في حوار مع المؤرخ وأستاذ التاريخ الاجتماعي محمد حبيدة

الأوبئة جزء لا يتجزأ  من تاريخ الشعوب على التاريخ أن يكون أنثروبولوجيا اجتماعية

مرت الإنسانية في تاريخها الطويل بالعديد من الأزمات والأوبئة والأحداث الحاسمة، لكن جائحة كورونا، وإن لم تكن بنفس أهمية بعض الأحداث الفارطة، إلا أنه يمكن اعتبارها الأقوى من حيث التفاعل الاجتماعي وما كتب عنها، ولهذا فهي تشكل مادة مرجعية لدراسة الذهنيات والسلوكات وتاريخ الخوف من طرف المختصين والمؤرخين الذين عليهم مواكبة هذا الإيقاع السريع الذي يصاحب الوباء ويجعل مأساويته محركا للتفكير والتحليل، وإعادة النظر في مناهج علم التاريخ وخصوصا اعتماد آليات جديدة في التحقيب التاريخي ومناهج البحث، آليات وأدوات تنتصر للمنهج التاريخي المرتكز على الاقتصاد والمجتمع اكثر من السياسة، ومنفتح على الأنتروبولوجي عوض الحدث السياسي الذي طالما اعتبرته المدرسة التقليدية أو الوضعية محركا للتاريخ.
المؤرخ اليوم، وباعتباره شاهدا على العصر، مطالب بمواكبة هذا الحدث حتى لا يجد نفسه خارج الزمن التاريخي، الزمن الذي سيحدث فيه بدون شك تحول منهجي في مرحلة جديدة من تاريخ الزمن الراهن، تشكل فيها جائحة كورونا تاريخا مفصليا يؤرخ لما قبلها وما بعدها.
عن هذه التحولات في ذهنيات وسلوكات الأفراد، عن مهمة المؤرخ وأهمية التأريخ لهذه الأحداث بعيدا عن الذاتية، كان لنا الحوار التالي مع المؤرخ وأستاذ التاريخ الاجتماعي محمد حبيدة.

 

– يتعامل المغاربة اليوم مع جائحة كورونا كحدث فجائي وغير متوقع، هل يعود الأمر في جانب كبير منه إلى عدم توقف التاريخ الرسمي، وخاصة في المناهج التعليمية، عند أحداث كثيرة مشابهة مرت في تاريخ المغرب؟
– بدايةً، ينبغي التأكيد على مسألة أساسية هي أن الأوبئة في تاريخ البشرية، قبل البنيات الحديثة المرتبطة بالثورة الصناعية وفلسفة الأنوار وامتداداتها من خلال التوسع الاستعماري الأوروبي، كانت جزءاً لا يتجزأ من حياة الشعوب والمجتمعات، حتى أن جميع الأجيال ذاقت من عذاباتها من دون استثناء تقريبا، حيث كانت مشاهد الناس، وهم يسقطون صرعى وجثثهم طريحة الأرض في الأزقة والساحات، مألوفة في أعين الجميع. وكانت آخر جائحة مدمرة عرفتها البشرية هي الإنفلونزا الإسبانية (1918-1919) التي تسببت في مقتل ما يناهز خمسين مليون نسمة عبر العالم، بما في ذلك المغرب، حيث إن قرى بأكملها راحت ضحيتها. والمؤرخون يعرفون جيدا تاريخ هذه الأوبئة، من الطاعون الأسود الذي قتل ثلث سكان العالم في القرن الرابع عشر إلى هذه الإنفلونزا الفتاكة، مرورا بوباء الكوليرا الذي تسبب في نزيف ديموغرافي كبير خلال القرن التاسع عشر. هذه الكوليرا في المغرب، التي كانت تسمى «بوكليب» و»الريح الأصفر»، والتي تكررت طيلة سنوات، 1834-1835، 1854-1855، 1859-1860، 1867-1869، 1878، 1895-1896، عصفت بحياة خَلقٍ كثير من الناس على نحو فظيع، حيث كان المريض «يقيء من أعلى ويسهل من أسفل.. ويسقط ميتا» بتعبير الإخباريين الأقدمين.
اليوم، الجديد في المسألة هو أن لا أحد منا عاش الوباء، كان شابا أو شيخا. ثم إن هذا الوباء أخذ بعدا عالميا ومُعَوْلَـما، كونه مس كل الدول ودفعها إلى اتخاذ إجراءات مماثلة من حيث إجراءات الحجر الصحي والتدابير الوقائية. وجوابا على سؤالكم، المطلوب هو إدراج تاريخ الأوبئة في البرامج التعليمية لتحسيس التلاميذ والطلاب بخطورتها، وبكيفية تعامل الدولة معها، وبردود فعل المجتمع تجاهها.

