«في حضرة الامبراطور المعظم».. الذاكرة في عمق جرح التاريخ

لكل كتاب ذاكرة، وكل كتاب لا ذاكرة له إنّما هو كتاب مؤقّت، مناسباتي، زائل حتما بزوال سبب نزوله… من هنا تندرج ذاكرة كتاب»في حضرة الامبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر» في سياق تاريخي طويل تناوبته المجاعة والوباء ضمن سردية يمكن الاصطلاح عليها ب»السردية الوبائية»
وعن هذا السياق التاريخي الطويل الجائع الموبوء…أقول:
… وجرت الأيدي تكدّس في البيوت خزائن للقادم من الأيام تحسّبا لحصار طارئ، أو لنازلة غاشمة غير منتظرة لا تُبقي ولا تذر، والناس، كأن الطير فوق رؤوسهم، بجشع مقيت، يقتنون ويخزّنون، ولا يبالون، ولوقائع الأوبئة والمجاعات السابقة تداول بين الألسن القديمة، والأفواه الخائفة من الجوع المرتقب، جفافا ووباء، والقحط قد يسكن الدروب، والمسغبة قد تطرق الأبواب في كلّ حين، والوادي قد يجفّ بين عشية وضحاها، ولا رادّ لقضاء السماء…والناس على أهبة حين ينادي المنادي لكل صلاة لطيفأواستسقاء…ولازالت الألسن القديمة، وبعض شيوخ الأرض المسنّة، يردّدون على مسمع الآذان الخائفة الصاغية أن البلاد، بعد حلول الوباء، و انقضاء المخزون، أكل ناسها البلوط، والبقول، والبسباس، والكرنينة، وجمّار النخيل، والخروب، والترفاس، واللفت المحفور، والكلخ، والخردل في قبائل الحوز بين ابن مسكين وعبدة ودكالة، وساروا نزولا الى الحميضة، وثمار العرعار، وامتلأت المراجل بماء وملح تطبخ ما جاد به القحل من جراد، وما شمّسته الشمس الحارقة، فباع الناس أنفسهم بأبخس الأثمان في آسفي وأزمور، وحُمّلت السفن بفتيات بين سنّ العاشرة والخامسة والعشرين، وقد أجبرن على عبودية سارت المنفذ الوحيد للبقاء. باع الأخ أخاه، والجدّ أحفاده، وتساوت الحواضر بالبوادي، وسارت البلاد مترعا للأولياء والزوايا، وانتظار الذي يأتي ولا يأتي، فجاعت الضفاف، وتسابق الناس لركوب المراكب الشراعية عبيدا للعالم الجديد…فكان للعرّاب الخمس، ولحاكم المنطقة الخمس، وللضفّة الأخرى عبيدا جددا…مقابل حفنة دقيق…وبدّل الناس دينهم ، يدخلون في دين الصليب أفواجا ، تنصّروا جوعى ، وتمسّحوا عطشى، وأمّوا ليشبونة من أرض البرتقيز، واكتظت بهم أزقّتها،حتى قال فيهم الشاعر الشعبيعبد الرحمان المجدوب: « الخبز يا الخبز، والخبز هو الإفادة، لو ما كان الخبز ما يكون لا دين لا عبادة».
واسترسلت الألسن في الحكي المخيف، وصبيان الرؤوس الحليقة يتحسّسون بطونهم، ويقطّبون حواجبهم، ويتابعون باستغراق ما تفنّنت في سرده الشفاه الملحية، فأكل الناس بعضهم بعضا، وتسابقوا يوزعون الجيفة ويذبحون القطط والكلاب، ويقتاتون على جثث الخيول، والحمير والبغال والأبقار النافقة، وأباحت الضرورة المحظورة، وهمّ الناس يهرعون جهارا إلى حيث الموتى من الدواب والآدمي، يشمّسونهم ويملّحونهم لا فرق بين جسيمة ضخمة وسمينة هزيلة، نحيفة نحيلة فيما يسدّ الرمق، ويبقي الآدمي حيّا بعجين ينهبه من داخل صناديقه في طريقه للأفران حتى سمّي العام، على غرار تسمية الأعوام بأوبئتها وجوعها، بعام الصندوق…
في سياق جديد شبيه تماما بهذا السياق القديم الذي يسكن اللاوعي الجمعي التاريخي للناس جاء كتاب الباحث الرصين عبد العزيز كوكاس»في حضرة الامبراطور المعظّم كوفيد التاسع عشر» يترصّد آثار الوباء، وما نتج عنه من انقلاب فجائي في القيم والسلوكات على أصعدة شتى من خلال قلب المعادلات.
