السؤال عن معنى الوجود أصبح في عصرنا الراهن في طي النسيان
يهدف كتاب «الضياع الأنطولوجي في فلسفة مارتن هيدغر» لمؤلفه محمد علي إسبر إلى كشف جدوى محاولة الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر وضع منهج شامل يمكن أن يقدم جواباً عن السؤال الرئيس في تاريخ الفلسفة، وهو: ما الوجود؟ لكن رغم أن هيدغر استطاع الوصول إلى هذا المنهج (علم وجود ظاهرياتي تأويلي)، إلا أنه لم يستطع تقديم أي جواب عن سؤال الوجود، فبقي حائراً- تائهاً في غياهب هذا السؤال.
في ما يلي حوار مع مؤلف الكتاب، وهو أستاذ جامعي وباحث في مجال الفلسفة وحاصل على الدكتوراه فيها، له عدة مؤلفات وتحقيقات وأبحاث محكمة، وصدر له عدد من الكتب، منها «ماهية الوعي الفلسفي»:
n ما الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
pp حاولتُ في هذا الكتاب التركيز على مجاهيل فلسفة مارتن هيدغر في أبعادها العميقة، إذ كان موضِعُ اهتمامي بدايةً هو «مصادر فكر هيدغر وتطوّر شخصيته»: فقد نشأ هيدغر نشأة دينية كهنوتيّة في شبابه؛ غير أنه تحوّل عن الكهنوت، وأصبح شغوفاً بالفلسفة المسيحية القروسطية، تحديداً فلسفة جون دونس سكوتس Duns Scotus (مات سنة 1308)، إلا أنَّ التأثير الحاسم في تفكيره كان ناجماً عن تأثُّره بكتاب الفيلسوف الألماني فرانتس برينتانوFranz Brentano (1838-1917) وعنوان هذا الكتاب «في المعنى المتنوِّع للوجود عند أرسطو»ON THE MANIFOLD MEANINGS OF BEING IN ARISTOTLE. ولقد أصبح هذا الكتاب شغل هيدغر الشاغل، وغيّر طريقة تفكيره على نحوٍ أدّى به إلى التخلّي عن الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ على نحو نهائيّ، والاتجاه إلى نوع من التفكير الأنطولوجي أو الوجودي الذي اكتشفه هيدغر في تفسيرات برينتانو لآراء أرسطو عن الوجود، وهنا بدأ السؤال عن معنى الوجود بالظهور في فكر هيدغر الشاب: لقد كان العقل الإنساني عبر تاريخه الثقافيّ معنيّاً فقط بأنواع مختلفة من الوجود تُقال على أصناف متعددة من الموجودات (الإنسان، النباتات، الجمادات…) ولكن ما لفت انتباه هيدغر هو أنَّ هناك معنى بسيطاً مركزيّاً للوجود يسري في أنواعه كلّها دون أن يُعنى به العقل الإنساني، كما تجلّى هذا العقل عينه في تاريخ الفلسفة الغربية، ولذلك حدّد هيدغر السؤال الذي قضى حياته كلّها من أجل إيجاد إجابة عنه، وهو: إذا كان الوجود يُقال بمعانٍ متنوِّعة، فما هو معناه البسيط الساري في هذه الأنواع كلّها؟
ولقد أدّى اهتمام هيدغر بمؤلفات برينتانو إلى قراءة كتب الفيلسوف الألمانيّ إدموند هوسرل Edmund Husserl من حيث إنَّ هوسرل كان تلميذاً لـ»برينتانو»؛ غير أنَّ اطلاع هيدغر على مؤلفات هوسرل قاده إلى التعرّف على الأهمية الفائقة للمنهج الذي ابتكره هوسرل، وهو الفينومينولوجيا (علم ظواهر الوعي)، لكن استطاع هيدغر بعد اطلاعه على فينومينولوجيا هوسرل أن يُفِّرغها من مضمونها الهوسرلي القائم على فكرة الذات المتعالية التي تُخضع الوجود لشروطها المعرفيّة، ليحوّل الفينومينولوجيا نفسها إلى طريقة لكشف الموجودات في العالم بعد استبعاد الوعي وإحلال محلّه ما أسماه هيدغر الإبصار