ألمانيا غرفة صدى منغلقة على نفسها، ولا تفهم حقيقة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي
ولد شتيفان فايدنر Stefan Weidner عام 1967 بمدينة كولن الألمانية (شمال البلاد). دَرَسَ في جامعات مختلفة مثل غوتينغن وبون (ألمانيا) ودمشق وبيركلي (أمريكا). اشتغل بعد تخرجه أستاذاً زائراً في «»شعرية الترجمة»» في قسم الأدب المُقارن بالجامعات الألمانية: جامعة برلين الحرة وبون وكولن ومونستر. كان رئيس تحرير مجلة (فكر وفن)، التي يصدرها معهد جوته، ويشتغل حاليا كباحث في العلوم الإنسانية ومترجم وناقد أدبي. ترجمت بعض الأعمال من العربية للألمانية من بينها بعض أشعار أدونيس ومحمود درويش وابن عربي (ترجمان الأشواق).
حصل فايدنر على جوائز علمية متعددة منها جائزة يوهان هاينريش فوس من الأكاديمية الألمانية للغة والشعر (2007) والمركز الأول بجائزة الشيخ حمد للترجمة.
الميزة الأساس لفكر فايدنر هي أصالة فكره ومواقفه النبيلة المدافعة عن القضايا العادلة للثقافات الشعوب غير الأوروبية، له اهتمام خاص بدراسة العلاقة بين الإسلام والغرب، بروح بحث تحررت كثيرا من المركزية الغربية، بل تنبه لخطرها في تعاملها مع شعوب أخرى.
لم يعد المرء في حاجة لتقديمكم للقراء العرب عامة والمغاربة بالخصوص السيد شتيفان فايدنر، ليس فقط لغزارة وعمق ما كتبتموه عن العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي عامة، بل لإيمانكم بما تكتبونه، وضيق المسافة بين ما تفكرون فيه وما تقولونه. أي تلك النسبة العالية من الأصالة في تفكيركم. ما هي الذكريات التي ما زلتم تحتفظون بها عن المغرب؟
n ذكريات قوية جدًا ورائعة، والكثير من الأشياء التي لا يمكن التطرق لها هنا. لقد كتبت عن المغرب في كتابين، ترجما معا إلى العربية: «الأصالة المخفية al-As’ila al-Makhfiya “ والكتاب المعنون :فاس Fes”. لكني أشعر أنني بحاجة إلى تأليف كتاب آخر يلعب فيه المغرب دورا رئيسيا، قد يكون نوعا من الرواية. إنها الطريقة الوحيدة التي يمكنني بها معالجة الذكريات الكثيرة عن المغرب.
لكم معرفة وافية وشاملة بالوضع السياسي والإجتماعي في العالم العربي والإسلامي. أي عوائق ترونها في تعثر العالم العربي والإسلامي في نهضته؟
قد لا أتحدث عن فشل، بل عن عملية تغيير مستمرة وصعبة في كثير من الأحيان. تحتاج مثل هذه العمليات وقتًا وتكون مرتبطة بصراعات عنيفة. هكذا كان الأمر في الغرب، وهكذا هو الحال حتى يومنا هذا. لقد حاول الغرب إما تأخير عمليات الإصلاح في العالم العربي أو التأثير عليها بطريقته الخاصة وعلى سبيل المثال نذكر في الحرب الباردة أو بعد أحداث 11 شتنبر، أو عندما غزا الأمريكيون العراق وأفغانستان. وتحت هذا الضغط الخارجي، فإن التنمية المستقلة لا تكون ممكنة. وكثيراً ما ظهرت الحركات التي تبدو معارضة للإصلاحات، مثل الحركات الإسلامية، في الواقع كرد فعل على الاستعمار والإمبريالية (وجزئيا، على سبيل المثال خلال الحرب الباردة، تم تشجيعها من طرف الغرب). بطبيعة الحال فإن الغرب ليس المسؤول عن كل المشاكل التي يعاني منها العالم العربي، لكن لا يمكن كتابة تاريخ النهضة العربية دون الغرب. من جهة، إنها مستوحاة من الغرب، ومن جهة أخرى توجد في حالة توتر معه. ربما، إذا سُمح لي بالقول، مثل الابن الذي يأخذ والده قدوة له، لكنه في الوقت نفسه يريد ويجب عليه أن يكون شخصية مستقلة عنه، وتكون المواجهة دائما أمرا لا مفر منه.
