في تكريم الفنان عبد الكريم الوزاني بأصيلة: ناحت ملهاة يقاوم بالصمت الصاخب ونداءات الطفولة

شكلت الندوة التكريمية للفنان والنحات المغربي عبد الكريم الوزاني، يوم الأحد 5 أكتوبر الجاري ضمن فعاليات الدورة 46 لمنتدى أصيلة الثقافي، لحظة استثنائية بالنظر الى طبيعة المكرم الذي نسج علاقة خاصة مع مدينة أصيلة، ومع الأب الروحي لمنتدى أصيلة الثقافي الراحل محمد بن عيسى الذي حسم اختيار شخصية السنة المكرمة قبل رحيله، كما أنها لحظة – وكما جاء في تقديم منسق الندوة ومسيرها الناقد الفني شرف الدين ماجدولين- تندرج ضمن مسار اختاره المنتدى منذ ثلاث سنوات للاحتفاء بتجارب فنية مؤثرة، لها بصمتها الممتدة في الزمن الثقافي المغربي، مسار انطلق بتكريم عبد الكبير ربيع، ثم مليكة أاكزناي ، والفنان الياباني أكيمي نوغوتشي.
 

استدعت لحظة تكريم الفنان التشكيلي والنحات عبد الكريم الوزاني، المدير السابق للمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، وقوف المشاركين في الندوة من نقاد وأكاديميين وكتاب، وقفة تأمل واستعادة لتجربته ولصياغة تركيب جماعي يكون بمثابة تحية رمزية، باعتباره فنانا وأحد الذين دبروا الشأن الثقافي المغربي في لحظات زمنية طويلة الى جانب وزراء ثقافة كالراحل محمد بن عيسى ووزير الثقافة السابق محمد الأشعري، وكذا بوصفه فنانا استطاع أن يصنع التوازن في كائناته عبر مختلف المواقع المغربية والأجنبية التي تؤثثها منحوتاته، تلك التي «كان يضع أقدارها في محك التوازنات»، وهو يصنع جسرا بين التجريدي والتشخيصي في لحظة مقاومة لكل من اختار أسلوبا اختراقيا في الفن التشكيلي يخرج عن التوجه التقليدي المحافظ.
في كلمة تقديمية للأمين العام لمنتدى أصيلة، اعتبر حاتم البطيوي أن المحتفى به يشكل واحدا من أبرز الأسماء في المشهد التشكيلي المغربي المعاصر، حيث اختط لنفسه، منذ 1975، مسارا متفردا «جمع بين النحت والصباغة والحفر، وبين الحس الجمالي العميق والبحث الدائم في تجليات الطبيعة والكائنات».
وأضاف البطيوي أن تجربة الوزاني تتميز بارتكازها على الحوار بين التشخيص والتجريد، مُمثَّلا في أعماله التي «تشي بملامح وجود ذوات تقلصت الى بنيات أولى» في عملية اختبار للمواد والخامات، مشيرا في نفس الآن الى أن الوزاني لا ينقل في أعماله الظاهر كما هو ، بل يعيد صياغة الواقع بأشكال بصرية جديدة، وعبر بنية لونية «تتناغم فيها البياضات المضيئة والألوان المتعددة في توازن دقيق».

