عزري: يرسم بصدق ما عاشه ويكتب بقلم شفاف شاعري
وبلغة متينة وعذبة ودقيقة
شهد المركب الثقافي سيدي بليوط، مساء الجمعة الماضي، تقديم كتاب «العين ترنو… والكلمة تشاء» للكاتب والصحفي أحمد الطاهري نظمته فرقة «مشكال كاليد وسكوب»، وشارك فيه الكاتب والإعلامي عبد الحميد جماهري، والمسرحي عبد الواحد عزري، سيّره القاص الأستاذ عبد النبي دشين، بحضور العديد من المثقفين والفنانين والمسرحيين والمبدعين.
في مستهل كلمته قال عبد الحميد جماهري: «أحمد الطاهري كان دوما، في يوميات علاقاتي الانسانية أو المهنية اسما يتلألأ من بعيد، في لغة محمد بهجاجي ولحسن العسبي وثم الآخرين بعدها، غادر ليتنقل بين العواصم، قبل أن يأتيني على هيئة كتاب ستتأسس القرابة أو التواطؤ علي مدار الصفحات، مع توالي الأسماء التي نشترك فيها، لغة أو حياة لكتب وصحافيين، هنا وهناك، وتتقوى الشراكة مع الشعر تحديدا. ولو كنت منصفا لقلت أن أفضل تقديم للكتاب الآن هو أن أقرأه عليكم صفحة صفحة، جملة جملة، لما في قراءته من إغراء لا يحسن بي أن أنقص منه أو أن أزيد قليلا».
وأشار الشاعر جماهري إلى «التقديم الرائع والوافي الذي كتبه نزار الفراوي بحب باهض، و بحبر القلب وبعنفوان سجيته وشعرية لا نثار عليها. دم يغلي في الظل. عنوان ماسىُّ يغري بالسرقة الأدبية المقبلة».
وتابع: «تفكر من داخل فخ محكم، مفاده أنك تبني أفق انتظار على أساس أن الموقع أعلاه في الغلاف ، قادم من وكالة المغرب العربي للانباء، وبالتالي لا بد أنه محكوم بصياغة النبأ في حدوده اللصيقة بالواقع والزهد الاستعاري كما تعودنا تلقي القصاصات الصادرة عن الوكالة، حيث يكون الكاتب، في التحرير الصحفي مطالبا بالمراوحة عند الدرجة الصفر في اللغة. لغة بلا أعضاء ولا أطراف بلا خيال. لغة تكاد تكون مُقْعدة من شدة التقعيد الأسلوبي. لا قدرة لها علي الانزياح».
واستطرد: «تفرح بكثير من النشوة عندما يتخلخل أفق الانتظار كما يحب النقاد قول ذلك. فتكون مصاحبة الكتاب قراءة للدهشة والإمتاع في مترادفات صقيلة للكلمات. احمد الطاهري ، الذي يصبح في حميمية القراءة احمد فقط، يدفع باللغة نفسها الي حركة ومتعة من خلال متابعة ما يقع في المحاولة الأولى. تقرأ ، ثم تشعر ، في غمرة عزلة ذاتية، حرة، متداعية تتذوق نفسها بأن الكتاب يستحق قراءة ثانية..
في القراءة تبدأ من آخر ما ورد فيه من فصول تلك المراثي البديعة، وهي بالمناسبة مرثيات ليست للحزن بالضرورة. فالرثاء هنا، في استرجاع غياب الوالد كما لثريا جبران أو بادريس أو الصديق البقالي، تحوله اللغة في الغياب الى جنس صحافي.. فلا حزن يستقيم مع موت يتدلى من سماء زرقاء ولا حزن مع موت يطفو فوق بحر «المنصورية» الهاديء. وتسطر باندهاش أن اللغة هنا ثقب الله الاسود في قلب كاتبها. هنا تمتحن اللغة «صمتها» وتكشف معدنها ومادتها الخام «الغياب» في تجواله الدولي، يعود الينا بنصوص خبرية، وكل ما كان خبرا في حياة الاخر ، جزائريا او لبنانيا بحرينيا، يصير حكاية، بعد أن كان يشِّيد الصحفي الكاتب بلغته مقامات، ودوالَّ بلاغية (المقامة الجزائرية، واللبنانية والبحرينية) وهي مواقع في الكلمة بناها بمزاجه الذي لا تجبره عليه المهنة فقط..
ويتبين لنا أن الصحفي أحمد الطاهري يصل في الوقت المحدد للفاجعة، كما لو أنه على موعد مع الفيضانات في الجزائر او الإرهاب أو الحرب في لبنان، كما حدث ذات سبت نونبري مع القنابل المدسوسة في يوم طوفان مطري بالجزائر.
في المقامة الجزائرية، تداعيات أزعم أن فعلها ما زال مستمرا في الواقع حتى الآن. مقالة الموز 2002 والتي كانت، ربما وراء تأسيس اسطورة هاته الفاكهة حتى نكاد نخمن «ويل لمن اشاروا اليه بالبنان.. حتى صار من المنطقي أن يأكل المواطن الموز فهذا ليس خبرا، لكن ان يهضم الموز المواطن فهذه هي القصة ..
