في الذكرى 12 لوفاته: يوم هز الفنان محمد رويشة منصة مسرح محمد الخامس، وحكاية التقائه بالملك الحسن الثاني

بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لوفاة الفنان محمد رويشة رحمه الله ( 1950م- 2012) اخترت لكم قرائي الأعزاء حدثا لا يمكن لأي متتبع للمسار الفني لمحمد رويشة أن يتجاوزه، الأمر يتعلق بالسهرة الفنية التاريخية التي أحياها بمسرح محمد الخامس، عام 1980، والتي كانت بداية حقيقية لشهرته وطنيا و دوليا.
ربما يعود الفضل في إحياء الفنان الأمازيغي الكبير محمد رويشة أول سهرة – خارج إقليمه خنيفرة – بمسرح محمد الخامس، في الفاتح من نونبر عام 1980م، إلى الأستاذ “محمد الوافي” الذي يشغل رئيس جمعية “نادي محبي الأغنية الأمازيغية والتراث الشعبي” المتواجدة بسلا، وبالتحديد بحي تابريك، فهذه الجمعية التي رأت النور عام 1979م تروم خدمة الشأن الثقافي والتراثي الأمازيغي والشعبي منذ حصولها – كباقي الجمعيات الثقافية والفنية آنذاك- على إطارها القانوني الذي يتيح لها تنظيم أنشطتها بكل حرية، وسعيا إلى تحقيق هذا الهدف ضمت الجمعية ثلة من الغيورين على التراث الأمازيغي والشعبي “مثقفون، فنانون، موظفون،…”، وعلى رأسهم الفنان “الحجاوي عبد الواحد”.
حسب “محمد الوافي” – الذي ينحدر من قبيلة أيت حكم بتيداس، إقليم الخميسات – بصفته رئيس الجمعية، فإن السهرة الفنية الكبرى، التي نظمت بمسرح محمد الخامس بالرباط، لم تكن سهلة التنظيم وقتذاك؛ لكن بفضل تضافر جهود أعضائها وتضحياتهم، خرجت للوجود لتكون اللبنة الأولى الحقيقية لانطلاق الإبداع الفني الأمازيغي بالأطلس المتوسط، ثم خروجه من نطاق الجلسات الفنية الخاصة والأعراس، ومن محيطه الإقليمي إلى النطاق الوطني والدولي.
لم يجد “محمد الوافي” حرجا في التأكيد على أن وجود الفنان “الحجاوي عبد الواحد” – ضمن أعضاء الجمعية كفنان – أسهم عمليا في توطيد علاقات الجمعية مع العديد من الفنانين بالأطلس المتوسط، دون أن ينسى أيضا فضل الغيور على التراث الأمازيغي “أوزين أحرضان” الذي سهل لأعضاء الجمعية اللقاء مع أبيه الزعيم السياسي الوطني المرحوم “المحجوبي أحرضان” – الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الدولة في البريد – قصد تجاوز جملة من الصعوبات والتحديات التي تعرقل عملية تنظيم هذا الحدث الفني الكبير بمسرح محمد الخامس.
على أية حال، فهذه الأمسية الفنية الكبرى أحيتها فرق فنية أمازيغية معروفة، ومن أبرزها “مجموعة الفنان الحجاوي عبد الواحد” و”مجموعة إگوجيلن الخميسات” – التي تأسست عام 1974- و”مجموعة رقصات الأطلس” برئاسة الفنان “أمحدوق موقسو” و”وربع حماد نمينة” – سيد فن تماويت من أجلموس خنيفرة- وكان التركيز على رائد الفن الغنائي الأمازيغي المغربي محمد رويشة.
في البداية، عمل على تقديم فقرات السهرة محمد الوافي، رئيس الجمعية المنظمة، وكانت نقطة الانطلاق الحقيقية تتعلق بفن تماوايت، من أداء الفنان الأمازيغي “حماد نمينة” صاحب الصوت الشجي والمثير، و هكذا تمكن من تحقيق التفاعل مع جمهوره، فكان صوته يميل تارة إلى الصعود وتارة أخرى إلى النزول، ومن خلاله استطاع إرضاء أحاسيس المستمعين مما دفعهم إلى إطلاق آهات الإعجاب بشكل يثير الذهول. و”حماد نمينة” حباه الله جمالية في صوته حيث الدفء و الحنان والرقة والقوة وسحر لا يقارن. فصوته يرتقي بالسامع ويسمو به، ومن يسمعه يخيل إليه أنه يحلق في السماء من فرط البهجة التي تتلوها بهجة أخرى وأقوى.
وحتى لا نبتعد عن الحقيقة ف”وربع حماد نمينة” (1930م – 17 يوليوز 1993) شكل ثنائيا رائعا مع الفنانة المرحومة “يامنة نعزيز” المعروفة ب ” توفرسيت” التي أفردت لها مقالا خاصا عن تجربتها الفنية والإبداعية، على صفحات جريدتي “العلم” و”الاتحاد الاشتراكي”، وبعض المواقع الإلكترونية. وعموما ف”حماد نمينة” يذكرنا بالزمن الجميل الذي لا يمكن لذاكرتنا الجمعية إنكاره.
