الاتحاد الأوروبي يمسك بالعصا من النصف بين بكين وواشنطن
منذ أيام، خرج تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي حول «كوفيد- 19»، بلهجة مخففة للغاية، التقرير الذي قال إن بكين نشرت معلومات مغلوطة حول الوباء وانتقد بعض الممارسات الصينية الأخرى، قالت «رويترز» عنه وحسب مصادر ومراسلات دبلوماسية إن الصين قد مارست ضغوطًا واستخدمت نفوذها للتخفيف من حدة اللهجة التي خرج بها بمعنى أن التقرير قد تم إفراغه من مضمونه.
أوروبا وأنصاف المواقف
في الآونة الأخيرة، بدا الاتحاد الأوروبي يغرد بعيدًا عن السرب الأمريكي بمسافة لا يستهان بها، فحتى بعد قيام زوارق إيرانية بالتحرش بسفينة أمريكية ظل الاتحاد الأوروبي على موقفه “الوسطي” تجاه طهران وهو الموقف المتماشي مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق” باراك أوباما” ونائبه “جو بايدن”، وهو الأسلوب الذي أثبت فشله على مدى ثمانية سنوات من حكم أوباما والدليل أن طهران اليوم تعمل على تطوير منظومتها من الصواريخ الباليسيتة دون أي غطاء عالمي، وإذا وضع ذلك إلى جانب أن حظر توريد الأسلحة إلى طهران سينتهي بحلول أكتوبر المقبل فإن إخفاق الإدارة الأمريكية السابقة في تحجيم إيران يبدو واضحًا دون الحاجة إلى إشارة.
الرهان اليوم في الداخل الأمريكي قائم على أن الرئيس الجديد الذي سيجلس على كرسيه في البيت الأبيض سيتوجب عليه إيجاد طريقة للتعامل مع النظام الإيراني بأسلوب لا يسمح له بالاندماج في النظام العالمي بأي طريقة بعد الآن، حتى وإن كان الاتحاد الأوروبي الذي صاغ آلية مالية للتعامل مع الإيرانيين بعيدًا عن العقوبات الأمريكية «لا يحبذ ذلك».
بكين لوحت «التقرير سيغضبنا للغاية»
بالعودة لتقرير الاتحاد الأوروبي «المخفف» فإن وزارة الخارجية الصينية وكالعادة امتنعت عن تفنيد الادعاء وآثرت عدم التعليق على ما وصفته بأنه «محتوى مزعوم».
مصادر متعددة أكدت لـ»رويترز» أن التقرير المعني كان من المقرر نشره في الحادي والعشرين من ابريل الجاري، ولكن بعد اطلاع المسئولين الصينيين عليه حيث استعرضت صحيفة «بوليتكو» الأمريكية نتائجه بشكل مسبق تم «تأجيله».
وحسب مراسلات دبلوماسية خاصة بالاتحاد الأوروبي فقد قام مسؤول صيني كبير بالاتصال بمسؤولين أوروبيين في بكين في نفس اليوم الذي تسربت فيه نتائج التقرير النهائية ليقول لهم إليكم الآتي «إذا كان التقرير كما هو موصوف، وسينشر اليوم فسيكون أمرا سيئًا جدًا بالنسبة للتعاون».
ونقلًا عن «يانج شياو قوانج» المسؤول الكبير بوزارة الخارجية الصينية فإن تقرير الاتحاد الأوروبي بصيغته قبل التعديل كان سيجعل بكين «غاضبة للغاية». وعلى خلفية ذلك وجهت اتهامات لبروكسل والأوروبيين بأن التقرير ما هو إلا لإرضاء طرف آخر، فهمه الأوروبيون على أنه «الولايات المتحدة».
الأمر غير مؤكد!
التقرير الأصلي الذي حصلت رويترز على نسخة منه يظهر اختلافات جوهرية عن النسخة النهائية التي نقحتها بكين ونشرت في وقت متأخر من يوم الجمعة الماضي. وعلى سبيل المثال فقد أشار التقرير الأصلي إلى أن الصين تواصل شن حملة عالمية للتملص من مسؤوليتها عن تفشي الجائحة والعمل على غسل سمعتها، وذلك عن طريق اتباع أساليب علنية وسرية، ولم يكن مفاجئًا أن تختفي تلك الإشارة في التقرير النهائي الذي مارست بكين ضغوطات لتعديله.
الواقع أن الرواية غير مؤكدة ولكن من الأمور المؤكدة أن الصين رفضت دعوات لتحقيق دولي مستقل في الكيفية التي نشأ بها فيروس كورونا المستجد المسبب لمرض كوفيد- 19 متجاهلة أن توفير معلومات حول نشأة الفيروس ستساهم بشكل كبير في التعامل مع المرض.