صدرت لكم مؤخرا الترجمة العربية لكتابكم: «ما وراء الغرب»، وهو كتاب طموح «يسبح» ضد التيار في العالم الغربي، بدعوته للاستغناء عن عقلية الهيمنة، والالتقاء بثقافات الشعوب الأخرى، خدمة للسلم والحوار الحقيقيين. ما هي التحديات التي على الجانبين تجاوزها من أجل تحقيق هذا الهدف الإنساني النبيل؟
لقد ترجمتم هذا الكتاب بشكل ممتاز، وأنا ممتن جدًا لكم. هناك الكثير من التحديات لا يمكن تعدادها هنا. لذلك أريد أن أقتصر على ما قمت به في الكتاب: أحاول تفكيك تفكير الهيمنة للغرب من أجل الوصول إلى فهم غير مهيمن للعالمية والكونية. عندما يتحدث الغرب عن «العالم»، فإنه يعني ذاته دائمًا ويعتقد بأنه على الآخرين أن يتبعوه. من طبيعة الحال لا يمكن لهذا أن ينجح. وبالمثل، فلا يستطيع الجميع اتباع الإسلام أو الصين. لذا علينا أن نحاول إيجاد كونية حقيقية. وأحاول في كتابي أن أعرض بعض السبل للقيام بذلك وأقدم بعض الأمثلة على ذلك.
هل فقدت البروبوغاندا الغربية مصداقيتها في محاولة تسويق بعض مبادئ النزعة الإنسانية مثل العدالة للجميع والسلام والديمقراطية وتطبيق القانون الدولي، وبالخصوص الإنساني منه؟
نعم بالتاكيد، ونرى الآن أن هذه الكلمات كانت فارغة ورخيصة: في اللحظة التي يكون فيها الأمر مهمًا بالفعل، فإن هذه القيم تصبح دون قيمة، ويعود المرء إلى النمط القديم للصديق والعدو: وبهذا فإن هذه القيم تفقد قيمتها، بل والأسوأ من ذلك، تبدو كدعاية فقط. وهذا أمر مؤسف للغاية. إن هذه القيم جيدة في حد ذاته، لكن يجب أن تطبق بعدل على الجميع، وهذا ليس كذلك حاليا.
من المغالطات التي تروج لها الدعاية الغربية هي إيهام شعوبها بأن المشكل بين إسرائيل والفلسطينيين بدأ بداية أكتوبر 2023، هل تستخف الحكومات الغربية بعقول شعوبها، أم أن هذا يدخل في خانة التضليل من أجل التضليل؟
– أخشى أن الكثير ممن يقولون إن الحرب التي دامت ما يناهز مئة (100) عام بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود لم تبدأ إلا في 7 أكتوبر 2023، يعتقدون ذلك بالفعل. نفس الشيء بالنسبة للعديد من السياسيين. إنهم لا يعرفون أكثر من ذلك، ولا يريدون أن يعرفوا. إن الأمر أسهل بالنسبة لهم عندما يتجاهلون ذلك. لقد تعلم السياسيون الذين هم في السلطة حاليا هذا بالضبط في المدرسة ومن خلال الجرائد. إضافة إلى هذا لهم علاقات وثيقة مع السياسيين الإسرائيليين. إنهم يتحدثون نفس اللغة، إذا جاز التعبير. ليس لديهم أي اتصال مع العرب. لا يعرفون إلا وجهة النظر الإسرائيلية، ويعيدون الآن إنتاج وجهة النظر هذه. إنهم يعتقدون بالفعل في ما يقولونه، وينطبق نفس الشيء على الناس، على الأقل في ألمانيا، لأنهم سمعوا وتعلموا دائما نفس الشيء. ويقابل السياسي الذي يقول غير ذلك بعدم الفهم. وحتى لو كان السياسي واسع الأفق ويفهم الفلسطينيين، فإنه لا يستطيع أن يقول ذلك صراحة، لأن الناخبين لن يفهموه وسيرفضونه. من الصعب للغاية كسر هذا المنطق الدائري، خاصة وأن وسائل الإعلام تقول نفس الشيء دائمًا، وتعتبر ألمانيا غرفة صدى مغلوقة على نفسها.
