في الذكرى 31 على رحيله ..القائد عبد الرحيم بوعبيد «محامي الشعب» وصوت الضمير

دافع القائد الوطني الكبير عبد الرحيم بوعبيد عن الوطني والشعب والحزب طيلة مساره التاريخي المتميز، يلبس بدلة المحاماة، مدافعا عن المهنة بقوة أمام ما يتعرض له الوطن سواء أكان ذلك من طرف خصوم الوحدة الوطنية أو ما كان يتعرض له المناضلين الشرفاء من قمع وتنكيل.
وتحل يوم غد الأحد 8 يناير 2023 الذكرى 31 سنة على وفاة رحيل المناضل والقائد الوطني الديمقراطي التقدمي عبد الرحيم بوعبيد ، نستحضر فيها مسار الرجل وهو يدافع أمام المنتظمات الدولية دفاعا عن الصحراء المغربية أوداخل رداهات المحاكم مدافعا عن المناضلين الذين تم الزي بهم في السجون .
ودافع عبد الرحيم بوعبيد بنفسه أمام المحكمة، وقال «هذه المحاكمة سيكون لها تاريخ، فأنتم لكم الأمر، ونحن نقول ربي السجن أحب إلي من أن ألتزم الصمت وألا أقول رأيي في قضية مصيرية وطنية».
كان عبد الرحيم حريصا على الحضور المادي والمعنوي في كل المحن كالمؤمن الواثق بعدالة قضيته، فالرجل لم يتردد – كعادته دائما في الحديث بصوت مرتفع بتصريف الموقف السياسي الصريح، فقد صدح في محاكمة منفذي جريمة اغتيال الشهيد عمر بنجلون : «إن المحاكمة التي تطلبون منا حضورها في هذه الظروف لا يمكن أن تكون إلا محاكمة صورية … وإذا كان من المحتمل أنكم ستحاكمون فقط، بمقتضى القرار الذي ستصدرونه، منفذي الجريمة الشنعاء التي تعرض لها الشهيد عمر بن جلون، فإن من المؤكد أنكم لن تحاكموا المدبرين الحقيقيين لهذه الجريمة …إن المحاكمة الحقيقية ستجري في وقت آخر، وسنلتقي يومئذ بالمسؤولين عن ارتكابها !!…»
ويسجل التاريخ للقائد عبد الرحيم بوعبيد العديد من المواقف المبدئية النبيلة، فقد أبى إلا أن يرتدي بذلة المحامي ليدافع عن المحجوب بن الصديق الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل الذي اعتقل يوم 9 يوليوز 1967 غداة إصدار نقابته لبلاغ عقب هزيمة الجيوش العربية في حربها مع إسرائيل ، ورغم اعتراض العديد من المناضلين على عبد الرحيم بالنظر إلى مقاطعة نقابة المحجوب بن الصديق للاتحاد الوطني عقب الاعتقال الشامل لأطر الحزب في يونيو 1963 ، فقد اختار عبد الرحيم أن يرد على منتقديه بالآية الكريمة «إن الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .. !!»
من مواقفه الرفيعة، أريحيته وانخراطه الطوعي في كل المبادرات النضالية ذات البعد الحقوقي والإنساني، والتي جعلت من عبد الرحيم «فريد زمانه « فقد كانت أيام الجمر في عز لهيبها .. اعتقالات واختطافات بالجملة شهر مارس 1973، محمد الوديع الآسفي ومحمد منصور يأخذان المبادرة بعد أن نالا نصيبهما من هذه المحنة، فقررا الاتصال بعبد الرحيم لجمع الدعم لعائلات المعتقلين والمختطفين، ثمن عبد الرحيم الخطوة، وقدم لهما شيكا موقعا على بياض، طالبا منهما ألا يتعديا مبلغ مليون سنتيم ، وهو الرصيد الموجود بحسابه … !! .
واستحضر المفكر المناضل الراحل محمد عابد الجابري، في عدد 8 من سلسلة مواقف ، وقفة سي عبد الرحيم التاريخية أمام المحكمة العسكرية يوم 9 غشت 1973 كشاهد في محاكمة إخوانه المعتقلين عقب أحداث مارس 73. دافع الفقيد عبد الرحيم بقوة عن الحزب وعن اختياراته، وحاكم سياسة النظام القمعية تجاه مناضلي وأطر الحزب، وأكد استمرارية عضوية الفقيه البصري مادام لم ينزعها منه المؤتمر، محملا النظام مسؤولية ما تخلقه سياساته من إحباط ويأس وسط المواطنين.