كائنات وحيوات منذورة للتأويل

ركز الروائي ووزير الثقافة السابق محمد الاشعري على أن الوزاني «فنان يفكر باستمرار في الأثر الذي سيحدثه العمل على المشاهد منذ أول نظرة» ضمن «ميثاق تعاقد معنوي قديم يسعى إلى تدقيقه في كل تجربة جديدة له».
ولفت الأشعري، وهو يفكك العوالم الفنية وفضاءاتها في لوحات ومنحوتات الوزاني، الى أن هذا الأخير يؤلف عناصر عمله الفني من «مرئيات الخارج التي تتشكل من أشياء وكائنات مستقرة في المألوف والمتكرر، ومن مرئيات الداخل برؤاها وأحلامها ومتخيلها، ليركب في النهاية «عالما ثالثا مرئيا وغير مرئي، واقعيا ومتخيلا، بافتتان طفولي، عالم فيه تفاعل متأنّ، مشتبك مع العمل الفني ومستقل عنه في الآن نفسه».
وأضاف الأشعري أن الوزاني يراهن دائما على الحصول لعمله الفني على «حياة أخرى «ليس عن طريق الافتتان فقط، بل أيضا عن طريق حرية التأويل»، في أعمال يستعيد فيها من ركام العابر المبتذل والمدجن، تفاصيل كثيرة يعيد صياغتها جماليا «وفق منطق متحرر من الطبيعة، ومن الوظائف البديهية للأشياء»، ليمنحها وجودا جماليا جديدا.
أما بخصوص اللغة، فقد أوضح صاحب «القوس والفراشة» أن الوزاني، وعلى مدى تجربته الطويلة، «نحت لغته وأبجديته الخاصة، أبجدية حركاته وبلاغة جملته التشكيلية»، عدا الطاقة الشعرية الكامنة في أعماله التي لم تمنحها الينابيع الأولى التي نهل منها فقط، بل تخلقت من الأثر الذي تحدثه تلك الأعمال لدى المتلقي.
المتأمل لأعماله، يقول الأشعري، يكتشف أن» اللعب كان طريقته في ابتكار عالم أكثر قوة من عالم الكبار، وأن الخدعة هي أساس الملذات الكبيرة والصغيرة»، هو الذي اكتسب قدرة مدهشة على التقاط كل شيء له علاقة بطفولة العالم، ليخلص إلى القول أن أعماله منفلتة من الزمن ومتمردة على الإطار، وأنه»إذا أردنا أن نؤرخ لزمننا المغربي المعاصر ، فإن ألاعيب الوزاني تصبح ضرورية لكتابة التاريخ».

مقاومة صخب الزمن

يرى المختص في الفنون ومؤرخ الفن، محمد مطالسي، أن الوزاني فرض منذ بداياته صوته الخاص بعيدا عن الموضة، ضمن مسار «اختار فيه خطاب العمق والرؤية ومقاومة صخب الزمن»، مضيفا أن عمله تميز دوما بالكثافة، كثافة يقدمها بهدوء بعيدا عن منطق الفرجة اللاهث وراء المشاهدة.
ووقف مطالسي عند ثلاث محطات فارقة في مسار الوزاني أجملها في:
– المسار و النشأة في بيئة متشبثة بجذورها وهويتها ،لكن مع الانفتاح على العالم ضمن ثقافة أسرية تمجد المقدس والرمزي، ومن هنا نفهم علاقته الوثيقة بمدينته تطوان التي كانت منطلقا لمساره المتفرد بمدرسة الفنون الجميلة قبل الانتقال الى باريس ، انتقال فتح له آفاقا أرحب عبر الاحتكاك بتجارب أخرى أغنت تجربته وأثرت في طريقة تفكيره وطريقته فيتلقي العالم بعيدا عن المحاكاة، لهذا نجد، يضيف مطالسي، أنه في كل أعماله «يستوحي العميق وغير المرئي»، وبذلك تمكن من تعزيز هوية فنية صلبة.
– أن أعماله تشي بصمت يُقرأ فيه تناسق وتناغم،كما أنه يصعب تفكيك أعماله بسهولة، خاصة وأنه تعامل مع طفولته فنيا كمصفوفة، وهي المرحلة التي أقام فيها علاقة مع الأشكال واشتغل خارج الإطار والورشة، منفتحا على العالم، ومشتغلا على هجنة فنية ينصهر فيها النحت والرسم وتضج بالحركة.
-أسس الوزاني أبجدية تنتمي إليه، فيها قراءة خاصة للتأمل والتخيل، واشتغال عميق على الحياة والعالم عبر أعمال لا تروم استقطاب المشاهد، بل الحفاظ على الأصيل الذي تتحول فيه العناصر الى لغة لاكتشاف إنسانيتنا.

