في تجـديـد نـداء مـراكش الــثقـافـي

«الثقافة هي أسلوب حياة، الأسلوب المشترك لمجتمع بأكمله من علمائه إلى فلاحيه» مالك بن نبي

في أواخر تسعينيات القرن الماضي، أطلقت شخصيات ثقافية وفكرية من مختلف المشارب والاتجاهات، نداء ثقافيا بمراكش، قارب بالنقاش والتحليل أهم التحديات المشتركة التي تواجهها المدينة في تسخير قوة الثقافة لإنشاء بيئات حضرية أكثر حيوية وتماسكًا وشمولاً.
وكشفت الجلسات النقاشية المستفيضة التي هيأت لإطلاق النداء إياه، مدى أهمية إشراك الفعاليات الثقافية والفنية في باراديغم التفكير الجماعي، في سيرورة هذا الفعل، وإيلائه ما يستحق من الاهتمام، في ظل سيطرة «الخرافة» و»الميوعة الشعبوية» واكتساح الأكاذيب السياسية للمجتمع، وانفضاض المواطنين عن تاريخ عمرانهم وثقافتهم وقيمهم الأصيلة، وتمنعهم عن مواجهة تحديات العصر الجديد وتحولاته.
وعلى ضوء ذلك، استنتج المجتمعون، وضعية الهشاشة الهيكلية في القطاع الثقافي والفني بمراكش، واندحار رمزية المدينة، كنافذة حضارية للتراث والثقافة، وتضاؤل قدرة الإدارة السياسية على تملك زمام المبادرة، لتشكيل طفرة جديدة، منحازة للشرطية المتجددة للهوية الثقافية، مع ما يواكب ذلك من موارد مستدامة، وتهيئة الظروف اللازمة لتأسيس واجهة متماسكة من المواهب، القادرة على الإبداع والتأثير وتطوير الأدوات.
ومن موقع مسؤوليتها، ككتلة ثقافية اقتراحية، مدركة لما يمكن للمدينة أن تتقمصه كلاعب أساسي في طليعة الاستراتيجيات الكلية التي تؤثر على التخطيط الحضري، والتنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي والاستدامة البيئية، وغير ذلك، وجهت اللجنة المفكرة نداء يدعو إلى إعادة تقييم السياسة الثقافية ببلادنا، وجعلها في صلب جداول الأعمال والبرامج التي تخطط لتنمية المدينة، وذلك بإشراك الفاعلين والخبراء والباحثين، وانخراط الأجيال الشابة في تطوير السياسات الثقافية، من أجلتعزيز الثقة وسد الفجوات الثقافية بين الأجيال. مع ما يشكل جانب جذب الاستثمار من مصادر مختلفة، من فعالية واستحقاق على المستوى المنظور والحاسم. والنماذج الثقافية الأوربية الناجحة، الدالة على التخطيط وبعد النظر، دليل ساطع بهذا الخصوص، نستدل مثلا، بتجمع مبادرة «المواثيق الثقافية» بالمملكة المتحدة، والتي تجمع بين قطاعات القطاع الثقافي والتعليم والصحة والتنمية التجارية لإعطاء الأولوية للثقافة في جذب الاستثمار والمواهب إلى الداخل.
نفس الشيء بالنسبة لمشروع «تعاون دوسلدورف» مع شركة مختصة من قطاع الطاقة في البنية التحتية الثقافية ونماذج الرعاية الثقافية المتنامية التي تجتذب التمويل من الأفراد ذوي الثروات العالية والمؤسسات المحلية والمقيمين.
وعلاوة على كون المدينة أصبحت بشكل رئيس في طليعة التحديات التنموية – كالفقر وعدم المساواة وزيادة التوتر، والتدهور البيئي، إذ غالبا ما يؤدي التحضر السريع وغير المنضبط إلى تجزئة اجتماعية ومجالية ونفسية، وتدهور حاد في نوعية البيئة الحضرية، وهو ما لا ينبغي النظر إليها كمصدر للتحديات فحسب، بل أيضًا كمقدم للحلول من أجل مستقبل أكثر استدامة.وفي سياق تتفكك فيه المجتمعات بشكل متزايد، تبرز المدينة كأرضية موثوق بها للممارسة الكاملة للتنوع الثقافي والاعتراف به، كمساحات تم فيها صياغة التنوع والاحتفاء به عبر التاريخ.
وهنا يمكن استحضار مشروع اليونسكو، الذي يؤكد على دور المدن كمختبرات في الهواء الطلق أوالفضاءات المفتوحة، من بينها الأحواز والجبال والمداشر كتعددية سيكون حاسما للتعايش السلمي وتعزيز الحقوق الأساسية في المستقبل، حيث أن التنوع الثقافي هو عنصر جوهري في مجتمعاتنا، لا سيما داخل المناطق الحضرية، في ظل المجتمع الدولي المشترك.

