عندما قرر الباحث محمد أوراغ اختيار موضوع «الشعر الأمازيغي بالأطلس المتوسط قضايا موضوعية وجمالية، من خلال نماذج « اتجهت النية إلى دراسة متن يشمل عددا كبيرا من شعراء الأطلس المتوسط، باعتبار أن الأطروحة تتجه إلى تناول الشعر الأمازيغي بالأطلس المتوسط بشكل عام، لكن مع تقدم العمل في الدراسة، شعر أنه لن يكون دقيقا إلا إذا انفتحنا على كل التجارب العديدة والغنية، والتي يصعب حصرها. الأمر الذي جعله يحتكم إلى طريقة تضييق المتن من حيث عدد الشعراء، وتوسيعه من حيث الشمول النوعي.هكذا سيحصر المجموعات الشعرية التي انتهى إلى الحسم في انتقائها هي:مجموعة الشيخ ادريس بإيموزار كندر.مجموعة إحناجن بصفرو .مجموعة كروان، ضواحي الحاجب.مجموعة أيت سغروشن، بضواحي إيموزار كندر.بعض من المتن الشعري لمحمد مغني، بخنيفرة.بعض من المتن الشعري لميمون أورحو، بأزرو.إضافة إلى أغاني بعض الفنانات( الشيخات)، وبعض أشعارطقوس الأعراس والمناسبات بالأطلس المتوسط.
الجريدة حاورته على هامش مناقشة أطروحته التي نال بها الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع فكانت الورقة التالية :
o كيف نرصد ملامح المبدع في الشعر الأمازيغي في البحث ؟
n المبدع في الشعر الأمازيغي بمنطقة الأطلس المتوسط غير محدد الملامح إبان المرحلة الشفوية، إذ لم يكن يحضر بصورته الفردية وبعلمه الشخصي، لأن الشعر الأمازيغي في تلك المرحلة كان شعرا جماعيا، يعتمد على الرواية الجماعية والذاكرة المتسلسلة التي تنقل الشعر من جيل إلى آخر عن طريق الحفظ والترديد، الذي تختلط فيه الأسماء الفردية مع الإنشاد الجماعي، فيذوب اسم المبدع سواء أكان ذكرا أم أنثى داخل النسق الجماعي الذي كان لا يؤمن بالإبداع الفردي ولا بأصالة الإبداع.
إن المبدع الأمازيغي الأطلسي كان ينظم «الإيزلي» ، ويشارك في شعر «تامديازت» و»تماوايت»، ويقرض في الأفراح والأعراس وفترات الحروب، فكان الشعر الأمازيغي موضوعا تدور حوله كل أنماطه وأشكاله. فهو ذات مبدعة وموضوع لنظم الشعر في نفس الآن، سواء إبان فترات الحصاد، أو في الأعراس، أو في تحفيز المقاومين على مواصلة الحروب، أو في رثاء القتلى، أو في التعبير عن المعاناة الذاتية والموضوعية.
o إن الشعر الذي اتخذتموه موضوعا لأطروحتكم شعر مغنى في غالبيته، ما ذا تقصدون بالشعر الغنائي ؟
n نقصد بالغنائي الشعر المغنى المصحوب بالضرب على الآلات الموسيقية، ولا نريد به التقسيم الشائع للأنواع الشعرية . وهو شعر أخذناه من تسجيلات صوتية غنائية متعددة ومن بعض الرواة مباشرة، وقــــــداقتصرنا على نصوص شعرية تنتمي إلى منطقة جغرافية معينة، نظرا لصعوبة جمع وتوثيق النصوص والإحاطة بآداب هذه البيئات جميعا في أطروحة واحدة. وفي المأثور نجد أن الشعر المغنى يتداول سماعيا لا كتابة ويتناقل بالرواية الشفوية ، مصحوبا بلحنه في أغلب الأحيان، لأن الكلمة الفنية الأمازيغية « لم تطرح يوما ما للساحة دون قصد الغناء، بل كان الغناء دائما مصاحبا للكلمة في لحظة الإشراق بكيفية متوازية ، فاللحن كان مع الكلمة، وهذا التلازم أضفى عليها خاصية الضبط، فالكلمة إذن تخلق موزونة ابتداء من اللفظة، وضابطها هو الجرس الموسيقي
كما نجد أن الغناء هو الجانب الذي تفوق فيه الشاعر الأمازيغي الذي يشكل موضوعنا بشكل عام ، وهو الأمر الذي أولاه أهمية أكثر من مضامين قصائده، إذ تماوايت، كنمط مهيمن في هذا المتن، ترتكز على الصوت واللحن والإيقاع والكلمة، وكلها مجمعة تجعل تماوايت ذات نكهة متميزة، فهي شعر شفهي بامتياز، لأن أهم خصائصها هي النبر والإيقاع والتنغيم وحيوية التواصل المباشر بين الشاعر والجمهور، فضلا عن صعوبة إعادتها كما هي من قبل المتلقي.
