في الملتقى الوطني الاتحادي للمثقفات والمثقفين، المنعقد بالمقر المركزي للحزب الرباط .. ملتقى تاريخي يسعى إلى إعادة ربط الثقافي بالسياسي في المغرب

 

كان للمثقفات والمثقفين في المغرب موعد مع التاريخ يوم السبت 22 فبراير 2025، بالمقر المركزي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالرباط، حيث جمع الملتقى نخبة من المفكرين والأدباء والفنانين من مختلف المجالات، ممثلين لأربعة أجيال، لمناقشة قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة. كما سعى اللقاء إلى إعادة الاعتبار للثقافة ومنحها المكانة التي تستحقها في الساحة الوطنية، في ظل حالة الجمود والانحسار التي يشهدها المشهد الثقافي المغربي، رغم التطور الملحوظ في التنشيط الثقافي والفني خلال السنوات الأخيرة، وتنظيم العديد من التظاهرات واللقاءات الثقافية والفنية عبر ربوع المملكة.
أهمية هذا الملتقى الوطني الاتحادي للمثقفات والمثقفين، الذي سيبقى يوما مشهودا في تاريخ الحركة الثقافية بالمغرب  والمنعقد تحت شعار « الثقافة دعامة أساسية للارتقاء بالمشروع الديمقراطي التنموي»،  تأتي من الأهداف النبيلة التي يسعى من خلالها الملتقى، إلى استرجاع الثقافة والفعل الثقافي المكانة اللائقة بهما داخل المجتمع، والقاعدة الأساسية لرسم التوجهات والفلسفات الكبرى للفعل السياسي للبلاد،  وتعزيز الحوار بين المثقفين، وتبادل الأفكار، ومحاولة تطوير المشاريع الثقافية التي تسهم في إثراء المجتمع، وتجاوز حالة الجمود والارتهان التي طبعت مؤسسة اتحاد كتاب المغرب، كمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني التي تجر وراءها تاريخا مشرقا من العطاء والإنتاج والتأطير للفعل الثقافي بالبلاد، والتميز بالإشعاع الثقافي على المستوى  الداخلي والخارجي.
شارك  في هذا الملتقى عدد من الشخصيات البارزة في مجالات الأدب والفن والعلوم الاجتماعية، بالمغرب، ذات الوزن الثقيل، حيث قدموا خلال مداخلات قيمة لهم رؤى جديدة حول التحديات الثقافية، وترافعا ثقافيا كبيرا، وتحليلات للوضع الراهن، وتوصيفا للحالة السائدة، ورسم خارطة طريق مستقبلية لتجاوز حالة الجمود والانحسار التي تعرفها مؤسسة اتحاد كتاب المغرب.
ما ميز هذه  الجلسة الافتتاحية لهذا الملتقى الكلمة التي تقدم بها إدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التي ألقاها بالنيابة عنه أحمد العاقد، عضو المكتب السياسي للحزب، نظرا لأن الكاتب الأول كانت له التزامات مرتبطة بمهمة خارج أرض الوطن (أنظر الصفحة 3).
بعد كلمة الكاتب الأول قدم عبد الحميد جماهري، أرضية الملتقى، والتي ركز فيها على السياق الثقافي، وطنيا ودوليا، الذي يندرج فيه الملتقى، ثم الرهانات المعقودة على اللقاء، في وقت أصبحت فيه الثقافة «فائضة» عن المجتمع، مقابل عجز مؤسساتي في تفعيل البند الثقافي في مواكبة النهضة المغربية الحالية.
ودعت الأرضية ( انظر عدد السبت والأحد ) إلى الخروج بإجراءات عملية تسمح بتأهيل الفعل الثقافي مجتمعيا ورسميا، بناء على كال ما تراكم في النص وفي الواقع الحي …
انطلاقة الأشغال تميزت بنقطة تنظيمية أبداها المسرحي والإعلامي المثقف السي محمد بهجاجي، دعت إلى تشكيل لجينة من ثلاثة مقررين تتتبع التدخلات وتسجل ما هو إجرائي فيها على وجه الخصوص، لكي تعرضها ضمن التقرير الشامل، وهو الاقتراح الذي تبنته الجلسة، وتم اختيار الأسماء في شخص الكاتب والباحث الجامعي إدريس جبري وعبد الصمد الكباص ورشيدة الشامي .