ولما سأله رئيس المحكمة: «هل يصل اليأس إلى حد التسرب من الخارج وارتكاب العنف؟»، أجاب الفقيد بـ «رجولة»: «اليأس بطبيعة الحال رد فعل نفساني، وحدوده تتغير حسب طبيعة الأشخاص، فقد يكون عنفا باللهجة وقد يكون بالسلاح»، وأضاف: «أما الحد الفاصل بين المشروعية وعدم المشروعية فهو واضح بالنسبة لنا، فقراراتنا كحزب علنية معروفة».
وتحل الذكرى 31 لرحيل السي عبد الرحيم بوعبيد، الذي توفي في 8 يناير 1992، القائد الاتحادي الذي أجمع الكل على أنه سياسي من طينة الكبار، وأنه مدرسة قائمة الذات في الأخلاق السياسية والثبات على الموقف، وكان أحد الرجالات الذين أسسوا حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنوات قليلة بعد الاستقلال، ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مؤتمر استثنائي أرسى اختياره المذهبي سنة 1975.
كان من مهام عبد الرحيم بوعبيد ، الاتصال بالقادة السياسيين والبرلمانيين وممثلي الأحزاب التقدمية لوضعهم بشكل دائم في صورة آخر تطورات الأحداث التي يشهدها المغرب تحت الاحتلال الفرنسي، وتشجيعهم على القيام بمبادرات تجاه السلطات الفرنسية، لوضع حد لعهد الحماية والاستعمار، والتنديد بالممارسات القمعية التي تمارسها تجاه مناضلي الحركة الوطنية في المغرب.
كانت باريس في تلك الفترة عاصمة دولية، حيث كانت تنعقد بها الجمعيات العامة للأمم المتحدة، ففي سنة 1948، عقدت الأمم المتحدة جمعها السنوي من أجل اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكم كانت هذه المناسبة فرصة للمناضلين المغاربة، الذين حضروا وفي مقدمتهم المهدي بنبركة للقيام بالاتصال بوفود الدول المشاركة للتعريف بالقضية الوطنية ونضالات الشعب المغربي، وفضح الانتهاكات التي تقوم بها السلطات الاستعمارية ضد مطالب الشعب المغربي في الحصول على حقوقه المشروعة، واستمرار هذه السلطات في انتهاك حقوق الإنسان في المغرب.
عبد الرحيم سليل مدينة سلا، ذاك الشاب الذي عرف كيف يبني مجد وطنه .. فقد كان أصغر القادة الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944 بعد أن التحق بفاس قادما إليها من سلا وعمره لا يتجاوز 18 سنة، وبقيادته لأول مظاهرة بمسقط رأسه يوم 29 يناير 1944 سيكون بذلك أصغر معتقل ينفذ فيه قرار السجن والنفي …
التحق هذا الشاب السلاوي، المتشبع بالنضال التحرري من أجل استقلال بلاده، بباريس سنة 1946 لاستكمال دراسته الجامعية بكلية الحقوق، لكنه جعل – وهو المسؤول بحزب الاستقلال – من تأطير الجالية المغربية من عمال وطلبة أولوية الأولويات، فتحرير الوطن يستدعي تعبئة عموم الشعب المغربي، واستثمارا أمثل لكل الواجهات والمواقع …
بعد أن حط الرحال بتراب البلاد إثر عودته سنة 1952، سهر شخصيا على تأطير العمال وتنظيم العمل النقابي رغم مضايقات السلطات الاستعمارية، فكان من صانعي الإضراب العمالي التضامني مع الشعب التونسي إثر اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد …فكانت النتيجة اعتقاله مرة أخرى رفقة العديد من قادة الحزب أنذاك، وتم وضعه بسجن غبيلة بالدارالبيضاء بعد مواجهته مع أعنف القضاة الفرنسيين « جيريلوت « ، فالرجل لم يكن يأبه بالأحكام القاسية، في الوقت الذي نفذت فيه نفس المحكمة العسكرية قرار الإعدام في حق رفيقه الشهيد أحمد الحنصالي …
يحكي أحد رفاقه في الكفاح الوطني الأستاذ امحمد بوستة ، كيف كان عبد الرحيم رفقته خريف 1954 يقود بباريس المفاوضات السرية والعلنية مع الساسة الفرنسيين في حكومة مانديس فرانس وحكومة إدكارفور ، فقد كان عبد الرحيم لسان الدفاع عن السيادة المغربية الممثلة في المغفور له محمد الخامس مخاطبا إدكافور بلغة الواثق من قضيته «لا حل إلا برجوع محمد الخامس إلى عرشه».