أما الفقرة الفنية الموالية بخشبة مسرح محمد الخامس فقد تزعمها الفنان “الحجاوي عبد الواحد” حيث قام بأداء باقة من أبرز أغانيه التي رددها الجمهور معه، ومنها رائعته “يوفرو اوحمام”، ومما جاء في كلماتها:
يوفرو احمام أورقيم غوري لفوت ذوينو نْكِينْ أوراسگين العش أذيقم ثمانوا
إشوار واس احمامن ذايزرين
أونا غر ميلا شا العش ذاث تيتجبار
يوفرو احمام أورقيم غوري لفوت ذوينو نْكِينْ أوراسگين العش أذيقم ثمانوا
اوول أوغا يتوگار أوغا يتوبدال
ون گثلا ثيري غاس إذ تصبار
يوفرو احمام أورقيم غوري لفوت ذوينو نْكِينْ أوراسگين العش أذيقم ثمانوا
أورسينخ ثيغوربا أريگِ ثزريث
أغولخ سوشحفينو لك اورزوخ
يوفرو احمام أورقيم غوري لفوت ذوينو نْكِينْ أوراسگين العش أذيقم ثمانوا
مك ثيوط اراك يني اوول اكرزوخ
أمازير نك مي تزريث اوسال ابديل
يوفرو احمام أورقيم غوري لفوت ذوينو نْكِينْ أوراسگين العش أذيقم ثمانوا
ليس سهلا أن يسيطر الفنان على قلوب الجمهور بسهولة، لكن بصوته الملائكي تمكن الفنان “الحجاوي عبد الواحد” من تحقيق ذلك، بحكم قدراته المتعددة، الممزوجة بأصالة أرض الأطلس المتوسط، والمبنية في بعض صورها على همس العتاب للمحبين ورقة حنان المحرومين، وعليه أصبح زادا للعاشقين وفخرا للمحبين وعفة للمتزوجين، بعدما تمكن من إشعال حماس الجمهور الذي تفاعل مع فنه بالمزاوجة بين ترديد كلمات أغنيته من جهة، والرقص على إيقاعاتها من جهة أخرى؛ مما جعل خشبة المسرح لصيقة بصدى الموسيقى، وألوان الرقص. وهكذا أسهم الفنان “الحجاوي عبد الواحد” في رسم لوحة فنية متميزة، ستبقى خالدة في وجدان الحضور، سيما في مرحلة تربعه على عرش قلوبهم بأغانيه الأصيلة.
بطبيعة الحال، فوزن السهرة في البداية كان قويا فنيا، لكن الملاحظ أن الجمهور لم يخف انتظاره بفارغ الصبر للفقرة الفنية الخاصة بالفنان محمد رويشة، وما سيقدمه لجمهوره، وقبل ظهوره بدأت عاصفة من التصفيقات الحارة، وهذا الجو حقيقة غير عادي، لكن الأمر اللافت للانتباه أن رويشة يبدو وكأنه في لحظة تهز كيانه لقوة المفاجأة، لذا بدا خجولا، وكأنه مهزوم، وضعيف يستحق الشفقة، وربما يعتقد أن قوة المشهد ستجعله يرتبك، ومن يلمح طأطأة رأسه أمام تصفيقات الجمهور يمكن أن يشفق عليه، ففي هذا الوضع يمكن أن يعتقد بأن رويشة، سيخطو خطوات ربما إلى الوراء قاصدا الانسحاب من قاعة المسرح، حيث أن مقاومة الوضع أصبح مستحيلا.
