأنهم فوجئوا باتخاذه لقرار المسيرة الخضراء دون علمهم، مع أنهم «كانوا يميلون إلى العمل المشترك بين البلدين لإيجاد حل لقضية الصحراء». وفهمنا من خلال الحديث معهم أنهم على استعداد للتعامل مع ما سمي آنذاك بالبوليساريو بكيفية واضحة على أساس أنها منظمة للتحرير. في هذا الصدد، أكد لنا إخوتنا المغاربة الموجودون بالجزائر، وهم من الشخصيات البارزة في حركة المقاومة المغربية، ومن الحركة الاتحادية، أنهم ليسوا على استعداد لمساندة الجزائريين في مساعيهم والدخول في أي عمل يمس بوحدة المغرب الترابية. لقد كان عمر يعتبر أن قضية الصحراء ينبغي أن تحظى بالأولوية في انشغالات المناضلين. وكانت كل رحلاته إلى الخارج، سواء في اجتماع الحقوقيين العرب بالجزائر العاصمة، أو أثناء زيارتين إلى فرنسا أو عندما سافر في يوليوز 1975 إلى هولندا لمتابعة قضية الصحراء المعروضة آنذاك على أنظار محكمة العدل الدولية بلاهاي… كانت كلها مخصصة لقضية الصحراء المغربية. لقد أبانت تلك التحركات الداعمة لقضية وحدتنا الترابية جدية حزب الاتحاد ورغبته في استئناف العمل مع النظام، بما يلزم من وضوح لإيجاد حلول لكل مشاكلنا الداخلية، إلا أن هذا المسار سيشهد تحولا بعد قبول الحسن الثاني رحمه لله بمبدإ الاستفتاء خلال مؤتمر نيروبي».
من جهته، أكد محمد المرابطين (الملقب بالسيكليس)، في مقال له بعنوان (عمر بن جلون: ربط التحرير بالديمقراطية والالتزام بقضية الوحدة الترابية): «مع طرح إشكالية الصحراء المغربية سنة 1974، وبروز الأطماع التوسعية الجزائرية، وبحثها عن منفذ في المحيط الأطلسي، استدعى المغفور له الحسن الثاني المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، عضو الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، على وجه السرعة إلى القصر الملكي في فاس، قصد فتح مشاورات سياسية بخصوص القضية الوطنية والوحدة الترابية والأطماع الجزائرية التوسعية، وكلفه بمهمة سياسية ديبلوماسية من أجل القيام بحملة لشرح والتعريف بقضية الصحراء المغربية وفضح المؤامرة الجزائرية وأطماعها التوسعية، وكانت المهمة الموكولة له تقتصر أساسا على الصين والهند ويوغسلافيا».
وتابع: «رغم حالة التوتر التي كانت بين النظام والحزب، لوجود مجموعة كبيرة من قادة وقواعد الاتحاد الوطني في المعتقلات آنذاك، وعلى رأسهم عمر بن جلون، محمد اليازغي، مصطفى القرشاوي، أحمد بلقاضي، عبد العزيز بناني، محمد نوبير الأموي، الدكتور عمر الخطابي، مولاي عبد الله المستغفر وعلي المانوزي، وآخرون من مختلف الفروع.. لم يتردد عبد الرحيم بوعبيد في قبول المهمة، دون مساومة بخصوص إطلاق سراح رفاقه وأعضاء الحزب، على اعتبار أن القضية الوطنية أولى الأولويات.