– كيف دبر المخزن أحداث المجاعات والأوبئة عبر التاريخ؟ وكيف تفاعل الناس مع الإجراءات التي كان يتخذها لمواجهتها؟
– كان تدخل المخزن أساسيا خلال موجات الجفاف والمجاعات والأوبئة، إذ خفَّف من معاناة الناس بتوزيع الصدقات على المحتاجين، ومعاقبة المضاربين، وإسقاط الضرائب على التجار والمزارعين، وإخراج ما في مخازنه من حبوب لتزويد الأسواق، وخلق توازن بين العرض والطلب. أما عن تفاعل المغاربة مع ما كان يتخذه المخزن من إجراءات، فإن المشكلة طرحت في القرن التاسع عشر، الذي تفشَّت إبانه الكوليرا، بسبب تدابير الحجر الصحي أو ما كان يسمى بِـ»الكرنتينة» التي سهر عليها المجلس الصحي الدولي بطنجة، حيث عارضها عدد من الفقهاء الذين رأوا فيها «بدعةً» وإجراءً «ممنوعا عرفا وشرعا». وفي واقع الأمر لم يكن هذا الموقف خاصا بالمغرب وحده، بل عمَّ مجموع الأقطار الإسلامية. هذا في الوقت الذي كانت فيه أوروبا ترسم معالم التفاوت البيولوجي بينها وبين هذه الأقطار، بفضل ما حققته في القرن المذكور من اكتشافات طبية ومخبرية مع الألماني روبيرت كوش والفرنسي لويس باستور وغيرهما من العلماء، ومن تجارب سريرية، ومؤتمرات صحية دولية (أول مؤتمر طبي عالمي انعقد بمدينة باريس عام 1851)، ومجلات متخصصة، وتجهيزات صحية، التي جعلت من الطبابة الحديثة أداةً من أدوات التفوق الغربي.

– تطرقتم في كتابكم «المغرب النباتي» إلى علاقة المغاربة بالأغذية كمواد وبالتغذية كنظام، اليوم كيف تفسرون حالة التهافت على اقتناء وتخزين الأغذية أمام حالة الهلع التي أحدثها وباء كوفيد 19؟
– ثمة فرق كبير بين الأمس واليوم في ما يتعلق بهذه المسألة. في الماضي، كان الاقتصاد معاشيا، مبنيّا على القلة، والبحث كان يجري عن الأساسي من الطعام لسد الرمق، خاصة لدى عامة الناس، من المزارعين في البوادي والحرفيين في الحواضر، الذين كانوا يكتفون بما تيسر من حبوب وقطاني وخضر، لأن اللحم كان مادة احتفالية مرتبطة بعيد الأضحى وبالمناسبات العائلية. أما في الوقت الراهن، فالوفرة التي تعوَّد عليها الناس، خاصة في المدن الكبرى، حوَّلتنا إلى مجتمع استهلاكي، كباقي المجتمعات التي تؤطرها الرأسمالية العالمية. وهذه الوفرة هي مصدر رفاهية وقلق في ذات الوقت، حتى أن بعض المواد التي كانت تعتبر ثانوية في الماضي، أو لم يكن لها وجود أصلا، صارت في نظر البعض من الضروريات في ظروف وباء كوفيد 19. وهذا القلق الذي اعتبرته عالمة النفس كلود هالموس «محنةً نفسانية»، يفسره الخوف من المجهول وهاجس الأمان من الخصاص، اللذان تجسدا في التهافت على البضائع، كما حصل في مختلف أرجاء المعمور، حسب ما عرضته وسائل الإعلام الدولية.
لقد نسي الناس، بفعل موجة الاستهلاك العارمة هذه، قاعدةً أساسية، كون أن بإمكانهم العيش بكمية كثيرة أو قليلة من الطعام، وأن الاعتدال في الأكل أفضل للبدن من الشبع المفرط.

– كيف يتعامل المؤرخ مع أحداث عصيبة كهذه، مقارنة برد فعل المجتمع والدولة؟ وهل يستطيع وحده إعادة تشكيل تاريخ الوباء دون مساهمة متدخلين آخرين؟
– المؤرخ ينتمي أولا وقبل كل شيء إلى الحاضر. ومن هذا الحاضر يسعى إلى فهم الماضي، بالاستناد بطبيعة الحال إلى ما توفره النصوص والوثائق. من جهة، يوفر المؤرخ مادة تاريخية من شأنها الإفادة في استحضار تجارب المجتمعات والدول في التعامل مع الوباء. مثلا مسألة الحجر الصحي ليست جديدة، لأنها تعود إلى العصر القديم، حيث نصح بها الطبيب الإغريقي أبقراط، وعمل بها الأوروبيون في القرون الوسطى، في مواجهتهم للطاعون الأسود خلال أعوام 1348-1350، كما يظهر من تجربة مدينة ميلانو التي كان حاكمها جون فيسكونتي قد طبق بشكل صارم إجراءات الحجر بواسطة جهاز من رجال الأمن، الذي صار يعوِّض تدريجيا، من حيث السلطة المفروضة على الناس، سلطة رجال الدين. وكانت النتيجة أن المدينة لم تعرف نفس النزيف الديموغرافي الذي عاشته المدن الأوروبية الأخرى. ومن جهة أخرى، في ما يتصل بالعلاقة بالمتدخلين الآخرين، فإن تلاقح المعارف، من علوم إنسانية واجتماعية وعلوم بيولوجية وطبية، يبقى ضروريا لتوسيع دائرة الفهم. مثلا، لما ضربت الإنفلونزا الإسبانية العالم سنة 1918، الجميع لاحظ كيف أن المرض عصف باليافعين والشبان بينما سلِم منه الكهول والشيوخ. وكان جواب المؤرخين وعلماء الاجتماع مفيدا بهذا الصدد، لما أبانوا عن أن وباءً مماثلا، وهو الإنفلونزا الروسية، كان قد اجتاح أوروبا قبل هذا التاريخ بثلاثين سنة (عام 1889)، مما دفع بالمختصين في الطب وعلم الأحياء إلى استنتاج ما مفاده أن الشبان في نهاية القرن التاسع كانوا قد اكتسبوا من جراء ذلك مناعة ساعدتهم على مقاومة وباء 1918 وهم كهول وشيوخ.