لكن بمجرد أن يقعد على الكرسي، ويحضن آلته المنسجمة مع وجوده وكيانه، يبدأ عالم الفن الرويشي في التكوين والبناء ثم الإبداع، ويقصد به القدرة على الإتيان بأمر جديد، وهذا فعلا ما كان ينتظره الجمهور، وقد تحقق بمجرد الاستماع إلى عزفه، ومن خلاله ربما لن يصدق أحد بأن أصابعه الطبيعية هي المحرك الأساس للوتار، والمنتجة للأنغام الممزوجة بالبهجة والألحان. وهكذا لم يجد رويشة حرجا ولا رهبة في اختراق تصفيقات الجمهور بكشكول فني متنوع، وفي مقدمته تأتي أغنية ” ماني العهد ماني العزازيث”:
مَنِي العهدْ مَنِي الْعْزَازِيثْ أوْنَٰاخْ إِرَا وُول إِسْ ثُورْ زُّوثْ أَتْدوثْ أَدِي ثْزـرِيثْ أَوْنَّارِيخْ
اونا سيان اوجموع إذيس بذا
مَنِي العهدْ مَنِي الْعْزَازِيثْ أوْنَٰاخْ إِرَا وُول إِسْ ثُورْ زُّوثْ أَتْدوثْ أَدِي ثْزـرِيثْ أَوْنَّارِيخْ
ياس اربي سثر ناس ثيث اوزيو
مَنِي العهدْ مَنِي الْعْزَازِيثْ أوْنَٰاخْ إِرَا وُول إِسْ ثُورْ زُّوثْ أَتْدوثْ أَدِي ثْزـرِيثْ أَوْنَّارِيخْ
يوك اجموع اموا اسي توبدال
مَنِي العهدْ مَنِي الْعْزَازِيثْ أوْنَٰاخْ إِرَا وُول إِسْ ثُورْ زُّوثْ أَتْدوثْ أَدِي ثْزـرِيثْ أَوْنَّارِيخْ
ياربي أذاخ احيو اتنعاوذ ديخ
مَنِي العهدْ مَنِي الْعْزَازِيثْ أوْنَٰاخْ إِرَا وُول إِسْ ثُورْ زُّوثْ أَتْدوثْ أَدِي ثْزـرِيثْ أَوْنَّارِيخْ
ثاغٍ العافيث گيمينو ثاغٍ گوول
مَنِي العهدْ مَنِي الْعْزَازِيثْ أوْنَٰاخْ إِرَا وُول إِسْ ثُورْ زُّوثْ أَتْدوثْ أَدِي ثْزـرِيثْ أَوْنَّارِيخْ
لتاويخ أَمَانْ سي مينو ذا يزوي
مَنِي العهدْ مَنِي الْعْزَازِيثْ أوْنَٰاخْ إِرَا وُول إِسْ ثُورْ زُّوثْ أَتْدوثْ أَدِي ثْزـرِيثْ أَوْنَّارِيخْ
مش ثسافرث أذاك رجاخ اوناريخ
مَنِي العهدْ مَنِي الْعْزَازِيثْ أوْنَٰاخْ إِرَا وُول إِسْ ثُورْ زُّوثْ أَتْدوثْ أَدِي ثْزـرِيثْ أَوْنَّارِيخْ
لحق اسي ثيث ثنقيط گوول
مَنِي العهدْ مَنِي الْعْزَازِيثْ أوْنَٰاخْ إِرَا وُول إِسْ ثُورْ زُّوثْ أَتْدوثْ أَدِي ثْزـرِيثْ أَوْنَّارِيخْ
صحيح أن هذه البداية – لمن يعرف أسرار هذا الاختيار- كانت قوية، لذا من الصعب جدا أن نصف كيف تفاعل معها الجمهور؛ حيث كانت نبرات الإبداع الرويشي تحلق بهم، فتدفعهم عمليا إلى إحداث سكوت يتخطى عنصر الدهشة الممتعة، والطرافة المبهرة إلى نوع من الشعور الصوفي في بعده الروحي . وما كاد أن ينتهي رويشة من عزفه حتى سمع صوتا يقول من بعيد – من الصعب معرفة مصدره بحكم أن الأضواء كانت مسلطة عليه – ” العربية والعربية أرويشة”، وهذا ما جعل رويشة ينظر إلى مصدر الصوت، وبصوته الدافئ قال: مرحبا مرحبا.
استجابة لذلك اختار أغنية ” قل لي علاش نخمم”، وهي من كلمات الزجال الأستاذ “عبد العزيز مزيان”، المولود عام 1958 بخنيفرة، وهو من الشعراء الذين زودوا محمد رويشة في بداية مشواره الفني بقصائده وكلماته، ومن أبرزها ” قل علاش نخمم” – السابقة الذكر- ، ” يالي راك وحداني”، “مالك هكذا الأيام”، “كان مكتوب عليا نصبر”، “كنا خاوا اولخاوا صبحت عداوا”،”هادي ليلة اوديك ليلة”،” واش المحبوب كيلوموه الناس”، “كولو لممتي تجيني”.
كما تعامل الشاعر “مزيان” مع العديد من المغنين بالأطلس المتوسط، كالفنان “محمد الخضر” خنيفرة عام 1981م، ومن كلماته التي غناها: “زين الفعل”، “گولو لحبابي”، “حيرت القلب”. وهناك فنانون آخرون استندوا إلى كلمات مزيان لإخراج إبداعاتهم الغنائية إلى الوجود، وبحكم أن المجال لا يسمح لنا بالتفصيل، أكتفي بما أشرت إليه.
*
لنعد قليلا إلى الوراء لنؤكد أن الفنان محمد رويشة استطاع أن يسافر بجمهوره في عوالم الأغنية الشعبية التي لا تبتعد عن الاستجابة للأذواق الموسيقية الرفيعة، ليرسو مرة أخرى في زاوية فنية عنوانها “قل لي علاش نخمم”، وهي من دون جدال الأغنية التي فجرت موجة من الهتافات.