موقف عبد الرحيم والحزب
وبالفعل سافر المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الى الشرق الأقصى وأوربا، ونجح في تبليغ موقف المغرب ووجهة نظره بخصوص قضية الصحراء المغربية، وكذا إقناع قادة هذه الدول بوجهة نظر الحزب، معلنا أن لا مساومة على أي شبر من وحدة المغرب الترابية، إذ قام بدور ريادي في مسلسل المفاوضات والتفسيرات الدولية•
وأضاف المرابطين: «بعد عودته الى أرض الوطن، عرف المغرب انفراجا سياسيا، بالإفراج عن المناضلين المعتقلين قاطبة، وبدأت الاستعدادات لعقد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد. ومع بداية سنة 1975 عقد الاتحاد مؤتمره الاستثنائي، الذي كان محطة تاريخية، حيث ولأول مرة، يتحدد الخط الإيديولوجي للحزب، من خلال مشروع التقرير الإيديولوجي الذي قام بصياغته والتقديم له الشهيد عمر بن جلون، حين كان متواجدا رهن الاعتقال في السجن المدني في القنيطرة».
واستطرد صاحب المقال: «هذا المشروع قدم الى الحزب، وأدخلت عليه لجنة الصياغة مجموعة من التعديلات وتمت ترجمته من الفرنسية الى العربية، وكانت اللجنة ثلاثية، تضم الدكتور محمد عابد الجابري، فتح لله ولعلو، أحمد لحليمي والحبيب المالكي، هذا الأخير كانت له حصة الأسد في ترجمة النص.
وقد ركز التقرير الإيديولوجي على مبدأ التحرير وربطه بالمسألة الديمقراطية والاشتراكية.
ويذكر أن المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مر في أجواء استثنائية، خاصة أنه جاء شهرين بعد الإفراج عن المناضلين المعتقلين.
وفي السنة نفسها التي انعقد فيها المؤتمر الاستثنائي للحزب، سيكون مطروحا عليه النضال على الواجهتين، طبقا للتقرير الإيديولوجي، واجهة التحرير وواجهة الديمقراطية وكانت أول محطة، مؤتمر القارات الثلاث سنة 1975 المنعقد في الاتحاد السوفياتي، وقد حضر الاتحاد الاشتراكي ممثلا للمغرب بوفد يرأسه الشهيد عمر بن جلون وبعضوية لخصاصي وأيت قدور ومحمد الباهي، فيما ضم الوفد الجزائري الذي كان يرأسه البشير بومعزة [قيادي في جبهة التحرير الوطني] عناصر منشقة سميت آنذاك بشرارة ممثلي البوليساريو.
لكن المفاجأة لا تتمثل فقط في حضور عناصر البوليساريو ضمن الوفد الجزائري فقط، بل بإيواء الوفدين الجزائري والمغربي في فندق واحد. وهو ما أثار حفيظة الشهيد عمر بن جلون وطرح إشكالية تنظيمية أولها استحالة أن يستقر الوفد المغربي في الفندق ذاته الذي يضم المنشقين، وثانيا التمثيلية الجزائرية بوفد مختلط، معتبرا إياه غير مؤهل من حيث التمثيلية التنظيمية، لأنه غير مستدعى ولا تضمه لا لائحة المؤتمرين ولا لائحة الملاحظين في مؤتمر القارات الثلاث. وقد كان لهذه الإشارة الذكية للشهيد عمر صدى لدى فعاليات المؤتمر، وبادرت حينها اللجنة التنظيمية للمؤتمر بإبعاد وفد البوليساريو من حضور أطوار المؤتمر لعدم استدعائه رسميا».
وقال المرابطين: «نظرا لتجربته وحنكته التنظيمية والسياسية، طلب الشهيد بنجلون الكلمة مباشرة بعد كلمة وفد الجزائر، والذي حاول التناور لإقناع المؤتمر باستمرار حضور البوليساريو، حيث قال بومعزة، إن المؤتمر تقدمي بكل المواصفات والديمقراطية لا تقتضي إقصاء وفد يريد التعبير عن وجهة نظره. وكان لرد بنجلون وقعه حين فضح المؤامرة الجزائرية وعبر صراحة على أنه لا ينبغي للوفد الجزائري أن يمرر على المؤتمر خطاب البوليساريو بلهجة جزائرية مغلفة. ففضح، بذلك، أطماع الحكام الجزائريين الذين كانوا يبحثون عن منفذ بحري في المحيط الأطلسي عن طريق الصحراء المغربية، بل أكثر من هذا، ولأول مرة، يطرح الشهيد عمر إشكالية الاستغلال المشترك للمنفذ البحري، وتحمل مسؤولية هذا القرار رسميا ومن منصة المؤتمر، وأكد أن البشير بومعزة يصعب عليه، بل لا يمكنه اتخاذ القرار في الحين دون اللجوء إلى المسؤولين في الجزائر، ولن يتخذ قرارا دون أن يمليه عليه رئيسه هواري بومدين. هذه الحنكة السياسية والديبلوماسية للشهيد عمر بن جلون أوقفت الطموح والأطماع السياسية الجزائرية، والتي كانت تراهن على مؤتمر القارات الثلاث لتمرير مواقفها وتثبيت أقدام صنيعتها البوليساريو».
