دافع الشهيد المهدي بنبركة عن المرأة وتعليمها حتى تتمكن من مساعدة المجتمع على التطور وتصبح عاملا قويا في رقيه وسعادته، ويبدأ في بداية تعلم الفتيات في التعليم الابتدائي باعتباره ضروريا لكل تعليم ثابت الدعائم ولكل تربية موضدة الأسس، حتى تستطيع الفتاة القيام بالمهمة الاجتماعية المنوطة بها.
وقدم الشهيد المهدي بنبركة تقريرا بتاريخ 6 مارس 1943 يمكن اعتباره وثيقة تاريخية فريدة كتبها وعمره ثلاثا وعشرون سنة، تتعلق بالطروحات الأولى لقضية تعليم المرأة .
يبدو أن المهدي بنبركة كان سباقا للاهتمام بضرورة تمكين المرأة من كل الوسائل التي تساعدها على الاندماج في التحول الاجتماعي الذي أخذ المغرب يعرفه بسبب احتكاكه بكل نتائج الغزو الاستعماري على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. وتدلنا الوثيقة على الجو المجتمعي السائد في المغرب في بداية الأربعينيات والذي تطغى عليه المحافظة على التقاليد في نفس الوقت الذي بدأت تظهر إلى الوجود بنيات تعليم وضعته السلطات الاستعمارية لكي يستجيب لمتطلبات التطور الكولونيالي ويدمج بعض المدرسين المغاربة في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن هذا التطور، وتتجلى من خلال قراءة الوثيقة، طموحات الحركة الوطنية في تغيير واقع المجتمع فكريا واقتصاديا حتى يستطيع أن يواجه التغول الاستعماري وكذا تعلق الحركة بالأصالة المغربية وعبقريتها وتقاليدها.
ويلخص التقرير في محورين هما تقييم لواقع التعليم السائد «لأننا نرتاح تماما الارتياح إلى التعليم الحالي». ووضع أسس جديدة لتعليم البنات «حتى تصبح المرأة عاملا قويا في رقي مجتمعنا وسعادته».
ووصف وضعية تعليم الفتيات بمواجهته عدة صعوبات وتتلخص في «انعدام توحيد برامجه» و«إهمال العربية والتربية الدينية فيه «ويقترح المهدي أن «تلقن الفتاة (خلال الدراسة الابتدائية) برنامج الشهادة الابتدائية الموضوع للتلاميذ الذكور مع بعض التحويرات الضرورية».
وحينما يتطرق إلى مسألة تحديد السن لانتهاء الفتياتمن دراستهن الابتدائية، يلاحظ من الضروري التساهل «نحن نضع الحجرة الأولى في تأسيس تعلم البنات». ومن بين برامج الدراسة: 1 – العلوم العربية2- العلوم الفرنسية 3 – مواد خاصة بالتدبير المنزلي ودروس التربية الصحية وتربية الأطفال “ويقترح المهدي بن بركة أن تستعمل اللغة الفرنسية ولكن (مؤقتا) لدراسة هذه المواد إلى حين تكوين الأطر التدريسية المغربية”4- الأشغال اليدوية والرياضة البدنية “إذ أن العقل السليم في الجسم السليم”وما قام به الزعيم الراحل علال الفاسي في بعض كتاباته وبالأخص في كتابه “النقد الذاتي” سنة 1949 الذي وقف طويلا في الباب الرابع من الكتاب حول الفكر الاجتماعي على العديد من القضايا الأساسية التي تهم المرأة، ومنها: – المرأة المغربية بين العرف الجاهلي والعمل الشرعي- تعدد الزوجات – الطلاق – حقوق المرأة المدنيةوالذي انتقد بحدة العديد من السلوكات التي تحط من قيمة المرأة ومكانتها والتي تتنافى مع الدين الإسلامي الحنيف. حضور المرأة في جميع المجالات :ومع التوسع والتطور الذي عرفه مغرب ما بعد الاستقلال فقد واكبت المرأة المغربية كل ما وقع في جميع المجالات وتمكنت من أن تحتل جميع مواقع المسؤولية بندية مع الرجل كلما أتيحت لها الفرص وأزيلت أمامها العراقيل التي تحول دون ذلك بسبب الثقافة السائدة في المجتمع المغربي التي توسعت وترسخت في مرحلة الاستعمار.
هذه الوثيقة للشهيد المهدي بنبركة حررها سنة 1943 «والمغرب لم تكن له في هذه السنة 1943 أية فتاة حاصلة على الشهادة الابتدائية في التعليم العصري». (من كتاب المهدي بنبركة ..الرياضيات مدرسة للوطنية (الجزء الأول) عبد اللطيف جبرو.
