في تمجيد الفقد والخسران .. على هامش الوجع … أكتب

أكتب عن الذين انتظروا أحدا لم يأتِ، عن الذين تظاهروا بالقوة ليلاً ثم بكوا سرا، عن الذين اختبروا الفقد ولم ينهاروا تماما، بل رمّموا أنفسهم بشظايا الضوء

 

في نهاية الوجع… بدأت الكلمة الأولى

لم تكن الكلمة طفلة وديعة ولدت في زمن الرخاء.
جاءت كندبة، كصرخة أجهضت مرات، ثم استقرت على صفحة.
لم تأتِ لتحكي فقط، بل لتُرمّم ما تهدم في الروح.
كل سطر كتب كان محاولةً للفهم، للنجاة، للوقوف من جديد.

هكذا بدأت الحكاية

ليس من دهشة ولا من فرح فائض، بل من حاجة ملحة لمقاومة الانطفاء… بالكلمات .
الكتابة بالنسبة لي لم تكن يومًا خيارًا واعيًا بقدر ما كانت استجابة داخلية لضغط لا يُحتمل. أكتب لأن ثمة ما يلـح عـلي، ما يصرخ في داخلي ويطلب أن يُروى. لم أبدأ مـن قناعة بأنني «كاتـب»، بـل مـن ارتباك أمام العالم، ومن شعور دائم بأن ثمة شيئًا ناقصًا لا تملأه الوقائع ولا تعلنه الحياة اليومية. الكتابة صارت ملاذي لفهم العالم، لفهم نفسي ولإعادة تركيب ما يتكسر في الداخل والخارج. أحس أنني أكتب من جهة الكسر.
علاقتي بالحياة والناس هي علاقة من يُصغي أكثر مما يتكلم. أراقب التفاصيل الصغيرة، تلك التي تمر خفية على الآخرين، لأنها غالبًا ما تستضمر القصة الحقيقية. أصدق أن الإنسان كائن هش، لكنه يملك قدرة عجيبة على الاستمرار رغم كل شيء. في قصصي، أحاول دائما أن ألتقط هذه الهشاشة، هذه اللحظات التي يتكشّف فيها الإنسان على حقيقته، مجردا من أقنعته.
أمـا فـن الكتابة، فهو بالنسبة لي ليس ترفـا بـل ضرورة. أحاول أن أبنـي قصـصـي كـما يُشيد بيـت، بـكل ركن فيه معنى، وبكل ظلّ فيه نَفَس. لا يشغلني الحدث وحده، بل الطريقة التي يُقال بها، الإيقاع، البناء، اللغة. لكل قصة معمارها الخاص صوتها، مزاجها، وعلي أن أستمع لما تطلبـه منـي القصة نفسها. أحيانًا أبدأ بصورة، أحيانًا بجملة أو بحوار سمعته صدفة، ومن هناك تتسلل القصة، وتكبر شيئًا فشيئًا، كما تنمو شجرة من بذرة غير متوقعة.
التجربة الإنسانية هي منجمي الأول. لا أبحث عن القصص في الخيال المجرد، بل في لحظات الحياة اليومية، في العلاقات المعقدة، في الألم، في الانتظار، في الغياب، في الحب الخافت، وفي الخسارات الصغيرة التي تشكل أرواحنا ببـطء. أكتب لأتذكر، لأتطهر، ولأترك أثرًا صغيراً، حتى وإن كان هشا، في هذا العالم الفوضوي. فبيوت الحكاية تبنى من طين الخسارة.
ما من بداية واضحة لرحلتي مع الكتابة. لم أفتح بابًا يومًا وأقل: «هنا تبدأ الحكاية». الأمر أشبه بتسلل صامت في العتمة، كأن الكلمات كانت دائما في انتظاري، في الزوايا المهملة من الذاكرة، تحت الوسادة، خلف نوافذ الطفولة، أو عالقة في جملة لم تكتمل.
أكتب كما يتنفس الغريق، وكما يحلم الأعمى. أكتب لأتوازن على هذا الحبل المشدود بـيـن العـالم كما هو، والعالم كما أريده أن يكون.
لقد شكلت الحياة دوما النص الكبير الذي نحاول إعادة كتابته على طريقتنا. أحب أن أراها من بين الشقوق، لا من الواجهات المصقولة. علاقتي بالناس ليست صاخبة، بل قائمة على الإصغاء لما لا يُقال. أنصت لصمتهم، لتنهيداتهم، لعباراتهم الناقصة. أؤمن أن القصص الحقيقية تختبئ في النظرات المرتبكة، في لحظات التردد، في يد ترتجف وهي تحاول أن تبدو واثقة.
تقنية الحكي، عندي، هي المعمار الخفي للحواس. لا يكفيني أن أروي حكاية، بل أريد أن أنحتها، أن أجعلها تتنفس، أن تسير على قدمين وتعود إلي لتقول: «لقد أصبحت حقيقية».
أبني القصة كما يُبنى بيت بيد عاشق: بكل زاوية حنين، بكل نافذة شوق، بكل حائط يحتفظ بأصوات من عبروا ذات حلم.
لا أبدأ دومًا من فكرة بـل مـن نفَـس. من رعشة، من سؤال بلا إجابة. وأدع القصة تقودني كما تقود الريح غيمة حائرة.
أما التجربة الإنسانية، فهي منجمي الأوفى. لا أكتب عن البطولة الصارخة، بـل عـن الإنسـان حــيـن يخاف، حين ينسى، حين ينتظر بلا جدوى. أكتب عن الأرواح التي تتكسر بصمت، ثم تلم شتاتها وتواصل السير. عن الحب الذي يأتي متأخرا، والخسارات التي تشبهنا أكثر مما نشبه الانتصارات.
الأمر شبيه بندوب تروى بحبر خفي.
الكتابة عندي ليست مهنة ولا هواية.
إنها شكل من أشكال النداء. نداء خفيّ لا يسمعه إلا من جرب أن يعيش بين سطرين، وأن يجــد نفسه، صدفة، في جملة لم يقصد كتابتها.
بدأت الكتابة، لأن ثمة ما كان ينهار بداخلي بصمت، وكان لا بد من وسيلة لأحافظ على توازني .كانت الكلمات حبال نجاة ألقيتها في ظلمة لا قاع لها. لم أختر الكتابة، بل هي التي اختارتني في لحظات خذلان عميقة، في تلك الأزمنة التي بدا فيها كل شيء قابلاً للكسر: الجسد، واليقين والعلاقات، وحتى المعنى نفسه. فكان لابد أن أكتب كي لا أنهار، وقد أدركت بأن ما لم يشف بالحياة، يشفى بالحكاية.
في مرآة المرض رأيت كم هو هش هذا الجسد، كم هو مُسرف في خيانته، وفي الوقت نفسه كم هو مشـته للنجاة. كنت أكتب في الليالي الطويلة كما لو أنني أضمد جرحًا لا يُرى، أدوّن الكلمات لتخف وطأة الألم، ولأقنع نفسي أن شيئًا ما لا يزال ممكنا كأن الحروف ضلعي الذي لم ينكسر .لأن من رماد المرض تتقد جمرة الحكاية. فحين ضاق الجسد، اتسعت الحروف. عندها صار المرض حبرا.