وهكذا فبمجرد انتقاله إلى المقطع المعروف “وعقلي تايه يحلم”، اهتزت أركان المسرح بالهتافات، فارتفعت الأصوات، وبدأ رفع إسم رويشة، بهذا الشكل: “ارويشة….ارويشة……ارويشة…”، وهكذا استمر الإبداع الموسيقي، وعندما يصل رويشة إلى مقطع ” فكل دقيقة يتألم وقلبي يرفد الهم” يخفض صوته وهو في حالة انكسار عاطفي. فأداؤه وقوة إبداعاته المختلفة يؤكدان بأنه مدرسة تبتكر أساليب تجديدية في خدمة تراثنا و موسيقانا، وقد استطاع أن يخلق لنفسه اتجاها خاصا في الأداء، سواء فِي اختيار الكلمات أو الألحان؛ حيث لم يقلد من سبقوه أو عاصروه. وهذا من الأسرار التي جعلت روائعه تخلق أمامنا تحفا فنية خالدة.
فبأدائه الذكي استطاع أن يطوع أعقد المعاني، و أصعب الكلمات، لتصبح قابلة للغناء والحفظ و الترديد، فألحانه تجد صداها لدى المستمع فور سماعها، قتتفجر منها الرقصات، ومن المؤكد أن صانعيها بالإضافة إلى الرائد محمد رويشة، كل من “حسن الناصري” الملقب “بويقفي”، و”محمد أوطلحة”، و”علي ودا”. وقد جاء التلاحم بين الجميع عميقا، إن صح هذا التوصيف، كما أن الانسجام تحقق بشكل متناسق في كل الأغاني التي لقيت قبولا لدى الجمهور، ومن أبرزها “قولي علاش نخمم”، ” ثِيوِيرْگَا دَثْسْحِيلِّلثْ الرَٰعْبْ أَيْگَا اوْحْبِيبْ إِنْوْ إِدَّ يْتُوييْ”،”كنا خاوا و الخاوا صبحت عداوا”، “علاش الفراق علاش”،” احمام امليل خف أوگاذير”. وقد استطاعوا تشكيل كورال حيّ دون استثناء، مقدمين معه أجمل لوحة حب متبادلة بين فنان وجمهوره، تاركين في ذاكرتهم ليلة استثنائية ستبقى عالقة في ذاكرة كل من حضرها في المسرح.
رغم أن الأمسية الفنية الكبرى أحيتها فرق فنية أمازيغية بقيادة محمد رويشة استمرت ساعات، فقد أصر الجمهور على استمرار إبداعاته الغنائية، ما جعله يرفض المغادرة بهتافاته التلقائية، لكن نهاية السهرة أمر واقع، وهو في الحقيقة مرتبط بعودة رويشة مرة أخرى إلى حالته الطبيعية المألوفة وشخصيته البسيطة.
من الثابت أن هذه السهرة التاريخية جعلت رويشة في قائمة أنجح الفنانين في الأطلس المتوسط، لذا قالت الصحافة في خرجاتها الكثير عما شهده مسرح محمد الخامس، فجريدة “L’opinion ” – الصادرة يوم الإثنين 3 نوفمبر 1980 كتبت في صفحتها الرابعة “أن الفنان الأمازيغي محمد رويشة أحدث قنبلة بمسرح محمد الخامس، حيث سحر العقول برقة غنائه، ونعومة صوته وأنغام أوتاره العذبة”. فيما لقبته “جريدة العالم” – عدد 290 ، الصادر يوم الثلاثاء 11 نوفمبر عام 1980م- فقد ب “فريد الأطلس” بحكم قدرته الفنية على اختراق القلوب والعقول معا، بكلمات أغانيه المتنوعة، الممزوجة بأريج عطر نسماته الأطلسية.
اللافت أن هذه السهرة لم يشهد لها مثيل بمسرح محمد الخامس، فلم يتصور الكثير من المتتبعين لشؤون الفن والثقافة أن يكون الإقبال الشعبي على الأمسية بهذا الحجم، إلى درجة أنه لم يبق أي مقعد فارغ قبل بداية الفقرات الأولى من السهرة. ما جعل فئة من الجمهور تجلس في الأدراج، و أماكن العبور، وهناك من تابع السهرة واقفا في زوايا المسرح.
وعلق “عزيز السغروشني”، مدير مسرح محمد الخامس وقتذاك، في تصريح له: “حدثان لا يمكن لمسرح محمد الخامس أن ينساهما فبسببهما اهتزت أركانه، الحدث الأول جاء على إثر سهرة أم كلثوم التي نظمت يوم الأحد 3 مارس عام 1968 بمناسبة عيد العرش، أقامتها الحكومة المغربية على شرف الملك الحسن الثاني. أما الحدث الثاني فيتمثل في سهرة محمد رويشة التي عرفت نجاحاً كبيراً، والذي أكد قوة حضوره، حيث جاء عشاقه من مختلف المدن المغربية “.
بدون مبالغة، فسهرة رويشة الناجحة التي أثارت انتباه جمهوره لم تكن عادية، فقد كانت بمثابة جواز سفر له للمرور إلى عالم الشهرة إقليميا و وطنيا وعالميا، فبعد تلك السهرة قام بإحياء سهرة على مسرح ” زينيت” بباريس، وهذه الشهرة عبدت الطريق أمامه للدخول إلى القصر الملكي بالصخيرات للغناء في حضرة الملك الراحل المغفور له الحسن الثاني.