وفي ذلك التوقيت قالت الدبلوماسية الصينية رفيعة المستوى في لندن «تشن ون» لبي بي سي إن الدعوات التي أُطلقت لإجراء تحقيق دولي تخفي دوافع سياسية، ومن شأنها تشتيت جهود الصين في مكافحة الوباء. إذن فما المانع أن تكون رواية «رويترز» حقيقية!
وعلى أية حال فقد شرح «بيتر ستانو»، المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي الآلية التي يصدر بها الاتحاد الأوروبي التقارير وينشرها، وأكد في بيان بالبريد الإلكتروني، إن «إعداد وتعميم التقارير الداخلية ونشر المواد المخصصة للاستهلاك الإعلامي هما عمليتان منفصلتان مع إجراءات ومحتويات وجداول زمنية مختلفة». إلا أن هذا لا ينفي بأي حال من الأحوال صحة رواية وكالة الأنباء البريطانية «رويترز».
كما أن التشككات الأوروبية في إدارة الصين لأزمة كوفيد-19 ظهرت أيضًا في تصريحات «جوزيب بوريل» مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الذي قال الشهر الماضي إن الوباء قد ولّد «صراعًا من أجل النفوذ من خلال مغازلة الأنظمة وتوظيف سياسات الكرم المدعاة»، وأشار إلى أن الصين من ضمن دول أخرى “تدفع بقوة إلى أنها شريك مسؤول وموثوق “.
أستراليا تدخل على خط المواجهة؟
بداية التفشي شهدت عددًا من الدعوات بالسماح لمحققين دوليين بالنفاذ إلى الصين للتحقيق في كيفية بدء الكارثة، وحول ذلك أشار رئيس الوزراء الأسترالي يوم الخميس الماضي إلى أنه سيقوم بالضغط من أجل إجراء تحقيق شامل في الأمر وذلك خلال المؤتمر السنوي لجمعية الصحة الدولية، والتي تُعدُّ ذراع اتخاذ القرارات في منظمة الصحة العالمية، والمتوقع أن تجري وقائعه الشهر القادم وتشغل «سيدني» عضوية مجلسه التنفيذي.
إلى ماذا أشار التقرير؟
حسب التقرير الصادر عن الاتحاد الأوروبي فإنه بالرغم من التأثير الخطير المحتمل على الصحة العالمية فإن مصادر حكومية ورسمية تدعمها حكومات دول عدة، بينها روسيا وبـ «درجة أقل» الصين، استمرت في ترويج نظريات المؤامرة حول كورونا المستجد بشكل كبير، وهي تلك الأطروحات التي استهدفت تضليل حكومات وشعوب الاتحاد الأوروبي والعالم».
القائمون على إعداد التقرير قالوا أيضًا إن هناك «أدلة قوية تشير إلى وجود عمليات صينية سرية بوسائل التواصل الاجتماعي» وتحديدًا على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» وهي الحسابات المرتبطة مباشرة بالحكومة الصينية.
وبدلًا من أن تنشغل الصين بنقل خبراتها للعالم سخرت مسؤوليها، وكرّست وسائل إعلامها الرسمية لترويج ما ينفي مسؤوليتها عن انتشار الوباء في تلك التقارير الإعلامية، إذ غاب ذكر اسم ووهان تمامًا! بينما استمرت منصات التواصل الاجتماعي التابعة لها في توجيه أصابع اتهامها إلى مسؤولين “عسكريين” أمريكيين زاروا الصين بشكل مسبق.
ادعاءات صينية ضد باريس وتايوان
المسؤولون الصينيون وحسب التقرير في نسخته غير المنقحة ضغطوا بقوة على الحكومة الفرنسية باستخدام «رسائل مضللة» تتعلق بالوباء، وهي الرواية الـ»مفقودة من التقرير العام». كما تم استبعاد الجزء الخاص بما طرحته تايوان حول أن حوالي 200 موقع إخباري مزيف انطلقت من الصين لتروج الشائعات حول كورونا المستجد.
علاوة على ذلك فقد سلّط تحليل الاتحاد الأوروبي أيضًا الضوء على منشورات السفارة الصينية عبر الإنترنت والتي انتقدت فيها إدارة باريس للأزمة بما في ذلك الادعاءات الخاصة بأن النواب الفرنسيين والمسؤولين التايوانيين استخدموا التمييز والافتراءات العنصرية ضد “تيدروس أدهانوم جيبريسوس” المدير العام لمنظمة الصحة العالمية. وقد نفى كل من النواب الفرنسيين إضافة للحكومة التايوانية ذلك، حيث استدعى جان إيف لودريان وزير الخارجية الفرنسي، السفير الصيني لو شاي بشأن المسألة الأسبوع الماضي.