فإذا كانت المجاعة تاريخيا هي ما ينتج عنها الوباء، فإن ما يرصده عبد العزيز كوكاس هو الوباء الذي ينذر بحلول المجاعة..والجوع في حضرة الإمبراطور كوفيد التاسع عشر أنواع أجواع وأوجاع حلّت على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي ليمدّنا الكتاب برؤية شاملة عن تجليات الوباء من خلال تقنية وآلية التشخيص…فحين يستعصي علينا- نحن البسطاء- إدراك المجرّد أو المتعالي بالعين المجردة نحاول تشخيصه من خلال تجلياته وتمظهراته، وهو بالفعل ماقام به، بمهارة نادرة، الباحث عبد العزيز كوكاس صاحب التفاصيل حيث يسكن الشيطان…
ولأن الأباطرة عادة كثيرو الاختفاء، لا يظهرون إلا لماما، ولا ندركهم الا من خلال آثارهم، وهو ما تحصل معه عادة أسطرة هذه الكائنات الهلامية غير الملموسة، فنعمل على تقفّي هذه الآثار واستنطاقها،على نفس الشاكلة عدّد برنار بيفو صاحب برنامج « أبستروف» و» بويون دو كيلتير»، تجليات هذا الإمبراطور المدعو قيد حياته كوفيد التاسع عشر، وقال عنه:
– هو ضد الرأسمالية، وذلك بإغلاق المصانع، والحدّ من الجشع الاقتصادي.
– هو كائن بيئي أخضر عمل على تنقية المناخ، وعودة الطبيعة الى طبيعتها.
– هو كائن غير رومانسي،يكره اللمس والعناق والقُبل، وبالتالي فهو ضد النمو الديمغرافي.
– هو كائن ذو نزعة تطهيرية غير عرقية، لا وجود في قاموسه لمنطق الجنس الآري…إنه يقتل الجميع دون التفات للغة أو لون أو انتماء جغرافي.
وكأنّي ببرنار بيفو رأى القاتل خلسة وبدأ يعدّد نعوته للشرطي المحقّق…على نفس الشاكلة، وبطريقة أعمق من انطباعية بيفو، وبرؤية أكثر عقلانية واستبصار، وتمعّن في الوقائع خصّ الباحث والإعلامي كوكاس مؤلّفه للآثار العميقة التي أحدثها الإمبراطور في سيرورة ذات وعالم وكينونة…سيرورة اعتقدت أنها أرست مسارها المتسلّط، وآمنت أنها تتحكّم فيها، فسرعان ما حلّ الإمبراطور كطائر أسطوري برؤوس متعدّدة، حلّ فجأة دون سابق إنذار،زعزع هذه السيرورة وألبسها لبوس الشك والارتياب، وهو ما أسماه كوكاس»الحزن الرمادي الذي أصاب الكائن بالرهاب الكوروني»، فتوزّعت مداخل الكتاب الى عدة فصول تتقفّى هذه الآثار، ويمكن تأطيرها في ثلاثة آثار كبرى تجلّت واضحة من خلال الكتاب : أثر على الذات، أثر على العالم ، وأثر على الكون.
فأما أثرها على الذات، فيتجلى في عودة الذات إلى ذاتها بفعل هذا الإمبراطور الشرس، المتحور والحرايمي بلغة الكاتب، والبقاء في المنازل، وإدراك ما أسماه كوكاس بسخرية لافتة للانتباه»إدراك طيبوبة الأهل والأحباب»، باكتشاف الدفء الإنساني من جديد بالإنصات لذواتنا، ونسج الحميمية معها من جديد.