قال محمد رويشة:” توصلت بهاتف من الديوان الملكي بقصر الصخيرات بالرباط، قصد المشاركة الفنية لإحياء مختلف الحفلات التي تقام بمناسبة عيد الشباب بحضور كل من الفنانين: حميد الزاهر، مجموعة ناس الغيوان، والفنان الحسين باز. ودخلنا الصخيرات حوالي العاشرة ليلا، فقمنا بتغيير ملابسنا داخل السيارة، وأخذنا المسؤول الأمني إلى الفضاء الداخلي، إنها أول مرة أدخل فيها إلى القصر، حيث وجدنا صاحب الجلالة واقفا ينتظرنا قائلا: “فين هاد الفنان ديال خنيفرة” بمعنى ” أين الفنان الذي أتى من مدينة خنيفرة”، هكذا أحس رويشة بفرحة عارمة، فقبل يده الكريمة.
وبعد ذلك سأل الملك رويشة قائلا: أنت تعزف على آلة وترية، فقلت له : نعم سيدي، وبعد تبادل الكلام في أمور فنية، أمر لجنة خاصة لإعداد كل ما تتطلبه فرقتي الموسيقية، وبعدما تم ذلك طلب منا الحضور، فسلمت عليه مرة أخرى، وطلب مني أن أقدم له الآلة الوترية، تمكن من فحصها بدقة، وهذا ما جعله يسألني عن مكوناتها، فكان جوابي: “…من خشب الأرز وجلد الماعز يا مولاي”.
فقال “هذه آلة مغربية أصيلة”، وعليه بدأ يسألني عن عدد من الأمور التي تتعلق بالفن الأمازيغي، ولا أخفيكم سرا فقد أحسست بأنني في امتحان حقيقي، وليس أمام ملك فحسب، بل أمام فنان يحب كل ما يتعلق بالفن وشؤونه، فله دراية واسعة بعالم الموسيقى و الفن. استرسل في طرح أسئلته، وكنت أجيب، فعلا كان له بعد نظر وحس، وبعد الانتهاء من هذه الجلسة الحوارية عدت إلى مكاني.
عندما جاء دوري صعدت المنصة، فأدركت في الحين بأنه ليس من السهل العزف أمام الملك الحسن الثاني رحمه الله، بل حتى الوقوف في حضرته، بطبيعة الحال الوضع يستلزم مني أن أخلق جوا مفعما بالإبداع والغناء، لذا اخترت قطعة:
ابْدِيخْ إِسًكْ أَسِيدِيً يَرْبِّي جُذْ غيفي
إِلاَّ غُورْشْ أَيْنَارِيخْ بْلاَ ثُوذْمَاوِينْ
أُورْ إِخُلْصْ أَوْدْيُوكْ إِسِيدِي ثِنْبَاضِينْ
أَرَا عَاوْدْ أيمِي سِوْلْ مگَّا الزْمَانَ
إِوَالِوْنْ أَدْتِّنِيخْ أخْسْ وِنَّا جْرَانِينْ
إِوَالِوْنْ أَدْتِّنيخْ إِخْسْ وِدَّ زْرِينِينْ
مَوِنَّا أغْرَا ددُّونْ أُورْ نْزْرِي مَا گْدْأُوسانْ
أَليگْ إِبْناًرْبِّي الدُّنِثْ إِگِيتْ دَشالْ
إِگَا إِسَافْنْ أَلْعْوَارِي ثْلاَّمْ إِگْ لُوطَا
إِگَا لَبْحُورْ إِگَادْ إِگْنْوانْ إِگْدْ أَمَانْ
إِگادْ الطْيُورْ دْلُوحوشْ نَّا تَزْلاَنيِنْ
إِتَا فويْتْ أَرْبِّي تُو مَرْنَاسْ أَتْگْ أُسَانْ
أُرَاسْ إِزْگِيلْ الوَاحِيدْ الْمُوجُودْ والُو
يَغُولْ إِخْلْقْ گَّشَالْ نَّا مِدْنْ إِلِينْ
كُوشَا دْمَا گْدْ يُسَا إِبْضُ ثِقْبِلِينْ(…)
تعود هذه القصيدة إلى الشاعر “عفاوي حمو والغازي” (ولد بإيغزر وذمام سنة 1939 بأيت حمو وسعيد قبيلة أيت مسعود جماعة أغبالو، إقليم ميدلت، وتوفي يوم 24 أبريل سنة 1976م بمستشفى السويسي).