نظرا لتصرفات السلطات الألمانية الحالية وحاليا اتجاه المسلمين في ألمانيا، يتساءل المرء هل رجعنا لمحاكم التفتيش من جديد؟
لدي هذا الانطباع أيضا. لقد استعملت بالفعل كلمة محاكم التفتيش في مقال لي. لكن إدارة التحرير حذفت الكلمة. بعبارة أخرى: الرقابة. لا يمكن للمرء الحديث عما هو واضح. لا يُسمح بذكر الكلمة، على الرغم من إن كل السياسيين وكل المؤسسات يمارسون محاكم التفتيش هذه. بل إن الأمر أسوأ من هذا. في ألمانيا، أصبحت صحافة الإدانة رائجة. هناك صحافيون يرون بأن مهمتهم هي التنديد وإدانة كل من يتعاطف مع الفلسطينيين. إن الوضع في ألمانيا رهيب بالفعل، خاصة بالنسبة لأصدقائي العرب والمسلمين. يمكن للمرء أن يتحدث عن عنصرية حقيقية. إن مكافحة معاداة السامية في ألمانيا تخفي عنصرية جديدة.
ألم تتغير المعادلة في ألمانيا: بالأمس معادية السامية واليوم معادة الإسلام؟
الأمر على هذا الحال، للأسف. إن الوضع أسوأ من أي وقت مضى. في السابق، كان بإمكان المرء قول شيء ما والنضال ضد العنصرية المعادية للإسلام. ألفت على سبيل المثال كتابا ضد هذه الأخيرة (كتاب ضد الإسلاموفوبيا، منشور باللغة العربية في قطر). ولكن اليوم، يُتهم كل المسلمين بشكل عام بمعاداة السامية، إذا لم يشاركوا الحكومة ووسائل الإعلام في الحماس المؤيد لإسرائيل. وبما أن معاداة السامية محظورة رسميًا، فقد أصبح من السهل الآن اتخاذ إجراءات ضد المسلمين والعرب وأولئك الذين يفكرون بشكل مختلف. ولم يحدث شيء من هذا أبدا بعد الحرب العالمية الثانية. إننا نمر بأسوأ مرحلة في تاريخ ألمانيا الحديث.
تحدثتم في كتابكم «ما وراء الغرب» عن الاستلاب الذي تمارسه الثقافة الغربية على أبناء وبنات الثقافات الأخرى، وقد شاهدنا هذا الأمر عند بعض من يُعتبرون «مثقفين» عرب مقيمين في الغرب، مثل الطاهر بنجلون»، الذين هاجموا المقاومة الفلسطينية جملة وتفصيلا واعتبروا مقاومتهم «هجمات وحشية». كيف تشرحون هذا الأمر من موقفكم كمفكر إنساني حر؟
هناك ضغوط كبيرة على المهاجرين للتكيف، ليصبحوا جزءًا من المجتمع، فإنهم يرون بأنهم مجبرون على الدفاع عن نفس القيم والأفكار التي للسكان الأصليين. وينطبق هذا بشكل خاص، عندما لا يريدون البقاء على هامش المجتمع، بل يريدون أن يكونوا ناجحين أو يكونوا ناجحين بالفعل. لكن عندما يعبرون عن رأي بديل، يتم تهميشهم وإعادتهم إلى أصولهم، أي يعاملهم المرء كآخرين وكغرباء، يتعامل معهم بعنصرية. من هنا الضغط من أجل التكيف. نفس الأمر في ألمانيا، على سبيل المثال مع نافيد كرماني Navid Kermani، الذي لا يريد الدفاع عن الفلسطينيين أيضًا. إنه ضغط من أجل التوافق، ولكنه أيضًا جبن. لا يريد المرء التخلي عن موقعه الجيد.