بعد ذلك انطلقت الأشغال بتدخلات أثرت كثيرا الأرضية المقدمة من طرف الملتقى، الذي سير أشغاله الكاتب الصحفي طالع سعود الأطلسي، وتميزت التدخلات بعمقها، وكعب أصحابها العالي في المجال الثقافي والفكري، حيث أدلى المتدخلون بمداخلات حول المسألة الثقافية بالمغرب والوضع الراهن للمشهد الثقافي، وأهمية ومركزية الثقافة في المسار التنموي للبلاد، كقاعدة وخلفية موجهة لكل القرارات المصيرية في المستقبل، باعتبار الثقافة أشمل وأعم في تصوراتها ومنظوراتها وفلسفتها.
بالنسبة للدكتور المثقف عبد الله ساعف، الناشط السياسي والأكاديمي والوزير السابق في حكومة التناوب، فالفكرة الأساسية تتمثل في أن المجتمع المغربي يحتاج إلى منطقة واضحة المعالم مستقرة في خلفيتها الثقافية، المنطقة الفكرية التي نميل إليها خفتت أضواؤها لأسباب مختلفة سياسية أيديولوجية… خلقت هذه الفوضى وعدم الاستمرارية.
وشدد الدكتور ساعف على أن الحاجة ماسة إلى جزء واضح في الساحة المجتمعية، «نحتاج إلى نوع من الأنوية الصلبة المرتبطة بنمط التفكير المحدد».
وأكد ساعف كذلك أنه حان الوقت لنعيد بناء هذه المنطقة ونهيكلها بخصوصياتها ومجالات الإبداع والفن، وكل المجالات الثقافية من الشعر والقصة والرعاية والمسرح والسينما … مسجلا في الختام على أنه وقع خلط وتراجعات، فكيف يمكن بناء هذه المنطقة التي هي في صلب المشاريع الكبرى للبلاد.
ومن جهته، عبر عبد الدكتور عبد  الصمد الديلمي الكاتب وعالم الاجتماع، عن فرحه بهذه الدعوة الكريمة للمشاركة في هذا الملتقى بالرغم أنه على سفر في مساء نفس اليوم، بحكم أن الثقافة حقل مهمل من قبل السياسات العمومية.
وركز الدكتور الديلمي في مداخلته على دور المثقف في المجتمع من خلال تحركاته الفردية لكي لا يموت هذا القطاع، وحكى قصة له شخصية منذ أن كان أستاذا للفلسفة سنة 1975، حيث قرأ كتابا حول الثورة الجنسية، وأبهره الكتاب وأثر فيه، فيما بعد ذهب إلى فرنسا وعاش ثورة جنسية خلال سنة، ورجع إلى المغرب فوجد أمامه التقرير الأيديولوجي للاتحاد الاشتراكي ووجد فيه أنه لأول مرة يتحدث  حزب في المغرب عن المساواة بين الرجل والمرأة، الشيء الذي كان غائبا عن النقاش المغربي. هذه القراءة في سنة 1975 جعلته يسجل أطروحة دكتوراه حول « الجنس والمجتمع» مع الراحل الدكتور أبو السوسيولوجيا بالمغرب محمد كسوس.
وأكد الدكتور الديلمي من خلال هذه القصة الشخصية أن هذا الكتاب «الثورة الجنسية» لويليام اولرايش والتقرير الأيديولوجي للحزب والرهان الأكاديمي، بفضل هذا الثالوث الملهم وليس المحرم،أن خط مساره الأكاديمي والعلمي، مبرزا على أن الثقافة تلهم السياسة وتنير الطريق للسياسي وتعطي الاستراتيجية للسياسي الديمقراطي الحداثي المتنور.