وأما أثرها على العالم فنلمس آثاره في عودة الروح لروح الجماعة، التضامن، التكافل، وحدة العائلة العالمية، يقول في الصفحة 36: «وبالجملة روح الأخلاق التي زرعها الدين والفلسفة والشعر وباقي الفنون في قلب الإنسان»، وكأننا نعود،مع قسوة الإمبراطور، الى روح العالم، النبض الذي يوحّد بني الانسان، نكاية في الوجه العبوس الافتراسي للعالم الذي أبانت عنه الرأسمالية المتوحّشة».
وأما أثره على الكون فيتجلى بوضوح في عودة الجواب الديني مجدّدا، سؤال الساعة والقيامة، يقول في الصفحة 16: « وجعلت ترامب الذي يعبد إله المال يدعو الأمريكان للصلاة تقرّبا من الربّ الجليل»،غير أنّها، في هذا الكتاب، هذه المرّة،عودة ليست بمنطق الفتوحات والغزوات، ولكنها بمنطق العجز والانهزامية كما الخوف الأول من مظاهر الطبيعة الذي فكّ الجواب الديني من عقاله.
كلّ هذه الآثار، في تقديري، جعلت الكاتب المجد عبد العزيز كوكاس يؤسس لكتابة متفرّدة خاصّة تتعلّق بكتابة الكائنات الأسطورية الهلامية التي تظهر وتختفي، وتثير حتى في غيابها، الرعب في الأفئدة،كتابة تشخيصية، تخييلية، محايثة، كاشفة،كان من سماتها البارزة، ومن خلال كتاب تبهرنا وترهبنا عبارة عنوانه فنحس حقا أننا «في حضرة الإمبراطور المعظّم كوفيد التاسع عشر»:
– كتابة تتجاوز المعيشي لطرح السؤال الوجودي كعلاقة بين التجريد والتشخيص السابقة الذكر.
– كتابة توظيفية لأسلوب أدبي راق بجمالية خاصّة تسمح بتمرير الفكرة بسهل ممتنع يؤاخي بين الإقناع والإمتاع حتّى أنّه يتاخم الصورة الشعرية أحيانا…
– كتابة توظيفية للسخرية اللاذعة داخل خلطة جدية هزلية تغلّف هذا النوع من الكتابة بنفَس تراجيكوميدي…توليفة الضحك والبكاء، إنها كتابة ضحك كالبكاء، أو بكاء كالضحك، فيختلط الأمر علينا ويتشابه، تشابه واختلاط طبيعة الوباء نفسه، ليظل الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة.
يقول الباحث عن الفيروس التاجي: «هو رديف الغامض والمجهول فينا»،فكيف نكتب الغامض والمجهول إن لم نكتبه بهذا النوع من الكتابة؟
– كتابة وثيقة تاريخية للقرن الواحد والعشرين بإبداع يختلف عن الوثيقة الحجاجية التي كتب بها برنار روزنبرجي وحميد التريكي كتابهما الموسوم ب «المجاعات والأوبئة في مغرب القرنين السادس والسابع عشر».
خلاصة القول إن كتاب»في حضرة الإمبراطور المعظّم كوفيد التاسع عشر» رسالة مشفّرة الى من يعنيهم الأمر أن يعيدوا النظر في سيرورتهم خوفا على مصيرنا جميعا، يقول الباحث كوكاس: «كلنا اليوم في سفينة واحدة، إمّا أن ننجو جميعا وإما أن نغرق جميعا»…
ويبدو لي أنّه ما أن خفّ الوباء حتى عادت حليمة لعادتها القديمة…وحتى لا ننسى ينبغي أن نظل متأبّطين كتاب»في حضرة الإمبراطور العظيم» لأنّه كتاب بذاكرة ضاربة في عمق تاريخنا.


الكاتب : عبدالإلاه رابحي

  

بتاريخ : 25/10/2024