o ما سقف طموحاتكم من خلال هذا البحث الأكاديمي حول الشعر الغنائي الأمازيغي ؟
n الحقيقة أننا نطمح من خلال هذا العمل تدوين جزء لا يستهان به من التراث الشفاهي الأمازيغي المهدد بالضياع، وهو تراث وإبداع إنساني عريق يقوم على طقوس كلامية كثيرة تتصل بالحياة اليومية بالمنطقة، وترسم في غناها وتنوعها العديد من الدلالات والمعاني الرمزية التي تنمو وتتحول داخل وجدان جمعي مشترك وضمنه أيضا تشتغل مجموعة من التعبيرات الشفاهية على الذاكرة واللسان بوصفهما يشكلان الحافظة الجمعية التي بات الاعتماد عليها ضروريا لصون هذه الإبداعات، في غياب حركة تدوين حقيقية قادرة على تحويل الخطاب اللساني الأمازيغي من مجال التداول الشفاهي إلى إطار التلقي المكتوب. فالأمر على نحو غاية في الاهتمام بالتاريخ وبالتراث خاصة حينما يتعلق الأمربأشعار مستقاة من البيئة المحلية للإنسان الأمازيغي، تفيض بروحه، وتعبر عن ذوقه ومشاعره وتصور عقليته ومستوى حياته، وتميز شخصيته وثقافته، وهي أدب شعبي « يعتبر جزءا ركينا من التراث ويعبر عن مقومات الشخصية الوطنية والذات الجماعية والاهتمام به اهتمام بهذه الذات وبتلك المقومات . هكذا فتدوين هذا الشعر يعد خطوة أولى صوب إنقاذ جزء من التراث الشعبي الأمازيغي المتميز بجماليته من حيث معناه ومبناه، حتى يكون حظه من الاهتمام مثل حظ غيره من فنون الشعر الشعبي المغربي. وعسى أن ينتج هذا البحث آفاق بحث جديدة وواعدة ، ويستقطب اهتمام الباحثين اللسانيين بصفة خاصة، نظرا لما يختزنه هذا الشعر من وحدات معجمية وصيغ صرفية وتركيبية أمازيغية، ولما يطبعه من تنوع لغوي إذ تشكلت تراكيبه من كلمات عامية أو فصيحة مع أخرى أمازيغية وثالثة أجنبية.
o ثمة تمثلات ذهنية تصف هذا المنجز التراثي بالفلكلور. هل ترون ذلك من الصور السلبية ؟
n لعل من الأهداف السامية لهذا البحث يتلخص في إسهامه في محو تلك الصورة السلبية عن فولكلورية هذا النمط من الشعر، ونامل بفارغ الصبر أن يدحض فكرة تقسيم الأعمال الإبداعية إلى : «مركزية» يتعامل معها على أساس أنها النموذج والقدوة ، وأخرى « هامشية» يتم تناولها ترفيها، واحتفالا وفولكلورا، وعندما تذكر، يتم استحضار عدد من الأوصاف لواصق لها، مثل السياحة، الترفيه، الاحتفالات الرسمية .. وذلك بسبب الإهمال الذي طال الثقافة الشفاهية الوطنية إلى وقت قريب لأسباب عديدة ومتباينة، إذ ثم إخفاء الكثير منها مقابل عرض ما تم إظهاره عرضا مشوها ومزيفا . هذا من جهة أما من جهة ثانية فنحن نرجو لهذا العمل أن يكون مسهما وفعالا في سد فراغ موجود في مجال البحث حول هذا الموضوع بالأطلس المتوسط، إذا ما استثنينا بعض الأعمال الأكاديمية، وخصوصا على شكل أطروحات ركزت على وصف اللسان الأمازيغي بالمنطقة ، فإنه لا توجد إلا بعض المقالات القصيرة ، والتي بدأت مع ABES(1919) و ROUX (1928) وأعمال مايكل بيرون الأخيرة ، وكذا محمد شفيق، وهذا بخلاف ما نجده بخصوص « تاشلحيت» و « تاريفيت».