قال رويشة: عندما انتهيت نادى علي الملك الحسن الثاني، فحاولت ترجمة القطعة إلى اللغة العربية، فأجابني الملك ” لقد فهمت القصيدة وأدركت مقاصدها”. فقال لي: “علاش ماكتغنيش بحال هاذ الكلام” أي ” لماذا لا تعتمد على مثل هذه الكلمات في أغانيك”، فأخذ يردد قائلا:
باسم الله مفتاح الكلام سبحانو من لا ينام
الله اجمع المؤمنين صليو على النبي كاملين
يا الجواد الحاضرين صليوا على بو فاطمة
بسم الله نفتح الكلام
سبحان من لا يسهى ولا ينام
مول القدرة مول الحكام
فقلت له : “يا مولاي، هذه الكلمات لم أسمعها من قبل، ولا أحفظها”، فقال لي : إنني جد متأكد بأنها ستكون رائعة إذا أديتها بعزفك وصوتك”. وحينها قال رويشة: أخذت القصيدة، وسجلتها لدى شركة الإنتاج “تشكافون” بالدار البيضاء، فقد كنت أجهل قواعد البروتوكول التي تقتضي مني أن أقدم القطعة إلى الملك شخصيا قبل الشروع في عملية التسجيل. و لقد تأكد لي ذلك حينما التقيته في مناسبة أخرى، و بطبيعة الحال فقد علم بأنني سجلتها لشركة الإنتاج”.
مرة أخرى طلب مني جلالته أن أغنيها على آلة الوتار فقط بدون فرقة، وعند بداية هذه القطعة خيم الهدوء، واتجهت أذن وعيون الحضور نحو العزف و الأداء معا، مما جعل القصيدة تصل سريعًا إلى القلوب فتنفذ إلى الأفئدة. أما كلمات الأغنية المغناة فتقول :
الله اجمع المؤمنين صليو على النبي كاملين
يا الجواد الحاضرين صليوا على بو فاطمة
بسم الله نفتح الكلام سبحان من لا يسهى ولا ينام
مول القدرة مول الحكام سبحان من عظم شانو
سبحان الباقي بدوام سبحان العالم بالعلام
سبحان الكريم لكرام من حد كمالو
مكتر فصلات الحبيبب الفضل عدي وجيب
كل الحاضرين والغايبين واللي جا ومشالو
خمرني أنا حب الحبيب كواني كية فلقليب
مرة نسها مرة نغيب لعقل متهول حالو
فيق ياراسي فيق رآك بقيتي فطريق
ماعملت زاد ولا رفيق غير أفعالك واعمالو
مادرت افعال ولا عمال لمن نشكي حملي ثقال
للي ما يقرا ولا يسال ضايع فدنيا حالو
ضيعت أنا وقات صلى أو مشى لي عمري خلا
كيف للي تاه وتجلا ولا من القاه إسلالوا
يا راسي يا راسي خليت ما صليت
ولا قريت ان شبت للي وعيت
رَاه رأسك شاب كحال وداز علي داز سهو
نصحاب أنا راني فزهو ضيعت أيامي فلهو
أو مشالي عمري بحالو أعلاه ياراسي أخلاص
فين اللي كبروا الراس فين اللي غرسوا غراس
أفرح من زين أفعالو هاذ الدنيا ماتدوم
وين الجداد وين العلما وين السادات أهل لحروم
وين قارون أومالو هاذ الدنيا يا راسي تفوت
ما يبقى زين للي ما يموت وين رفاقة وين الخوت
مشا ما بان خيالو هاد الدنيا يا راسي غرور
لا تمنهاش راها تدور بعد ماتعطي أو ترجع بشور
مهبول للي تزهالو ما أبقى قدر ما ندير
مكتوب ذنوبي كتير عمرك قرب أجالو
ما يرجع قوم الهو لما يرجاك فيوم الهول
يوم الحساب مع لعقاب بيدك تشد الكتاب
كلها يقرا عمالوا سترنا يا ستار العيوب
اسمح لينا فهاد الدنوب حرمة الأنبياء أو الكتوب
أهل السر واكمالو سيدي ربي مول الغطا
سمح لعبدك فيما خطا غطينا انت مول لغطا
غطي عيبي و زلايلو مادرك حال لجاهل
وما نفعك حال العمال برحمتك يامول الفضال
من لدعاك تستجبهالو وين أراسي وين باك
وين لصحاب وين لحباب هاذ الدنيا مثل السراب
كيف للي شاف خيالو هاذي معنى لأهل لعقول
حكمة وسر مع القبول اسمع الياقوت من لحلول
نظم الجوهر أو گالو عبرت أنا أعبير
ماشي الصوف بحال لحرير سولو الحارتين الشعير
واش القمح بحالو الله اجمع المؤمنين
صليو على النبي كاملين يا الجواد الحاضرين
صليوا على بو فاطمة
أجل لقد أثار عزف رويشة انتباه الملك والحضور، فأداؤه لهذه الأبيات الرائعة لم يكن عاديا بل كان مبهرا غير بعيد عن طغيان البعد الصوفي – المفعم بالابتهالات والمديح الديني – فقد جمع بين المقام الروحي العرفاني الموجود في قصيدة ” التوبة”، والمقام النغمي الموسيقي في أدائه المتمثل في الألحان المستخرجة من آلته الوترية، وجمال أدائه وعذوبة صوته.