الفينومينولوجي الذي يتيح لظواهر الوجود أن تتفتّح ببراءة بوساطة اللغة. غير أنَّ هيدغر لم يقبل أن تكون اللغة على الإطلاق هي مُنطلق كشف استسرار الوجود بل وجد أنَّ اللغة اليونانيّة واللغة الألمانية هما وحدهما تقدران على القيام بهذه المهمة، لأنهما تعبران عن تراثين فلسفيين مُتصلين هما التراث الفلسفيّ اليونانيّ والتراث الفلسفيّ الألماني، ولقد كان هيدغر يعتقد أنَّ هذين التراثين يمثلان فقط مَنْ عُني بمصير الوجود، ولذلك تُعدّ فلسفة هيدغر-وفق مزاعمه-الفلسفة الوحيدة التي تعنى بحقيقة الوجود؛ لأنه لم يستثنِ تاريخ الفكر البشري فقط من مواجهة سؤال الوجود بل استثنى أيضاً الفلاسفة اليونانيين والألمان ما عدا قلّة قليلة منهم وجد في نفسه تتويجاً لهم: من أمثال برمنيدس وأفلاطون وأرسطو من اليونانيين القدماء والمعلّم إيكهارت Meister Eckhart (1260-1823) ، وإمانويل كنت Immanuel Kant من الألمان. إذ ظنَّ هيدغر أنه الوحيد بعد هؤلاء مَنْ استطاع تجاوز مسألة نسيان الوجود في الثقافة الغربية، ففي رأي هيدغر أنَّ السؤال عن معنى الوجود أصبح في عصرنا الراهن في طي النسيان، إذ إن التفكير الثقافيّ الغربيّ، تحديداً الفلسفيّ منه، عُني بقطاعات جزئية من الوجود، وكذلك بالنسبة إلى العلوم الإنسانية من قبيل علم النفس وعلم التاريخ وعلم الاقتصاد وعلم السياسة وإلى ما هنالك. وكذلك في العلوم الطبيعية سيطرت الرؤية الجزئية للوجود كما في علم الفيزياء وعلم الكيمياء وعلم الإحياء وإلى ما هنالك، فضاع الوجود الإنساني وسقط التفكير البشري الراهن في مهاوي نسيان حقيقة الوجود، وأصبح الإنسان ضحية ذاتيته الزائفة التي تقوم على الثرثرة والفضول والالتباس، وتَغرق غرقاً كاملاً في ليل الحياة التي تقدّمها التكنولوجيا للبشر، فتحوِّلهم فيها إلى دُمى محشوّة بقش ليس فيها أي روح. وبذا يسري عدم رهيب في أعماق النوع الإنسانيّ كلّه؛ ولذلك لا بدّ من مُنْقِذ، وهذا المنقذ ينبع من الإنسان نفسه حينما يتحوّل إلى دازين Dasein ويقصد هيدغر بالدازاين علاقة بين الإنسان ومصيره قِوامها قدرته على الاستمرار في محاولة الإجابة عن سؤال الوجود.
غير أنّي حاولتُ قدْر الإمكان تفنيد مزاعم هيدغر التي مُفادها أنَّ مشكلة الوجود هي مشكلة يونانية-ألمانيّة، ولم أقبل فكرة أنَّ اللغتين اليونانية والألمانية هما وحدهما تقدران على رفع الحُجب عن الوجود، كما سعيتُ جاهداً لتبيان مكامن ضعف هيدغر في محاولته تكوين منهج يجمع بين الأنطولوجيا والفينومينولوجيا والهيرمينوطيقا. كما حاولت توجيه البحث نحو إشكاليّة منهجيّة في تفكير هيدغر فقد جعل هيدغر من الدازاين Dasein -ويقصدُ به الموجود الإنسانيّ وهو في حالة التساؤل عن معنى وجوده-موضِعاً لانكشاف حقيقة الوجود، ولكن ليس هذا الدازاين في حقيقته سوى الدازين الألمانيّ، أي دازين الوجود الألماني متجلّياً في هيدغر نفسه، ولا شك في أنَّ هذا النمط من التفكير ينطوي على استخفاف كبير بثقافات الشُّعوب الأخرى، وإمكانيات المفكّرين الذين يتحدّرون من حضارات مختلفة، كما أنَّ هذا النمط من التفكير يحصر الغِنى الهائل للوجود في انكشاف مشروط لوجود إنسانيّ تاريخيّ عابر.