عاد ملك البلاد محمد الخامس وولي العهد مولاي الحسن والأسرة الملكية يوم 16 نونبر1955 وعادت معه الشرعية ، وسيكون أمام عبد الرحيم – من جديد – مهاما وطنية كبرى لبناء المغرب الحديث المستقل، وتدشين مرحلة جديدة لتشييد صرح المغرب العربي الكبير بمؤتمر طنجة شهر أبريل 1958 بمبادرة من حزب الاستقلال للدفع بتحرير الجزائر …
تقلد عبد الرحيم بوعبيد مهمة وزير الدولة في أول حكومة مغربية للمطالبة بالاستقلال التام، ودشن مرحلة جديدة من المفاوضات رفقة وفد مغربي ستتوج بتوقيع وثيقة الاعتراف باستقلال المغرب .. عاد القائد عبد الرحيم يحمل وثيقة الاعتراف باستقلال البلاد بها محفوظة في حقيبة ملابسه المتواضعة … !!
يحكي الذين جايلوه في تلك المرحلة أن عبد الرحيم بوعبيد وزير الدولة في أول حكومة مغربية كان يستعمل دراجته النارية، في بداية مشواره الوزاري، للانتقال من منزله إلى مقر عمله الرسمي بالقصر الملكي بدون حرج أو مركب نقص قبل أن يضطر إلى استعارة سيارة محترمة من خارج مدينة سلا في انتظار السيارة الحكومية الرسمية، وكانت الاستجابة من المقاوم المرحوم الحاج محمد الخنبوبي الذي وضع رهن إشارته سيارة تليق بمهمته الوزارية إلى حين، وسيتطوع المناضل عابد السوسي للسياقة به . فعرض عليه عبد الرحيم بوعبيد تسجيله بقائمة الموظفين الذين سيلتحقون بوزارته إذا قبل ذلك، فكان رد عابد السوسي «إني أيها الأخ الكريم غني عن أي توظيف، إني لم أقم بما قمت به نحوك كوزير، وإنما كأخ مناضل فذ ومتواضع، وإذا ما أردت مجازاتي عن العمل الذي تشرفت به لخدمتك، فما عليك إلا أن تشرفني بتناول طعام الغذاء بمنزلي، وهو ما استجاب له عبد الرحيم الوزير بتلقائيته المعهودة … !! لنا أن نتمعن جيدا رمزية هذه الإشارة، هو ذا عبد الرحيم الذي اختار الزهد أسلوبا في الحياة، فالرجل رفض بطاقة المقاومة وما يجنى منها معتبرا المقاومين الحقيقيين هم من حملوا السلاح واستشهدوا في ساحة الشرف …. !!
هي ذات الصرخة كذلك حين جعل عبد الرحيم الوطن فوق الجميع خاطب الذين يحاكمونه: «رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه». كانت المناسبة اعتقاله يوم 7 شتنبر 1981 رفقة أعضاء من المكتب السياسي محمد اليازغي ومحمد لحبابي ومحمد منصور ومحمد الحبيب الفرقاني على هامش موقف المكتب السياسي من قبول الحكومة لقرار مؤتمر نيروبي بإجراء الاستفتاء بالصحراء المغربية بدون قيد أو شرط … !!
سيحسب الأكاديميون والمؤرخون – لا محالة – لعبد الرحيم أنه عبد الطريق لتوحيد المسيرة النضالية مع حزب الاستقلال وباقي القوى التقدمية في هذا البلد، توجت هذه الخطوة بتقديم مذكرة مشتركة للراحل الملك الحسن الثاني خلال شهر أكتوبر 1991، مشيرين في ديباجتها إلى قصور الممارسة الدستورية التي تعتري سير المؤسسات مع أنها مطالبة بالاضطلاع بدورها كاملا شأنها في ذلك شأن نظيراتها في الأقطار الديمقراطية …
مر شهر على تقديم المذكرة لعاهل البلاد، وكأن الرجل يرتب بدقة أيامه الأخيرة ، فقد أبى وهو في ذروة المرض إلا أن يترأس أشغال اللجنة المركزية يوم 2 نونبر 1991 ، كان لكلمته طعم الوصية الأخيرة : قال عبد الرحيم « إن فرض مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان يتطلب الصبر ..فنحن لنا في هذه البلاد رسالة نريد أن نؤديها على أحسن وجه ، وأن نمهد الطريق للأجيال الصاعدة.. إننا نشعر بالاطمئنان على ما قمنا به من أجل الوطن ، وإن كان ليس هو الكمال ومع ذلك نعتبر بأن ما أسديناه من عمل متواضع يتجه إلى الشعب وإلى المصلحة العامة !!».
العديد من المناضلين الحاضرين في اجتماع اللجنة المركزية كفكفوا دموعهم لحظتها ، وفهموا أن الرجل وبعزم الكبار، قرر الرحيل وترك في عهدتهم مواصلة المسير… !!
نِعم الرجل الوطني الغيور على وطنه وشعبه، زعيم سياسي وطني ديمقراطي ارتبطت السياسة عنده، كفكر وممارسة، بالواقعية والعقلانية والأخلاق، نحن في حاجة إلى رجال وطنيين صادقيين مدافعين عن الوطن والشعب.


الكاتب : مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 07/01/2023