ومن جانبه أوضح المؤلف والأكاديمي عبدالرحمان طنكول، أنه عادة ما يحس المثقف أو يحترم مختلف التصورات التي تهم المجتمع كي لا يسقط في الدغمة أو إعادة إنتاج الأفكار، لهذا يحترز السياسي من الثقافي، لأن المثقف دوره هو تفكيك الدغمة، «لكن بالنسبة للأخوة في الاتحاد الاشتراكي، أحييهم على هذه المبادرة، لأنهم يعلمون مسبقا أن هناك دغمة بين السياسي والثقافي، لكن الاتحاد الاشتراكي الثابت له أنه كان دائما مرتبطا بالثقافة وكان له مثقفون كثر ينتمون إلى علم السياسة والاقتصاد والاجتماع».
وسجل الدكتور طنكول بالمناسبة على أن هذا اللقاء  فيه إرادة للانخراط في ثقافة جديدة، ابستيمولوجية جديدة، باعتبار أن هناك خطابا حول الثقافة، خطابا مستهلكا، ما دام أننا انخرطنا في الشبكية، فالمثقف الفردي أصبح هو المهيمن، وقد يثمر وقد يحدث هزات.
وأشار الدكتور طنكول إلى أن هناك تجارب في العالم العربي وإفريقيا، وهناك تيارات أبانت عن العودة لصناعة الذكاء الجماعي يطرح بحدة، لأن المثقف الفردي أصبح منعزلا ومنقرضا، لأنه على الصعيد العالمي لم يعد قادرا على خلق الصدمة الاستيتيقية، مضيفا في هذا السياق على أن المثقف الفردي لم يعد بالقدرة بمكان أن يحدث منعرجا أو ايبيستيمولوجية جديدة، فلابد من الرجوع إلى الذكاء الجماعي لأننا نعيش في عهد الشبكية والذكاء الاصطناعي.
وشدد  المفكر طنكول على أن هناك إبداعا فرديا، لكن ضرورة الانخراط في الفكر الجماعي لأن هذه المبادرة جاءت في وقتها، فكيف للمغرب أن ينتج المستقبل لأننا أصبحنا نستهلك ما هو أوروبي وغربي واجترار الماضي في الوقت الذي كنا نبتكر المستقبل، لذلك ضرورة إعادة البناء بين الثقافي والسياسي.
بدوره نوه  الروائي البارز مبارك ربيع بهذه المبادرة التي أقدم عليها حزب الاتحاد الاشتراكي، معتبرا كذلك أن كلمة الكاتب الأول كانت جامعة وشاملة.
وتأسف الروائي مبارك ربيع للوضع الذي وصل إليه اتحاد كتاب المغرب حاليا، في الوقت الذي كانت فيه هذه المؤسسة ذات تاريخ عريق والمفروض فيها أن تكون إلى جانب المؤسسات العمومية السياسية والاقتصادية في بناء المغرب كل في اختصاصاته، بينما نجدها اليوم تعاني حالة الجمود.
وسجل في ذات السياق أن اتحاد كتاب المغرب عرف في السابق خلافات فكرية وأيديولوجية لكنها لم تصل بالمؤسسة إلى الجمود كمثل الوضع الحالي.
ودعا الروائي ربيع إلى ضرورة إحياء اتحاد كتاب المغرب وإيجاد مخرج عملي وقانوني لما فيه وضع هذه المؤسسة المدنية ذات التاريخ المشرق.
وأكدت المبدعة إكرام العبدي، رئيسة مركز بوكماخ بطنجة، أن الحاجة ملحة إلى خطاب ثقافي جديد متنور، ومن الضروري التأسيس لخطاب متنور لمواجهة الخطاب المحافظ التقليدي والمتطرف الذي يكتسح العقول، وهذا يتطلب دعم الأحزاب اليسارية التقدمية وفي مقدمتها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
ومن جانبه اعتبر الكاتب واليساري محمد أقضاض أن هذا الملتقى بمثابة مناظرة سياسية وطنية، وما الحضور القوي لهذه الفعالية الفكرية والمعرفية والفنية والأكاديمية إلا دليلا على أن هناك هموما ثقافية، مبرزا أن الثقافة كانت، في مرحلة ما، مشتغلة بالسياسة، وكان هناك تفاعل بين ما هو ثقافي وما هو سياسي، لكن اليوم هناك انفصال، وهذا الانفصال بدون بوصلة، ونعيش نوعا من التقوقع والتشرذم، ودعا أقضاض إلى الجمع بين ما هو ثقافي وسياسي كما كان عليه إلى حدود الثمانينيات.