ويرى بنبركة أن جزءا من تأخر المجتمع المغربي يرجع بالأساس إلى تخلفه عن مسيرة التطور العلمي والمعرفي العالمي نتيجة لتحول العلماء المغاربة إلى محاربين يدافعون عن البلاد ضد الأوضاع الإسبانية والبرتغالية والإنجليزية والتركية والفرنسية، يقول محمد شقير، وبدل حمل القلم حملوا السيف في معارك ضد الجيوش الغازية. وهذا التخلف عن الركب العلمي والمعرفي هو الذي كان سببا في تغيير المسار التاريخي للمغرب وخضوعه للاستعمار الأجنبي. لذا اعتبر بنبركة أن حل مشكلة التعليم كانت من القضايا ذات الأولوية في المغرب، مذكرا بأن أول نشاط للحركة الوطنية تركز على تجديد التعليم، حيث أحس زعماء هذه الحركة بأن ضعف المغرب يكمن في هذه النقطة، وأنه من هنا ينبغي أن تكون الانطلاقة. كما أنه بعد حصول البلاد على استقلالها السياسي، تركزت الجهود على حل هذه المعضلة، حيث تكونت لجنة لإصلاح التعليم لوضع اللبنات الأولى لنظام تعليمي عصري وطني بالبلاد. ومن هذا المنطلق، حدد هذا المفكر مرامي هذا النظام في هدفين رئيسيين: تكوين الأطر ومحاربة الأمية.
يرى بنبركة أن المجتمع المغربي مجتمع متخلف، إذ رغم الصدمة السياسية التي تلقاها على يد الاستعمار الفرنسي-الإسباني، التي أجبرته على مناهضته عسكريا لحصوله على الاستقلال، فقد بقيت ترسبات التخلف ضاربة أطنابها في كينونته الفكرية والثقافية.
أرجع هذا المفكر السياسي تخلف المجتمع المغربي إلى ثلاثة قرون من الركود الحضاري؛ “فالمغرب يتوفر على تاريخ مجيد؛ إذ أغنى الحضارة الإنسانية التي عرفت تطور أسس التقدم العلمي بأوروبا. لكن إهماله لتراثه، على غرار دول المشرق العربي ودول الشرق الأقصى، جعله لا يغتنم الفرص التاريخية التي أتيحت له، الشيْ الذي جعله، على غرار الصين، يزدري الأوروبيين. لذا فقد كانت الصدمة عنيفة عندما قامت إسبانيا بشن حرب لا هوادة فيها عليه بعد طرد مسلمي الأندلس. إن هذه الصدمة التاريخية ابتدأت منذ شن الحروب الصليبية على بلادنا، التي دامت حوالي ثلاثة قرون، حين قاوم خلالها حروبا قاسية ضد إسبانيا، والبرتغال وإنجلترا ودول أوروبية أخرى. وقد كانت هذه الحروب سببا في عزلة بلادنا عن العالم، وبالتالي عن العلوم والتقدم. فقد حولت هذه الحروب النضال ضد الجهل لإعلاء راية العلم والحضارة إلى نضال ضد الغزاة والمحتلين لإعلاء راية الكرامة والشرف، وبذلك تحول زعماء الفكر والعلم إلى قادة عسكريين لمغرب أصبح عبارة عن ثكنة كبيرة.
وينطلق بنبركة من فكرة أساسية تتمثل في أن كل الجهود المبذولة لإخراج المجتمع من تخلفه لا يمكن أن تكون مجدية إذا لم تستند إلى أرضية علمية وتعليم قوي يشجع البحث العلمي وتنمية الفكر، “فبلاد بدون باحثين ولا تتوفر على مفكرين مآلها العبودية، ولا تستحق غير العبودية”. لذا، فإن من بين مبادئ التعليم التي حددها بنبركة:
– مبدأ التعريب.
– مبدأ التعميم.
– تكوين الأطر.
وانطلاقا من هذا المبدأ، يرى هذا المفكر السياسي أنه من الضروري للبلاد أن تتوفر على أطر من مختلف المستويات: كالأطر المتوسطة، والأطر العليا، وأطر البحث العلمي. ولبلوغ هذه الغاية، من الضروري خلق مؤسسات جامعية في مختلف ربوع المملكة، حيث تعتبر الجامعة في نظره “المقوم الأساسي لاستقلال” البلاد. وبالتالي يتطلب خلق هذه الجامعة المغربية –في نظره –التوفيق بين موروثين أساسيين:
– الموروث التعليمي الوطني المتمثل في مختلف مراكز أصول الشريعة، كجامعة القرويين، وجامعة بن يوسف، ومكناس وتطوان؛ إذ إن المراكز الجامعية تتمتع بقيمة واقعية ورمزية ينبغي الحفاظ عليها لكن مع تطويرها.