الجزاير التي في التفاصيل هي زعيم الجماعات المسلحة عنتر الزوابري ذلك الوحش الذي سقط مثل حبة بطاطس الذي سنجد صورته في تجسيد حسن الصباح «عندما كان عنتر الزوابري يحتمي بغابات جبل الشريعة كان يقضي أوقاته متكئا على وسادات الحرير وزرابي الصوف محاطا بصواني المأكولات والشراب في مأمن من هجوم محتمل من طرف قوات الامن والصبايا في ذهاب وإياب إلى مقامه يعيث فيهن ما شاء قبل أن يهديهن لأعوانه نكتشف أنه مند عشرين سنة كان ارهابي اسمه عنتر يتدرب على إعادة بناء الجنة في جبال الجزاير.
..جزاير أخرى، كانت تقاوم بالداكرة، أي جزائر الأمير عبد القادر قبل استدراجه الي مُضارع التفاهة في التنابز السياسي ، وجزاير تتعافى بالأغنية (1700 أغنية في سنة واحدة للراي وحده). جزاير تقيم ما بين نوبات الجنون ونوبات الاندلسي. وفي جزاير 2004 اصل اسوارة الكرة كعنصر تأزيم (ص47 ).
في كتاباته، يبدو فارسا يطهِّم خيالا (لا خيولا) رؤيا نقدية كما يليق بصحافي ثقافي ومثقف، لا ينقل المعنى وحده بل يساهم في صقله. يحدث بوضوح في قراءة رواية حنان الشيخ التي تمنح لسانها لامها فتشتركان في الصراخ ضد لبنان الرهيب. وفيه نصوصه الأدبية الأخرى (طباق موسيقي واضح) تتجاور فيه شاعرية الحديث عن الشعر مع شاعرية النثر في الكتابة عنه. هاته الشاعرية تكمن في إعادة تشكيل موسيقي لصورة ما يراه ويعيد كتابته.
في الفصل البديع عن لبنان كذلك يكيف الطاهري مزاج القاريء المغربي بتقلبات الطقس اللبناني ، أحيانا بطريقة الرواية البوليسية،كما في قضية الالماني ميليس واغتيال الحريري (ص 77) في لبنان الطاهري تكون الحرب تنينا جريحا، وشرفات البيوت إقامةً ثانية لاحتمال النجاة.. نصوص يقطة يتأبد فيها العماء البشري في صيغته العربية (ص 97) عن الفلسطيني النازح من مخيم الي المخيم الذي يليه.. وفيها توصيف لانعكاس السياسة على الفرح، أو كيف تكون خبيرا في الجيوسياسة لتنجح في عقد قرانك على شريك الحياة (ص101) وفي علاقة التوازن العسكري بين الفصائل وتاثيرها في طريقة التقبيل.. وآثار حرب العراق على شفاه نانسي عجرم.
في لبنان نصاحب في السنة الأولى من عصر تسطيح الروح (ص 68) وقصة العاشق اللبناني والعاشقة المغربية برعاية كاتودية، ونكتشف شعراء يهربون الى قبور امهاتهم للاختبار من الالم وعواطف شديدة اللجة..
واذا كانت هناك عواصم معروفة، ولها أماكنها وفضاءاتها، فإن هناك ايضا اماكن بلا هندسة. هي القصيدة. في عاصمة الألم كما عند بول إلوار أو في مغازلة الشعر عند الذين أَحبهم..
في البحرين. كل بحور الشعر الأخرى. آهل هذا الفصل بالثقافة والحضور الشعري الداهم. وتبدا البحرين بقاسم حداد صاحب الأركانة الذي احتفلنا به في الشهر الماضي. البحرين هي عاصمة الديوان الفادح لقاسم حداد «سماء عليلة» تسعل ونسمع حشرات الشاعر فيها دعوة إلى جعل كل عدو ضوء محتملا..
من التواطوات التي لا اخفيها، ثبوت حالة شعر طافحة تعكس انحيازه للشعر..
من أبريل وفاء العمراني في الجزاير إلى ابريل حسن نجمي في لبنان بيروت إلي فبراير البحريني لمحمد بنيس، حالات الشعر المغربي في تخوم الخط الطول والعرض العربي ..
يبدأ لبنان من جمانة حداد مع عودة ليليت كما تبدأ البحرين من قاسم حداد مع «سماء عليلة». تلويحة لاهوادة فيها. تتلبس فيها جمانة قميص ليليت المفترسة، أسنانها الشرقية وحريتها العالية. تصير غريبة عن العالم.. ويثبت احمد الطاهري أن الشعر في لبنان مغارة يصعب استغوارها بدون نداء ليليتي بلغة خاطفة. لغة تتغدى من خياله ومن جسد الشاعرة ومن طيف لبنان ومن نفسها كذلك..
وباللهب ذاته تحتفل الأسلوبية في كتابة الطاهري بالشعر وتقوده إلى السياسة..