تشبه رسوم الأطفال

لماذا يوجد اللعب في صلب النشاط الفني لعبد الكريم الوزاني، في الصباغة كما في الحفر؟
سؤال أثاره عزيز ذاكي، أحد أكبر الوسطاء في المجال الفني، ليبرز أن اللعب شكل أحد مرتكزات النشاط الفني في أعماله، لعب ليس بمعناه المجاني بل هو مغرق في الجدية أداته المجازفة، يظهر بشكل درامي ومأساوي، لكنها مأساة دالة على العمق والمعنى.
وتوقف ذاكي عند مفهوم المجازفة وحضوره في فن الوزاني بغاية بلوغ الأثر الفني الذي يبتغيه، المجازفة التي تقف بمنأى عن خطر الاستسهال الذي على الفنان الحذر منه، وهو ما عمل الوزاني طيلة مساره الفني على تفاديه عبر الدربة والمران، مضيفا أنه «كان يبتعد في كل عمل جديد عن التكرار والسهولة التي تعني له الموت».
أمام أعمال الوزاني، يقول المتدخل، أنت في منطقة اللايقين والشك والتذبذب الذي يطبع علاقته باللوحة لحظة الإنجاز، لوحة يبدعها قلق المتوتر واندفاعٌ المجازف ويحفُّ مصيرَها، المجهولُ.
يدخل الوزاني، لحظة الاشتغال والاشتعال، في صدام مع لوحاته ومنحوتاته، غير مطمئن الى يقين ثابت، يلهو ويلعب فيُخرِج من يديه ما يشبه رسوم الأطفال، بأساليب لا توظف الخداع إلا توقا لتقديم الأفضل والأجود، وهو ما جعله، يقول ذاكي، «يحطم بعض اللوحات التي خسر الرهان معها، أو يتوقف في بعضها « ريثما يستعيد قدرته على اللعب.

التفكير باليد قبل التفكير بالعقل

شهادة مجروحة تلك التي قدمها الفنان التشكيلي ورفيق الدرب في مُحترَفَي الفن والحياة، بوزيد بوعبيد.
يقول بوعبيد إن «الوزاني ينتج كطفل ويفكر كعاقل» منذ كان يبتكر ألعاب طفولته بنفسه، ليتحول اللعب لديه الى» وسيلة للتفكير باليد قبل التفكير بالعقل».
وأعاد بوزيد الحاضرين إلى ذكرياته مع الوزاني منذ أول لقاء لهما بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان في 1972، قبل أن يعرض الوزاني أول أعماله في 1978 لتنتشر شهرة مرسمه في 1979 تحت اسم « استوديو 53» الذي استقطب حينها خيرة شباب تطوان من المبدعين المنفتحين على الفكر التنويري الحداثي رغم أن الوزاني، يشير المتدخل، نشا في بيئة محافظة صوفية لكنها منفتحة مه منحه هوامش واسعة من الحرية بها استطاع ان يكسر قيزد المحافظة ويؤسس لمسار مختلف.

ألوان كسرت وحدة العالم

في تدخله، تساءل الجامعي والناقد الفني في الفنون البصرية أحمد مجيدو عن سر تميز وتفرد تجربة عبد الكريم الوزاني، قائلا:هل الامر يتعلق بذكائه أو مهاراته واختياراته الجمالية أو بمساره الطويل المرتحل بين الثقافات، وتجربته في إدارة واحدة من أعرق المدارس الفنية، المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان؟
وأضاف مجيدو أن الوزاني لم يستسلم أمام الانبهار التقني وظلت أعماله مرآة عاكسة لمسار إنسان، في توتراته وصراعه من أجل خلق الجمال وبعث الأمل. ففي كائناته، يقول:»نكتشف العواطف الثاوية في اللاوعي الإنساني، بتوترها وقلقها، بحثا عن نقطة ضوء».
وأكد مجيدو بهذا الخصوص أن الوزاني اشتغل على الهوية، رافضا استعمال الأشكال الأكاديمية التقليدية، ملتجئا الى المختلف والخارج عن المألوف والمتوقع، في مسار كسر فيه كل أسرار الحياة، كما كسرت ألوانه «وحدة العالم عبر طموحاته السخية التي أعادت لهذا العالم صفاءه الطبيعي وصدقيته».
وقد تم علىى هامش هذا اللقاء التكريمي، افتتاح معرض الفنان عبد الكريم الوزاني برواق مركز الحسن الثاني للملتقيات.


الكاتب : أصيلة: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 07/10/2025