الخذلان؟

هو المعلم الأوّل، ذاك الذي عرّفني على وجوه الناس حين تسقط الأقنعة. من خيباتي نسجت نسيجا قصصيا هجينا، مزيجًا من المرارة والبصيرة لأنني أؤمن أن الحكاية التي لا تنبع من ندبة، تظلّ حكاية ناقصة. فمقام الخذلان يُدَوْزِن وتر الحكاية حتى صرت أحس أن هذا الورق جلدي البديل .
أكتب لأصالح نفسي مع هذا العالم المتقلب، أكتب كي لا أنسى من كنت ومن حاولت أن أكون.
في قصصي، لا أحتفي بالأبطال، بل بالهامشيين، بالذين عبروا دون أن يتركوا أثرًا، إلا في ذاكرتي. أكتب عن الذين انتظروا أحدا لم يأتِ، عن الذين تظاهروا بالقوة ليلاً ثم بكوا سرا، عن الذين اختبروا الفقد ولم ينهاروا تماما، بل رمّموا أنفسهم بشظايا الضوء. هؤلاء الذين أحس أنني أمتد فيهم، لذلك ما تركه الغياب على جسدي، كتبته على الورق.
أبني قصصي كما يُشيد بيت في مدينة مهددة بالمحو. كل زاوية فيها مقاومة، كل تفصيل فيها رغبة في البقاء.
لست مشغولاً بالحبكة قدر انشغالي بالصوت، باللغة بالإيقاع الداخلي للنصّ. كل قصة عندي هي محاولة لقول ما لا يُقال، لصياغة الحزن في قالب جمالي، للوقوف في وجه الفناء ولو بالخيال.
الكتابة، في النهاية، ليست ملاذي فقط، بل سلاحي الأشد رهافة.
إنها طريقتي في أن أقول للعالم: «أنا ما زلت هنا، رغم كل شيء».
يا أنا الذي نجا بجملة تتفنن في أحابيل غوايتها لي، بشكل يجعلني أمني النفس بلقياها، لكنها زئبقية تتأبى على أن تكفن في ورقة بيضاء.


الكاتب : عبدالنبي دشين

  

بتاريخ : 06/06/2025