مدينة الثقافة

تقع المدينة في صلب مفهوم الحضارة، أو يقع شكلها المثالي كنتاج للتحضر والتطور التقني والمادي، دون تناسي ضلعها الرمزي والاعتباري. بنفس الوجه الذي تعتبر فيه الثقافة تراثًا للمعرفة والتمثلات الثقافية والعمرانية وطرق العيش والتفكير، حيث تُترجم في نطاق ذلك على أنها ثقافة مخصوصة أو خاصة لشعب أو أمة.
أما عرض الثقافة الذي هو جزء من فهمنا لعوالم التحضر ونهضته، فيرتبط بالقاعدة البنيوية الصلبة التي تقوم عليها،ومن خلال ذلك تتمظهر الهندسة المعمارية والمؤسسات الممثلة لها، كالمتاحف والأوبرا والمسارح والمكتبات ودور النشر. إنها حاضرة دائمًا في النسيج الحضري، وهي العلامات الثقافية للعصر وخطاب الأمة ورؤية الحداثة.
وفي سياق تعاطينا مع الثقافة، تقوم الجهات الفاعلة بوضع استراتيجيات متعددة لتحريك برامجها وتعزيز أصولها التراثية، ومن خلال ذلك تتنافس الأطراف مع المركز، وتتنوع المرافق والفعاليات وتتعدد المخالص والارتهانات، الشيء الذي يؤدي إلى تقوية وترسيخ ما نسميه ب»التشابك الثقافي» والتشاركيات المتفاعلة بين المدن والضواحي والريف، حيث تتوطن العلاقات التفاعلية بين الثقافات الكلاسيكية والثقافات الناشئة، بين الجماهير المؤتزرة والجماهير المفتوحة.
نطرح هنا سؤالا جوهريا، يتعلق بطرق وإمكانيات تطور الثقافات الطرفية périphériques التي تتشكل لتحول نفسها من أجل أن تتكيف مع البيئات، فتشارك ثقافات الضواحي والمهرجانات والثقافات التراثية والمهرجانات الحضرية الكبرى في هذه التوشيحة الحية، مما يسمح للمقيمين بنشر معارفهم وأفعالهم وإعادة تحديد مكانهم في المجتمع؟.
هل مأمول في هذه الامتدادات الإستيتيكية الواسعة أن تتدبر بحكامة داعمة، وروح انتصار للفعل الثقافي وانتظاراته، من خوض رهانات النهضة واستخلاص نظام عصري يستجيب لمتطلبات إنسان اليوم، وقيم الحداثة والعولمة الجديدة؟.