– أحدثت جائحة كورونا تغييرات جوهرية على مستوى طبيعة العلاقات بين الناس، وأشكال المعيش اليومي، والسلوكات، كما أفرزت تباينا صارخا في العقليات يرجع إلى طبيعة الثقافة والمرجعيات، خصوصا الثقافة الشعبية التي ترفض المعلومة العلمية مقابل الاحتماء بالعلاجات التقليدية، وترتكن إلى القدرية.
– ما يثير الانتباه في جائحة كورونا هو التفاوت بين الفئات الاجتماعية من حيث السلوكات والعقليات. وهذا مردُّه إلى الفجوة الحاصلة في الدخل المادي، وفي التربية والتكوين. فالاندماج في الحداثة والثقة في العلم هما تمرينان اجتماعيان وثقافيان لا يعطيان أُكلهما إلا في المدى المتوسط والطويل، بتحسن مستوى العيش والوعي. ومهما يكن من أمر، أثبتت التجربة التاريخية أن الناس يحكِّمون المصلحة في نهاية المطاف.
في المغرب، في بداية القرن العشرين (مرحلة الحماية) كان الناس قد تشبثوا بالعلاج التقليدي وتحفظوا من الطِّبابة الحديثة، لكن اقتداء البعض بالبعض الآخر، حيث تبيَّنت فوائد الوقاية والتشخيص قبل العلاج والانتظام في تناول الدواء والتلقيح، جعل الكلمة الأولى والأخيرة للمؤسسات الصحية، مثل»معهد باستور»، الذي رأى النور بالدار البيضاء عام 1929، ووفَّر ما بين 1932 و1935 أربعة ملايين جرعة لقاحية لأغراض طبية مختلفة، مؤكداً تفوقَ العلم على الشعوذة والدجل.

– أشرتم أستاذ حبيدة في كتابكم «بؤس التاريخ» إلى مصطلح «التاريخ الحارق»، ما يفهم منه أن البحث التاريخي بالمغرب والمؤرخ تحديدا، مطلوب منه اليوم تجاوز المستوى الوصفي والكرونولوجي بالبحث وتفسير التاريخ من زاوية الاجتماعي والثقافي. كيف يمكن ترجمة هذا المطلب مع ما يعانيه الدرس التاريخي بالجامعات؟
– هذا سؤال عريض ويصعب تفصيل القول فيه في حدود هذا الحوار، لكن يمكن الإجابة عنه بما قاله الأنثروبولوجي البريطاني إفانس بريتشارد: «أمام التاريخ خيارٌ واحد، إما أن يكون أنثروبولوجيا اجتماعية أو لا يكون». ومعنى ذلك، يجب التنبه ليس فقط لمستوى الأحداث التي، بحكم حرارتها وجاذبيتها، غالبا ما تحجب الرؤية عن المؤرخ، وإنما لمستوى البنيات. ثم إن هذه البنيات ليست فقط اجتماعية واقتصادية، بل لها ارتباط أيضا بالعقليات التي عادة ما تبقى عسيرة التحول. ولذلك، على الدرس التاريخي أن ينفتح على الأنثروبولوجيا لأنها تمكِّن من مفاهيم مرنة وذات فاعلية تفسيرية، ومن أدواتٍ لقراءة ما وراء سطور الوثائق.
بالعودة إلى السؤال السابق حول المرجعيات التقليدية والركون إلى القدرية، المسألة مرتبطة ببنية ذهنية موروثة على مدى قرون، حيث كانت الخرافة متنفسا سيكولوجيا في ظل الخوف من الجوع والوباء، و»شكلا مخدوما من أشكال التفكير العجيب الذي تسبح فيه العقلية الجماعية»، كما يقول جاك لوغوف، في مجتمع لا أحد فيه كان يثق في الحياة.


الكاتب : حاورته: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 01/05/2020