o هل صحيح أن المجتمع الأمازيغي لم يتعود التعبير عن مشاعره، والحديث عن نفسه التي طالما ظلت في عزلة وصمت نحو الإحساس بضرورة البوح والكشف والتعبير عن المشاعر الخاصة ؟
n صحيح جدا لذلك ، تناولنا التجربة الشعرية لدى الشاعر الأمازيغي بالأطلس المتوسط في محاولة للتغلغل إلى أعماق النفس المبدعة، للكشف عن رؤاها . ونحن نعتبر هذا العمل محاولة كذلك للكشف عن الجرح الذي يسكن الممارسة الإبداعية الأمازيغية ، وعن قواعد الانتماء من خلال فعل الإبداع لدى الشعراء، كما نسعى من خلاله لجس النبض الخاص بالنصوص الشعرية لمعرفة كيف مارس المبدع شغبه داخل النص بمستوياته، كأفق للإبداع والحرية ومساءلة للواقع، في محاولة اكتشاف نموذج شعري يريد لنفسه السيطرة والغلبة ، وبلورة منظور خاص بالأمازيغي، يسعى فيه للاختلاف الإيجابي كحق مشروع، ويحاول الاحتجاج على الوضع الدوني لثقافته. كما نرجو من هذه الدراسة أن تؤدي وظيفة مزدوجة، تكمن الأولى في توثيق الشعر الأمازيغي الشفهي وتدوينه . وذلك من خلال جمع هذا المتن الشعري الغني بموضوعاته المختلفة، وقد قمنا بتعريب بعض أشعاره تعريبا يحاول قدر الإمكان الحفاظ على مضمونها، وبعض سماتها الفنية وخصائصها الجمالية، وتتمثل الوظيفة الثانية في مقاربة هذا المتن الشعري الثري باستخدام مناهج نقدية حديثة تستحضر الأطراف التي تشارك في عملية الإبداع الأدبي، ونقصد بها المبدع والنص والمتلقي، مع الانشغال بالجانب التطبيقي والتحليلي، وذلك باستخراج الوسائل البلاغية والأساليب الفنية ، دون إغفال وظيفتها داخل النص.
o وماذا عن مضامين ومحتويات بل ورسائل هذه الأشعار الأمازيغية ؟
n نعتقد أن الشعر الأمازيغي بشكل عام يدور حول أغراض مختلفة، من بينها مثلا: أشعار وقصائد تطرقت للشأن الوطني السياسي والمجتمعي، وأشعار تتحدث عن الوجود والقيم الإنسانية والوضعية التي يعيشها الشاعر، وأشعار تؤرخ لأحداث متميزة من تاريخ المغرب، وأخرى تُبرز قيم الأمازيغ وشجاعتهم. هنا نسجل ملاحظة هامة، وهي أن الإبداع الشعري الأمازيغي لم يقتصر على الإجادة في غرض فني واحد كالرثاء كما نعت بذلك، بل تجاوزه إلى الإجادة في أغراض فنية أخرى كالغزل والوصف وشعر الطقوس و المناسبات وشعر الغربة ، مما يبين مدى قدرة الشاعر الأمازيغي على التحرر، وتخطي الإطار الذي أجبر على التزام حدوده. لقد تضمن هذا المتن مجموعة من التيمات الدلالية التي تشكل رؤية الشعراء للعالم، ومنظورهم الخاص للوجود والكون والإبداع، وتنبني هذه الرؤية على الصمود والتشبث بالهوية والدفاع عن الكينونة الأمازيغية والهجرة وغيرها من القضايا الأمازيغية والوطنية والقومية والإنسانية، إضافة على أنهم لم ينسوا ذواتهم ومعاناتِهم الداخليةَ ليعبروا عنها في أشعارهم الوجدانية الرومانسية التي ينقلون فيها تجاربَهم العاطفيةَ.
o رصدتم الظواهر التي تطبع اللغة الشعرية في النظم الأمازيغي كيف نقدمها للقارئ العربي ؟
n الموضوعية تقتضي القول أن الشعراء الأمازيغيون نظموا أشعارهم بلغتهم الأمِّ التي اكتسبوها بالفطرة في الوسط الذي تربوا فيه، وصقلوا تجاربهم بالدربة والمراس، واستوعبوا ضوابط التجربة الشعرية، بالاستفادة من موروث سابقيهم، فصاغوا أشعارا خاصة، وحرصا على استجلاء أسلوبهم والوقوف على طبيعة تعبيرهم ،ومن اللافت أن الشعراء قد وظفوا إمكانيات بلاغية متباينة لتحقيق جمالية الخطاب الشعري، من جانب، ولإبلاغ المرامي والدلالات من جانب آخر. ولعل من أبرز هذه الإمكانات هي الصورة الشعرية والأساليب الإنشائية واستعمال آليات لغوية متباينة ، صاغوا من خلالها أبياتهم صياغة جيدة ، وأضفوا نكهة جمالية على هذه الموضوعات ، لعل الترجمة غيبت بعض هذه الخصائص اللغوية. وتتراوح إبداعات الشعراء، في هذا المتن ، بين أشعار وقصائد شعرية تترنح شاعرية وبلاغة وقصائد تطفح بالمباشرة والتقريرية الموضوعية.