بالرغم من الصرامة الأسلوبية المطلوبة في القصاصة والنص الخبري، فإننا نستشعر وجود واقع آخر تحت تظليلات trame اللغة، وهذا يبعث السعادة عند كل قاريء يبحث عن «الكنوز»..
من جهته، قدم عبد الواحد عزري لكتاب «العين ترنو .. والكلمة تشاء»، قراءة في الكتاب استهلها بما يلي : «حين تقرأ كتابا لكاتب لا تعرفه فأنت تقرأه بنوع من التجرد قد نسميه الموضوعية أو التباعد، ولكن أن تقرأ للعموم كتابا لصديق عزيز عليك فإنك تقرأه كأنك تقرأ نفسك.
هكذا قرأت هذا الكتاب واستمتعت بقراءته كثيرا، لأنه يرسم بصدق ما عاشه ويكتب بقلم شفاف شاعري، وبلغة متينة وعذبة ودقيقة، وهو يدخل في باب الحكي أكثر منه في لغة التقرير الصحافي الجاف، لهذا استمتعت بقراءته».
وأضاف المسرحي عزري: «أجدني فخور بالاحتفاء بهذا الصديق العزيز السي أحمد الطاهري، وهذا الكتاب الجميل والعذب قرأته بكثير من المحبة والمتعة كذلك، بسبب لغته العذبة الشاعرية، صدقه ودقته، غنى معلوماته وطوافه الرائع عبر عالم عربي لا تجمعه إلا هذه الكلمة وإلا ماذا يوحد أو يجمع بين المغرب والجزائر ولبنان والبحرين».
زرت هذه الدول لا يجمع بينها شيئا، لا الأكل ولا الطعام ولا أساليب العيش ولا الكتابة نثرا أو شعرا وحتى التاريخ، يقول الكاتب المسرحي عبد الواحد عزري، غير أن الأخ أحمد الطاهري استطاع بين ضفتي هذا الكتاب أن يجمع لنا هذه الشعوب والقبائل إن صح التعبير ما قد يجمعها وما أقله وما يفرقها وما أكثره.
فالسي أحمد الطاهري، يقول عزري، ينتمي لجيل جديد من الصحافيين يشتغلون بحرفية متفتحين على المجتمع والعالم ، درّس في الجامعة المغربية.
الكتاب الذي بين أيدينا وكاتبه، نلاحظ أن جزءا كبيرا من النصوص سبق نشرها، وهي تنقسم إلى أربعة فصول:أولا …. وهي القسم الأهم لأن السي أحمد الطاهري وجد فيه مادة دسمة
الجزائر كوارث طبيعية وقلائل أمنية
لبنان العصي على السقوط
البحرين المحرق قلعة الثقافة الشامخة
//تخص المغرب كثيرا// نصوص سردية
ونستطيع أن نلاحظ أن غلب النصوص هي حول الجزائر
وأن النصوص السردية أي الفصل الرابع خاصة بالمغرب
أريد أن أعود لنقطة أساسية ستكون لنا مفتاحا مهما لفهم الكتاب، أنا حين أقرأ في الإعلان عن اللقاءات حول الكتاب، تُساءلنا عبارات «الصحفي الأديب» وهي عبارة لم نتعودها من قبل وبعد انتهاء الصحفيين لمهمتهم ينسحبون في هدوء، هذا هو الأمر العادي.
إلى جانب ذلك هناك كتاب لاعتبارات تتعلق بكل واحد منهم يبدؤون كصحفيين، ولكنهم يخبئون في أنفسهم كتاب، وسأعطي أمثلة من المغرب، وخارج المغرب: جون بول سارتر – فرنسا، بدأ مساره في الصحافة «في مجلة les temps modernes»، وبعدها إلى الكتابة في الفلسفة والمسرح والرواية وغيرها، ونجيب محفوظ بدأ بجريدة الأهرام ليصبح روائيا لنقل أكبر الروائيين، ثم سيناريست وحاصل على نوبل.وفي المغرب عدة أمثلة سأسوق بعضها .. عبد الكريم غلاب كان وظل صحافيا ومديرا لجريدة العلم، وهو من أهم الروائيين المغاربة. وعبد الجبار السحيمي لم يستطع أن يذهب بعيدا في إبداعه القصصي بعد «الممكن المستحيل» لأن الصحافة اتهمته بالجاهل. ونفس الشيء بالنسبة لإدريس الخور والأمثلة كثيرة لابد أن أشير لمحمد برادة الذي كتب كثيرا في الملحق الثقافي للمحرر و الاتحاد لاشتراكي ليأخذ طريقه للرواية. دون أن ننسى محمد بهجاجي بعد اشتغاله كصحفي ليكتب للمسرح كمتابع وكمؤلف مسرحي يقدم في كل عواصم العالم.
الأمثلة كما قلت كثيرة وهي تنبأنا لمستقبل زاهر لكاتب الجريدة بهذه اللغة الشاعرية، وهذا البعد المعرفي وهذا التواضع وهذه التجربة والمعرفة العميقة للعالم العربي وآدابه وأحواله وفنونه ورجالاته.