وتابع: «بعد هذا الفشل الذريع، بدأ ممثلو البوليساريو يبحثون بكل السبل عن لقاء عمر بن جلون عبر وساطات عربية، وتم لقاء مع مصطفى الوالي المغربي الأصل وبابا ميسكي الموريتاني الأصل، حيث عبرا عن استغرابهما لموقف عمر بن جلون ومناهضته للوفد المنشق، لكن رد الشهيد عمر كان واضحا وصريحا، حيث أكد على أن النضال الحقيقي- وهنا كان يوجه الكلام لمصطفى الوالي باعتباره مغربيا- اعتبر نفسه ضحية القمع الأوفقيري، يجب أن يكون من الداخل، وأنه كوطني غيور مازال ظهره وجسمه يحمل بصمات سوط الجلادين، وهو الخارج للتو من المعتقل، وأنه لا يمكن أن يتخلى عن شبر واحد من الصحراء.
وبالموازاة مع النضال من أجل ترسيخ الديمقراطية كان النضال الحزبي متواصلا لإثبات وحدة التراب الوطني على المستوى الخارجي. كانت الحركة الحزبية لا تترك فرصة لتوضيح موقف الاتحاد والمغاربة من وحدة الوطن وعودة الصحراء إلا واستغلتها. وهكذا وفي سنة 1975، كانت الفرصة مواتية بتواجد لجنة أممية في أكادير، عقد بالموازاة معها المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اجتماعا استثنائيا للجنة المركزية التي تضم بالإضافة إلى أعضاء اللجنة الادارية ممثلي الفروع الحزبية، خصصت للتضامن مع إخواننا في الصحراء».
مسيرة خاصة إلى الفندق
وقام بمبادرة تاريخية بتنظيم مسيرة في الإطار نفسه، انطلقت من المقر في حي المسيرة إلى الفندق الذي كانت تقيم فيه اللجنة الأممية، وسلمت لهم رسالة احتجاجية تتضمن أيضا موقف الحزب من قضية الوحدة الترابية للمغرب. وقد تأكد الموقف الوحدوي للحزب وعدم تفريطه في الصحراء المغربية من الموقف الذي أصدره عبد الرحيم بوعبيد بعد مؤتمر نيروبي سنة 1981، وهو موقف رافض للاستفتاء، معتبرا أن الوحدة الترابية للمغرب شأن داخلي ووطني، وهو موقف مخالف للموقف الرسمي، أدى ثمنه عبد الرحيم بوعبيد الذي كان في العقد السادس من عمره، حيث تم اعتقاله بمعية محمد اليازغي ومحمد الحبابي ومحمد منصور، ليتم وضعهم في سجن ميسور في نواحي الرشيدية، وأصدرت بحقهم المحكمة الابتدائية بالرباط حكما بسنتين سجنا نافذا، طلب بعدها عبد الرحيم بوعبيد من هيئة الدفاع عدم استئناف الحكم، ولن يتم الإفراج عنهم بعد ذلك إلا بتدخل من رئيس الجمهورية الفرنسية فرانسوا ميتران ورئيس السينغال سنغور والعديد من المثقفين العالميين.