في بيت مكترى بحي الحرش… عمر بنهدي، صوت العيطة الذي تواطأ الصمت على نسيانه

في الركن المنسي من مدينة جمعة اسحيم، وبالضبط في حي الحرش، حيث يختلط غبار الأزقة بأنين الزمن، جلستُ مرات عديدة إلى جانب شيخ يغني بصوت لا يشبه ما نسمعه على خشبات المهرجانات. الشيخ عمر بنهدي، واحد من آخر حاملي السر، ممن كانوا ينفخون الروح في فن العيطة الحصباوية، ليس من أجل التصفيق، بل من أجل الاستمرار.
ذلك البيت، المكترى بدرهم معدود، الذي يجمعه ومجموعة من رفاقه، لم يكن مكانا للراحة. كان أشبه بـ»زاوية» فنية عفوية، يتدارسون فيها العيطة كما تتدارس الكتب المقدسة، يتذكرون بها من رحل، ويتقاسمون صينية شاي فقيرة الطعم، لكنها غنية بالمعنى. كان فيها شيء من الطقس، شيء من الطهارة، وشيء كثير من الغبن.
عمر بنهدي لم يكن مجرد شيخ يؤدي العيطة، بل كان حاملا لذاكرة حية، تتلمذ على يد الشيخ الكبير عبد الرحمان الترين، أحد أعمدة العيطة الحصباوية في منطقة عبدة.
هذا الامتداد العميق لهذا الفن، من الترين إلى بنهدي، هو ما أعطى لهذا الأخير شرعية لا يمكن محوها، حتى وإن حاول البعض ذلك.
ورغم عمق هذه الجذور، فإن الشيخ عمر، كما الشيخ الترين، لم ينالا ما يستحقانه من تقدير. الأسوأ من ذلك أن من تصدروا اليوم مشهد العيطة في عبدة وآسفي، ممن يطلقون على أنفسهم «شيوخ العيطة»، تنكروا لمن سبقهم، وتجاهلوا عمدا أصواتا حملت هذا التراث في فقرها، وفي ألمها، وفي وحدتها.

العيطة ليست فلكلورا… بل حياة

حين كنت أستمع لعمر بنهدي وهو يغني «خربوشة»، لم أكن أسمع مجرد أغنية. كنت أرى أمامي مشهدا دراميا متكاملا: صراع سلطة، امرأة ثائرة، مجتمع خائف، صوت يعلو وسط الخوف. وهذا ليس غريبا، فالعيطة – كما أفهمها كمخرج مسرحي – بنيَة درامية كاملة، فيها الحدث، والتوتر، والتكرار الدرامي، وفيها حتى الجوقة (الركبة) التي تلعب نفس دور «الكورس» في المسرح الإغريقي.
العيطة الحصباوية، خصوصا في عبدة، ليست للفرجة السريعة. إنها مرآة مجتمع. هي المكان الوحيد الذي كانت فيه المرأة تجاهر بالحقيقة، والذي كان فيه الفلاح يلعن الظلم، والذي كان فيه الصوت أداة مقاومة قبل أن يتحول إلى منتَج.

الإقصاء الفني… حين تُسرق الشرعية

ما يؤلم حقا، ليس فقط موت عمر بنهدي بصمت، بل عيشه في ظل إقصاء منهجي ممن يفترض أنهم الورثة الشرعيون لهذا الفن. هؤلاء، الذين يتم تقديمهم اليوم في وسائل الإعلام، يروجون لعيطة مزيّفة، منمقة، تعرض على الخشبات بملابس تقليدية باهظة، لكنها فارغة من المعنى.
في المقابل، مات عمر بنهدي فقيرا، مهمشا، لكنه غني بصوته، بتاريخه، وبالشرعية الفنية التي لا تشترى. عايشته في جلسات بسيطة، سمعت منه ومن مجموعته كيف كان يتم إبعادهم من بعض «المهرجانات» لأنهم لم يكونوا ضمن لوائح علاقات لا علاقة لها بالفن.
الواجب اليوم: التوثيق، التكريم، والمصالحة مع التراث الحقيقي.
إن ما يجب فعله اليوم ليس فقط البكاء على عمر بنهدي، بل إعادة النظر جذريا في طريقة تعاطينا مع فن العيطة:
* نحتاج إلى أرشيف وطني حي، يوثق بالصوت والصورة شهادات من تبقى من شيوخ العيطة الحقيقيين، ويعيد الاعتبار لمن سبقونا.
* نحتاج إلى مشاريع مسرحية وسينمائية تنقل قصص العياطين إلى الشاشة والخشبة، لا كتراث متحفي، بل كدراما إنسانية.
* نحتاج إلى مهرجانات محلية صادقة، لا تخضع للمحسوبية، بل تبنى من رحم الأرض التي أنجبت هذا الفن.
* والأهم: نحتاج إلى مصالحة مع ذاكرتنا الشعبية، ومع أسماء مثل عمر بنهدي وعبد الرحمان الترين، الذين غنوا من القلب، وماتوا خارجه.

كلمة وداع… بصوت خافت لكنه عميق

وداعا شيخ العيّاطين… وداعا عمر بنهدي.
لم تكن لك قاعة توديع، ولا منصة خطاب، لكن لنا نحن صوتك، ونحن – من جلس إليك واستمع لك وتعلم منك – سنظل نحمل صداه. سنحكي عنك، لا كفنان منسي، بل كصوت أصيل، قاوم التزييف والغبن، وبقي واقفا حتى في الفقر.
ستبقى حيا في صوت من سيغني غدا، في ركبة لم تتعلم من «اليوتيوب»، بل من الأرض، من الركبة، من فمك الذي لم يخن العيطة يوما.


الكاتب : علي الخراز

  

بتاريخ : 10/07/2025