لقد وظف الشاعر قصائد غنائية، وقصائد قصصية، والتي يستعمل فيها تقنيات السرد والحكي، كما تجمع أشعاره بين الذاتية في التعبير والموضوعية في الطرح والتصوير. ومن هنا فالمعجم الشعري يجمع بين حقول دلالية متنوعة، حقل الذات وحقل الهوية والهجرة والغربة وحقل الوطن… وتتفاوت لغة الشعراء بين الأصالة والعتاقة التاريخية، وبين لغة الوضوح والسهولة وقرب المأخذ، كما أن هذه اللغة تمتاز بشاعرية التعبير ورونق التصوير من خلال استخدام صور شعرية رغبة في خلق صوت شعري متميز.
وتوظيف الصورة الشعرية القائمة على المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه نابع من الخشية من سطوة المجتمع المحافظ في البيئة البدوية، مما لا يتيح للشاعر الجريء فرصة للتصريح بمكنوناته، من هنا كان اللجوء إلى الصورة ضرورة اجتماعية، فضلا عن كونها تمنح الشاعر قدرة هائلة على التعبير، ولم يقتصر الشاعر على التصوير، بل اِستعان بوسائل فنية لتقريب المعنى إلى ذهن المتلقي، وأسهم في التعبير عن أحاسيسه، وأعماق خلجاته، والإفصاح عن رؤاه ومواقفه، وتشكيل جمالية شعره.
عموما، فقد استثمر إمكاناتِ اللغة المتوفرة، للتعبير عن مكنونات نفسه، ولبناء نصه الإبداعي، بناء فنيا محكما، وما يلفت النظر كذلك توظيف أساليبَ إنشائيةٍ تخرج عن قوتها الإنجازية الأولى ( المعنى الظاهر) إلى قوة إنجازية أخرى تستفاد من السياق ، كما أن الأسلوب الخبري قد أنجز بدوره، وظائف تعبيرية عدة، وساهم في إكساب الأشعار خصائص فنية متميزة.
ومن السمات الفنية البارزة في هذا المتن كذلك الإكثار من ضمير المتكلم، لأنه يرتبط بالتعبير عن الذات، وبإظهار مكابداتها ولواعجها، ومن هنا أكثر الشعراء من استعماله، ويقترن بضمير المخاطب أحيانا، لأن الخطاب يكون موجها إلى الآخر بغية التأثير في نفسيته، ولفت انتباهه، وإقناعه بمواقف الشعراء، ورغبتهم في خلق صوت شعري متميز. ويتمظهر إيقاع المتن في تبني إيقاع الشعر القديم، «شعر الإيزلي» أو إيقاع « التالالايت» ويتجسد الإيقاع الداخلي عن طريق التوازي الصوتي واللفظي، وتشغيل تقنيتي التجنيس والتكرار.
o هل من مواكبة نقدية لهذا المتن الشعري الأمازيغي منقبل النقاد المغاربة أو غيرهم ؟
n من الأشياء المثيرة للانتباه حقا غياب حركة نقدية مواكبة لهذه التجربة، التي يتزاوج فيها الشعر بالموسيقى، فالشاعر غالبا ما يجد نفسه منفلتا من أي محاسبة، وهذا ما يحد من انطلاقا هذه التجربة نحو آفاق أفضل.وعلى العموم فهذا المتن الذي رافقناه ورافقنا في هذه الدراسة، يكون قد حقق – حسب تقديرنا- الإبلاغ النفعي والإمتاع الفني
نحن نعتبر البحث محاولة جادة للإحاطة بالقضايا الموضوعية والجمالية في الشعر الأمازيغي بالأطلس المتوسط من جميع جوانبها ؟ إن الحقيقة، وهي نسبية في هذا المجال، تقتضي أن نعترف باستحالة تحقق هذا المسعى، ذاك أن الموضوع على درجة كبيرة من الاتساع والعمق، وما هذا العمل الذي قمنا به سوى خطوة طموحة في درب طويل، عسى به أن نكون قد أثرنا بعض الجوانب تاركين للأيام أن تجود بباحثين جادين يميطون اللثام عما حُجِب عنا