وشدد  في نفس الوقت على أن انفصال الثقافة عن السياسة هو انفصال الثقافة عن الديمقراطية، وهذا أخطر  وانفصال عن التنمية الذي هو مزيد من الريع والفساد المالي.
من جانبه اعتبر الكاتب والمبدع عثمان أشقرا أن اتحاد كتاب المغرب كان يلعب دورا طلائعيا في الدبلوماسية الموازية، وكان متواجدا في المنتديات الثقافية العربية والدولية، لكنه اليوم، بسبب الجمود، غائب ومتخلف عن ذلك، ومقعده فارغ في اتحاد كتاب العرب، ودعا إلى تجاوز هذا العبث باعتبار أن الأمر أصبح يتعلق بالمصلحة العليا للبلاد وقضية وطنية مصيرية أن تترك المقعد فارغا للخصم في منتديات ثقافية عربية ودولية، منبها إلى أن الأمر أصبح مسألة سياسية وسيادية ووطنية، ودعا إلى ضرورة حل هذا المشكل المتعلق بمؤسسة اتحاد كتاب المغرب ليلعب أدواره الوطنية في دعم الثقافة الوطنية.
وأبرز من جهته عبدالرحيم شهيد، رئيس الفريق الاشتراكي المعارضة الاتحادية بمجلس النواب، على أن الحاضنة الفكرية والمعرفية والمثقفة التي كانت للفريق سابقا، مفتقدة اليوم، ونظل نستنجد بالزاد القديم، موضحا أن هناك تشتتا في مجال الدفاع عن المجالات الثقافية، بحيث نجد أن هناك فعاليات لمجال ثقافي معين تدافع عنه بشكل أحادي وغير موحد في إطار القطاع الثقافي بشموليته.
وأبرز رئيس الفريق الاشتراكي- المعارضة الاتحادية، أن البرلمان يعاني فكريا، بسبب غياب المنظور والتصور الثقافي.
كما تدخل كذلك في هذا الملتقى الشاعر محمد بنطلحة والكاتب الصحفي حسن نرايس والمخرج التلفزيوني والسينمائي الدكتور عبد الإله الجوهري والكاتبة رشيدة الشامي عن رابطة كاتبات المغرب وإفريقيا، والمحامي عبدالكبير طبيح والكاتب والأكاديمي مصطفى النحال والأكاديمي والناقد محمد الداهي والدكتور محمد بوكري والأكاديمي سفيان المديني، وأجمع هؤلاء على أن الثقافة هي التي تولد السياسة، حين زاوج المغاربة مابين الثقافة الشرقية والعربية، لعب المثقفون أدوارا طلائعية وأثروا العمل السياسي والأخلاقي، كما أكدوا على أن الوقت مناسب اليوم باعتبار أن عددا من الملفات والقضايا الوطنية حاضرة في النقاش العمومي، جوهرها نقاشي ثقافي، ومبدئيا وسياسيا، في المرتبة الثانية، كما شددوا على ضرورة أن يتحمل المثقفون المسؤولية في الحضور والتواجد وإثبات الذات.
إلى هذا، تلت الكاتبة الصحفية بديعة الراضي البيان الذي صدر عن هذا الملتقى، والذي يتضمن توصيات ومقترحات عملية نابعة من النقاش الجماعي وخارطة الطريق المستقبلية.
وفي الأخير، اختتم الملتقى الشاعر والكاتب الصحفي عبد الحميد جماهري بكلمة مقتضبة، توجه من خلالها بالشكر والتحية والتقدير إلى كل الهامات الثقافية والفكرية والمعرفية والفنية على الحضور والمساهمة الفعالة في إنجاح هذا الملتقى،  ووعد الجميع بتنفيذ التوصيات والمقترحات العملية وخارطة الطريق في أقرب الآجال، خاصة اللجنة المتعلقة باتحاد كتاب المغرب، للخروج من العطب المزمن،  والمنتدى الثقافي وهياكله والبرامج الوطنية والجهوية التي تهم الشأن الثقافي والحوار الأوسع لعقد المؤتمر القادم.


الكاتب :   الرباط: عبد الحق الريحاني

  

بتاريخ : 24/02/2025