مراكش في صحوتها البطيئة

ينشغل الناس اليوم في المدينة الحمراء، في متاهة الاجحاف وسوء الطالع والتقدير السيء، التي ترزح تحت نيرانها مدينتهم التاريخية. ففي الوقت الذي تتسارع أخبار التحولات التنموية بمدن أخرى، ومقدراتها النهضوية المتعددة، في مجالات البنى التحتية والتفكير والتخطيط الاستراتيجي على المديين القصير والمتوسط، تتعالق أسئلة التيه والتلف وانعدام الرؤية في وعاء جماعة مراكش، وتطرح كمائن ومفارقات ثاوية، من قبل دور المدينة كمحرك للنمو الاقتصادي مع تزايد التحضر في العالم. وأين نحن من ملاءمة وضعها الاعتباري في أفق استعادتها لهبة قوية وصادمة كمدينة استراتيجية تفتح أدرعها لتنمية الشباب واستثمار الكفاءات من أجل الاستفادة من الفرص.
وكثيرا ما تتساءل النخب عن استراتيجية تنمية المدينة كأداة تساعد في تسخير إمكانات التحضر، حيث تمكن من تطوير إمكانيات التطوير والموارد البشرية والعلمية والإدارية، والربط بين النمو الاقتصادي وأهداف الحد من الفقر، بما في ذلك، في كثير من الأحيان استراتيجيات تطوير الأحياء الفقيرة على مستوى المدينة. لكن، يصطدم هذا المعطى، مع ما تتعسفه مفاهيم تنمية المدينة، وارتداداتها السلبية على مستوى الاستدامة والتطوير والجودة،وافتئات تعزيز النمو العادل في المجال الحضري والمناطق المحيطة بها، التي تختفي فيها مضمارات تحسين نوعية الحياة لجميع المواطنين.
إن استراتيجيات التنمية المستدامة تساعد المدينة على دمج نهج التنمية الاستراتيجية بمنظور طويل الأجل في تخطيطها الحضري. ومن خلال استراتيجية التنمية المستدامة المتوخاة، تنتقل المدينة إلى ما هو أبعد من التخطيط حول دورة القوى السياسية ناجعة وفعالةتتفاعل مع الأدوار المؤسساتية الموازية، وكذا الخطوات التي يتعين اتخاذها لتحقيق هذه الأهداف، إلى جانب ما يقوم به المجتمع المدني الذي يتم إشراكه بشكل جيد وفي التوقيت المناسب حتى يتمكن من الإسهام في التغير بشكل كبير مسار تنمية المدينة وتحسين أدائها.

مــــاذا بعد ..؟

يبقى سؤال الثقافة مرهونا بمدى قدرة النخب ونشطاء المجتمع المدني والقوى السياسية الحية على استلهام عبر التاريخ، تأسيسا على احتفاظ الثقافة ببعدها الاجتماعي، لكي يكون بإمكانها أن تمثل نقداً فاعلاً ومؤثراً، كما لم يعد باستطاعتها أن تقفز عائدة إلى معناها الباكر حسب وصف تيري إيجلتون.
على المثقفين وصناع الأفكار وفلاسفة النقد أن يستعيدوا أدوارهم لمواجهة سيول التفاهة والقبح وسقوط القيم.
عليهم أن يبدعوا في عرض أصواتهم واختياراتهم، بنسق خطابي مقنع ومتفاعل مع المنظورات الجديدة لوسائط الإعلام وعولمياته، وطرق تصريفها التكنولوجي والمعلومياتي.
على الفاعل الثقافي أن يواكب انتقالات المجتمع الثقافي، ومدى تدبيره لمشكلات العصر وأولوياته الراهنة، كالهوية والتعدد الثقافي واللغوي، ومنهجيات التعليم وخصوصياته البيداغوجية والديداكتيكية.
ولا يمكن الحديث هاهنا عن الثقافة، دون استحضار منظومة الإعلام والصحافة، التي هي مركز السلط الأخلاقية والثقافية، وبوصلتها في نشر المعرفة واستقبال المعلومات ونقد ومراقبة المشاريع.
إن التفكير في تشاركية مجتمعية شاملة، يكون إطارها الرئيس قائما على تحديد الأهداف والأولويات وتجويد آليات التنفيذ والمراقبة والتقييم، هو الوجهة السليمة، لأي مبادرة من شأنها أن تستبشر أملا في استعادة الجذوة وتنبيه الغافلين، من خطورة الإقصاء والتسخيف. على أن تتشكل إحفازات محورية متجددة حول رص الصفوف وتأسيس جبهة مناضلة وذات مصداقية، لجعل الثقافة عمودا فقريا في تنمية المدينة والإنسان.


الكاتب : د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

  

بتاريخ : 13/09/2024