كما أشار التقرير إلى أن الصين لم تمارس تضليلها على أوروبا فقط، وإنما وظّفت أيضًا اللغة العربية بشكل كبير لإطلاق حملة من التضليل مناهضة للولايات المتحدة ومعتمدة على سرد الرواية من منظور بكين.
ولكن تم تدارك الأمر ولم ينشر التقرير كما كتب للمرة الأولى في الاتحاد الأوروبي، حيث ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن أحد دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي أرسل رسائل إلى زملائه في وقت سابق من الأسبوع قائلاً إن بكين «تهدد بردود فعل عنيفة إذا صدر التقرير».
هل يلقي التقرير بانعكاساته على العلاقات البينية؟
كان من المتوقع أن يُعقد اجتماع بين رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي ورئيس الوزراء الصيني “لي تشيانج” في بكين الشهر الماضي، ولكن تم تأجيله بسبب هذا الوباء. ولم يتم تحديد موعد جديد. وقد كان الهدف من هذا الحدث هو تمهيد الطريق لقمة رفيعة المستوى بين قادة التكتل الأوروبي والرئيس الصيني “شي جين بينج” في سبتمبر، خلال رئاسة ألمانيا للاتحاد الأوروبي لمدة ستة أشهر. وردًا على سؤال حول ما إذا كان الخلاف قد يعرض القمة المقبلة للخطر قيل إن الاتحاد الأوروبي والصين قررا بشكل مشترك ألا تعقد قمة الاتحاد الأوروبي والصين في الوقت الحالي؛ من أجل السماح للجانبين بالتركيز على جهود المكافحة المستمرة لفيروس كورونا المستجد.
كان لموسكو نصيب
التقرير الأوروبي «المخفف» لم يقتصر فقط على انتقاد الحكومة الصينية، ولكنه تناول بالانتقاد أيضًا ممارسات الحكومة الروسية، إلا أن الضغوطات لتعديله لم تأت إلا من جانب الحكومة الصينية.
وحول موسكو فقد اتهمها التقرير بنشر معلومات مضللة، وحسب ما جاء فيه فإن مصادر مؤيدة للكرملين إضافة إلى وسائل إعلام رسمية روسية قامت بشن حملة إعلامية تستهدف الاتحاد الأوروبي وإجراءاته المتخذة لاحتواء الأزمة، كما أنها تسببت في حدوث ارتباك حول منشأ الفيروس وتداعياته الخطيرة على الصحة العامة.
ميزان مختل
منذ عقدين تقريبًا، ادّعت الصين أن اقتصادها المتوسّع قد عاد بالنفع على أوروبا، وحفّز نموها، وتنامي صادراتها وعمالتها، لكنّ الواقع بدا عكس ذلك تمامًا. ففي الوقت الذي بدت فيه الشركات الفردية الأوروبية مستفيدة من نمو الاقتصاد الصيني، كبّدت التجارةُ غير المتوازنة مع بكين أوروبا -في الواقع- أكثر من 1.4 تريليون يورو في السنوات العشر المنصرمة، وقوّضت النفوذ السياسي الأوروبي، حتى أن مبادرة «الحزام والطريق» ستجعل وضع القارة في الغالب يزداد سوءًا.
وفي هذا السياق، كشف «جوناثان هولسلاج»، رئيس قسم الأبحاث بمعهد بروكسل للدراسات الصينية المعاصرة، في كتاب بعنوان: «فخ طريق الحرير: كيف تتحدى أوروبا طموحات الصين التجارية؟»، مدى خطورة تلك الشراكة غير المتكافئة على أوروبا. وأوضحت أهداف الصين السياسية والتجارية من مبادرة «الحزام والطريق».
وينطلق الكتاب من فرضية رئيسية مفادها أن الصين تستخدم أوروبا كسُلّم للصعود إلى القمة، مستندًا في ذلك إلى تصريحات مسؤولين بارزين، ورؤساء شركات صينية رائدة، وإلى بيانات تجارية وردت في أكثر من 100 وثيقة سياسية صينية. ولهذا يشدّد المؤلف على إعادة موازنة الشراكة التجارية مع الصين، ولا سيما في الوقت الذي يدرس فيه الاتحاد الأوروبي مسألة تشديد الرقابة على أعمال الصين التجارية واستثماراتها.