في 29 من أكتوبر الجاري، تحل ذكرى مرور57 سنة على استشهاد المناضل المغربي الشهيد المهدي بن بركة، ذكرى لاتزال تثير الكثير من الأسئلة وتجلب اهتمام وسائل الإعلام والرأي العام في المغرب وخارجه، فرغم مرور كل هذه السنوات، تظل عائلة بن بركة والحقوقيون المغاربة متمسكين بحقهم في معرفة الحقيقة، ويؤكدون في كل المناسبات أن اختطاف وقتل بنبركة وإخفاء جثته، ليست قضيتهم وحدهم، وإنما تهم أجيالا بأكملها.
سيناريو اختطاف بن بركة يعرف من قبل العامة، وكانت أول حلقة فيه اللقاء المعلوم بين بنبركة والمخرج السينمائي جورج افرنجو في مقهى «ليب» بشارع سان جرمان في قلب باريس في يوم 29 أكتوبر من 1965، والتي تنظم بمحاذاتها سنويا وقفة إحياء لذكرى اختطاف بنبركة.
كان هذا اللقاء مجرد كمين نصب للشهيد، ويبرر البعض سهولة استدراج رجل مثل بن بركة إلى طبيعة الموضوع الذي طرح عليه المشاركة فيه، حيث أوهمه مخرج سينمائي فرنسي أنه يحضر لإعداد فيلم حول الحركات التحررية.
وعند خروجه بن بركة من مقهى «ليب» تلقفه شرطيان فرنسيان في الطريق، ليُقتاد على متن سيارة إلى وجهة ظلت مجهولة، وتأتي المرحلة الأخرى من اختفاء بنبركة التي اختلفت بشأنها السيناريوهات. ومازالت الحركة الاتحادية والحقوقية سواء في المغرب أو الخارج تبحث عن حقيقة اختفاء الشهيد المهدي بنبركة.
يعتبر المهدي بن بركة أحد المراجع الكبرى في الفكر السياسي والاجتماعي والثقافي بالمغرب، وذلك على الرغم من الفترة القصيرة التي عاشها (خمسة وأربعون سنة) قبل اختطافه واغتياله في باريس يوم 29 أكتوبر 1965، والتي أسس فيها لمشروع مجتمع مغربي أساسه الحرية والكرامة والديمقراطية:
-إن مهمتنا الأساسية في عهد الإستقلال هي بناء مجتمع جديد يحقق الرفاهية والسعادة والازدهار الفكري لجميع المواطنين..
-الشعور بالمسؤولية هو الذي دفع المخلصين من شعبنا إلى التضحية بالمراتب والمال والجاه، وسلوك طريق الكفاح والسجن والنفي دفاعا عن الوطن..
– يعتبر التوزيع العادل للدخل القومي سببا في رفع مستوى عيش المواطنين، حتى لا يتخم البعض بنصيب وافر، ويكاد يموت البعض الآخر من جراء ما يعانيه من حاجة ماسة لسد حاجياته الضرورية..
– هناك ثلاثة شروط يجب أن يحققها كل شعب يريد النجاح:
أولا: التوفر على قيادة حكومية وشعبية مخلصة، قوية وحكيمة.
ثانيا: وضع التصميمات لتحقيق التطور وتنفيذها.
ثالثا: مشاركة الشعب في تنفيذ ومراقبة هذه التصميمات وذلك بواسطة المؤسسات الديمقراطية.
– إن النظام الذي لا يعتمد على ثقة الجماهير والتفافها الإرادي حوله، محكوم عليه بأن يبقى تحت رحمة عناصر فاقدة لكل فاعلية.
– المؤسسات تستمد قيمتها من الساهرين عليها.
– إن ضعف المجتمع المغربي يكمن في ضعف التربية والتعليم.
-الأبحاث والدراسات ليست مجرد إنتاج ثقافي، بل وسيلة ضرورية لأي خطة نضالية.
في الذكرى 57 لاختطاف الشهيد المهدي بنبركة .. تعليم المرأة عامل قوي في رقي المجتمع وسعادته

الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي
بتاريخ : 29/10/2022