بحكم ذكاء الحسن الثاني وقدرته على تذوق الفن الموسيقي، أخذ يذكر الفنان محمد رويشة ببعض الأبيات الشعرية من القصيدة التي تعرضت للحذف، وعندما علم بأن حذفه إياها لم يكن استجابة لأهوائه – بل إن هناك دواعٍ فنية اقتضت ذلك حسب ما أخبرنا به رويشة – تقبل الأمر، وعلى كل حال فالملك أدرك بأن الفنان رويشة أبدع في أداء هذه القصيدة التي عنوانها “التوبة “، وهي من إبداع الشاعر “سيدي عمر اليوسفي الفيلالي” والمعروفة ب “جْمع المومنين”.
هكذا ظل حضور رويشة في مناسبات عدة أمرا مألوفا لدى الملك، وهذا كله أفضى إلى تكريمه وتشجيعه، ومن ثم صقل وإغناء تجربته الفنية. وهذا ما صرح به رويشة قائلا: “ومنذ ذلك الحين بقيت أتردد على القصر الملكي في المناسبات، ويشرفني الملك الحسن الثاني بدعواته الكريمة. لقد استفدت من توجيهاته وسأظل مدينا له، كنا نتجه إليه لنسلم عليه، ونستمع إلى توجيهاته وملاحظاته السديدة. ومن هنا بدأت أبحث عن الأفضل والأحسن، خاصة أنني لم أكن أحلم أبدا في حياتي بأنني سأحظى باهتمام من لدن الملك الحسن الثاني”.
من المؤكد أن اهتمام الحسن الثاني بالفنانين الموسيقيين هو ما دفع الصحفية المقتدرة بالإذاعة و التلفزة المغربية فاطمة الإفريقي لإنجاز برنامج خاص عن الملك الحسن الثاني في ذكرى الأربعين من وفاته، للحديث عن الجانب الفني عند جلالة الملك الحسن الثاني، ومواقفه، فتمت استضافة مجموعة من الفنانين، و ما يسترعي الانتباه أن هذه الحلقة تركت أثرا كبيرا في نفوس متتبعيها، سيما الذين لم يدركوا أن للحسن الثاني علاقة وطيدة بالفنانين.
فإبداعات محمد رويشة تتسم بالتجديد، فهي ذات مواصفات جديدة من حيث المضمون – أي محتوى المادة الشعرية-، ومن حيث المنحى الموسيقي ومستوى الأداء، فقد أسهم رويشة عموما في رفع الذوق المغربي وبلورته وتطويره دون الابتعاد عن الأحاسيس الإنسانية الراقية.
من هنا تطوع لإحياء سهرة ترفيهية، نظمتها المصالح الاجتماعية للقوات المسلحة الملكية مع وزارة الثقافة عام 1982م للجنود الصامدة في رمال الصحراء المغربية، هؤلاء الجنود هم أبطال الفداء و التضحية.
على كل حال، فقد حان وقت ظهور محمد رويشة مع أعضاء فرقته بالزي العسكري الذي حصل عليه في هذه الجولة. حيث استقبلته عاصفة من تصفيقات الجنود بمختلف مراتبهم. شكر حماسهم وبادلهم متمنياته لو كان معهم في ذلك النضال الوطني المجيد، حيث قال:” إن الصحراء أرض مقدسة، وهي مغربية ولا تفاوض على مغربيتها فيكفيني فخرا أنني بينكم الْيَوْمَ”. ولكنهم اكتفوا بجهاده الفني فهو بنظرهم تموين حربي، يمكن الحصول عليه عبر أمواج الأثير والأشرطة السمعية.
جلس رويشة على مقعده قريبا من مكبر الصوت. وهنا انطلقت صرخات الإعجاب، و صيحات الفرح، وهكذا بدأ محمد رويشة بأغنية ” وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي” بصوت هادئ بداية، لكن الوضع اقتضى منه رفع الصوت، وهذا ما حصل فعلا حيث رفع من نبرته الصوتية .
وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ
أَلزِّينْ أُورْ إِخْدْمْ أُورِكَاثْ إِبَرْذَان
وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ
الْمْعِيشْثْ غَاسْ أُودْمْ نْسْ أَسْ تِتْجْبَارْ
وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ
إِدِّيسْ ثْگِيثْ أَمْ ثَحْيُوطْ أَثَوْنْگِينْ
وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ
أُورْ زريخْ أَسِّينُّو أُولاَ مْثْخْ إِوْرْذَاسْ
وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ
أَثَا گِيخْ أْمْ ثَگُوسثْ إِمُّونَّا ثِنْگْمِيتْ
وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ
ثِيثِي گَّشَالْ ثِيثِ سْ گْ إِگْنَا
وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ
أَثَا وْنَّا وْرْ ثْيرِوْنْ وْنَّا أُورْ ثِسْگْمينْ
وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ
مَتَى رْبِّي ثِهْدَانْ أَدَاسْ إِتْصْبَارْ
وْرْدَگَانْخْ إِيحْرْمِي مْشْ دَ گَّانْخْ إِنِثَاسْ اورْذَ گَانخْ أَوَا لْعْفو سْگْ غُورُونْ
ردد الجنود وراءه المقاطع، وصوته مليء بالفرحة، فأحس محمد رويشة بأنه انتصر، وعاد من جديد بخطى واثقة وقال:
أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا
ثْقَابْلْ ثِيطْ إِنُو الْبابْ نْ وايْذْرِيخْ
أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا
وَثَا يْنَاسْ اوُول إِوْضَارْ أَنْوثْ أَقْجْذِيمْ
أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا
أَثَا يْگَا اوسْمُونْ أَسِيفْ أَديْ يْزْوِيغْ
أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا
أَوِي وْرْدَاسْ تِسِينْغْ أَسَكَا مَگْ لاَّنْ
أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا
أَثْسُوحْلْثْ أَمَايْسْ نُمُوضِينْ الْطْلْباةَ
أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا
مُورَاسْ ثِّوِيثْ وُّنَّا رَانْ أَذْجِّينْ
أَوْرَا يَوَا مْشْ أُورِي ثْعَّفاثْ أَوْرَا غَاسْ أَذِيكْ نْمْيَنَايْ أَونَّارِيخْ أَوْرَا
تحولت السهرة إلى غناء جماعي اشترك فيه الجندي الصغير مع الضابط كأنهم في المعركة، وبمجرد خفض صيحاتهم شرع في غناء قطعة للشاعر الزجال “حسن كورياط”، الملقب ب”طنان”، والذي وضع بين يديه عدة روائع منها “الليل الليل”، “بين البارح واليوم”، “وحارو عينيك” التي تقول كلماتها:
حارو عينيك ماحلتك لهادي محلتك لديك
غير صفي أنيا ماتحسد حد قنع بالمكتاب
بالمحبة والخير اللي بغاك بغيه
وما يهمك كلام الغير ساعة ساعة تفكر كلامي
وميز بعينيك قبل ما ندما تولي عليك
يا الخاوى غير صفي النية وماتحسد حد
والرزق ماشي بيدي ابديك
ياك الفدان كبير زهور وزينها ما مثلها زين
ولا تكسيتي بعطورها تفوح ليك
ربنا الكريم أهدها لينا وليك
يالخوى غير صفي النيا ولا تكون طماع
ماحيلتك لهادي ولديك رب الوجود يغضب عليك
الكريم يجني الورد هديا
وأنت تجني غير الشوك بقلت النيا حارو عينيك
لعل تلك الأيادي التي لم تتعب من حمل السلاح لم يتعبها أيضا التصفيق المتواصل في طلب المزيد من روائعه، وعليه استأنف محمد رويشة الغناء في سماء الإبداع المتواصل، وهذا ما جعل كل طبقات الجنود أمامه تعبر عن فرحتها المفعمة بالانبهار والصراخ.
بعد الانتهاء من العديد من الفقرات الفنية الغنائية، وجه الفنان رويشة شكره للجميع وراح يبتسم بطأطأة رأسه. فعلا خشي أفراد مجموعته عليه، من اندفاع الجنود إليه، بحكم أن عشق هذا الفنان خلق دهشة في النفوس، فأحاطوا به حتى يخرج من هذا الفضاء سليما و بشكل مريح. ولم يخف رويشة ابتسامته التي تشبه ابتسامة الأطفال لأن حلمه تحقق في هذه الرحلة الوطنية بامتياز، وهذا وجه آخر من وجوه الإبداع الفني؛ أي عندما يكون الغناء في خدمة جنود الوطن وروح الوطنية الخالصة.
من هنا يتضح أن إبداعات رويشة تتسم بالتجديد، فهي ذات مواصفات جديدة من حيث المضمون -أي محتوى المادة الشعرية – ومن حيث المنحى الموسيقي و مستوى الأداء.
ما سبق ذكره يدفعنا إلى القول إن الفنان الأمازيغي محمد رويشة أسهم في رفع الذوق المغربي، وبلورته وتطويره دون الابتعاد عن الأحاسيس الإنسانية الرفيعة، والممزوجة بما هو عاطفي و وطني وسياسي.
وإذا كانت وطنية رويشة تعبر بالأساس عن الإحساس بالارتباط والالتزام بشؤون دولتنا، ومصالحها الداخلية والخارجية فلا يمكن وضع حدود لأحاسيسه في الحقيقة، وهذا ما عبر عنه في أكثر من مناسبة، فهو كالطير الذي يحلق في السماء بأغاني آلته الوترية ليوزعها في ربوع هذا الوطن، و ربما يتجاوزه، بحكم أن البعد الإنساني في إبداعاته حاضر بقوة، وتلك قصة أخرى يمكننا التوقف عندها في مناسبة أخرى.

(°) أرشيفيست، ومهتم بالأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط


الكاتب : المكي أكنوز

  

بتاريخ : 20/01/2024