والحقيقة أنني لن أستطيع في هذا المقام إجمال الأطروحات والأفكار والمشكلات المثارة في هذا الكتاب، نظراً لكثرتها وتعقُّدها، لكن أظن أنَّ ما قلته يُقَدِّمُ لمحةً أوليّة.
n ما التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
pp اكتشفتُ أثناء تأليف هذا الكتاب مشكلة كبيرة تتعلّق بأنَّ اللغة العربية غير قادرة على حمل الثقل المفاهيميّ الهائل لفلسفة هيدغر، ولا يرجع السبب إلى ضعف فكري في بنية اللغة العربيّة، بل إلى أنَّ هيدغر اعتمد أسلوباً لغويّاً في نحت مصطلحاته الفلسفيّة، جعلها غريبة عن التراث الفلسفيّ العربيّ على نحو تام؛ بل غريبة أيضاً عن أدبيات الترجمة الفلسفيّة من اللغات الأخرى إلى العربية في القرن العشرين. هذا، إلى أنَّ ترجمات هيدغر إلى العربية تختلف اصطلاحيّاً باختلاف ثقافات المُترجمين، ولا توجد رؤية ناظمة لترجمة مؤلفات هيدغر، إلى اللغة العربية، لذلك هناك اضطراب في نصوص هيدغر المترجمة إلى العربية على نحو أدّى ضياع أهداف فلسفته وغاياتها.
من هنا وجدتُ نفسي مضطراً للمسير في أرض بكر، في ما يتعلّق بترجمة مصطلحات هيدغر، فمثلاً يوجد تمييز رئيس في فلسفة هيدغر بين مُصْطَلَحين باللغة الألمانية هما Sein و Existenz ويقابلان في الإنكليزية Being و Existence. يقصد هيدغر بمصطلح Sein أو Being بالإنكليزية الوجود الشامل للموجودات كلّها باستثناء الإنسان؛ أما مصطلح Existenz أو بالإنكليزية Existence فيقصد به على وجه التحديد طريقة وجود الموجود الإنسانيّ أو بالأحرى الدازين الذي له طريقة مخصوصة في الوجود، وهي أنه يوجد وهو في حالة تخارج من ذاته، أي أنه يسعى بحكم تركيبهِ الوجوديِّ في العالم إلى تحقيق إمكانياته، فيبقى في حالةِ هروبٍ دائمٍ نحو الإمكانيات إلى أن يصطدم بإمكانية اللاإمكانية، ويعني هيدغر بها الموت. هذا إلى أنَّ مصطلح دازين نفسه –الذي يُعدّ محور فلسفة هيدغر-يعدّ مصطلحاً عصيّاً على الترجمة، فهو مؤلَّف من لفظتين باللغة الألمانية: Da وتعني هنا أو هناك وSein وتعني الوجود، فيصير المعنى الحرفي لمصطلح دازاين: الوجود هنا، أو الوجود هناك؛ لكن هيدغر لا يريد هذا المعنى الحرفي من هذا المصطلح؛ بل يريد منه علاقة مع الوجود يمكن للمرء أن يكسبها أو يفقدها تبعاً لعُمق قدرته على التساؤل عن معنى الوجود. وبذا يستعصي المصطلح على النقل إلى العربية؛ لأنه لا يوجد مقابل لهذا المصطلح في اللغة العربيّة. وقسْ على ذلك في مصطلحات هيدغر كافةً.
n كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاصّ به وكيف سيتفاعل معه؟
pp يندرج هذا الكتاب في أُفق الكتب التي تؤرخ للفلسفة الغربيّة المعاصرة، كما أنّه يتصل بمجال النقد الفلسفيّ، ولكنَّ هدفه الرئيس هو محاولة التأسيس لعلم وجود ينبع من تجاوز الهيمنة الغربية على تاريخ التفكير في حقيقة الوجود، وأقصد بعلم الوجود محاولة تقديم إجابة عن المعنى النهائي للوجود من دون أي استناد إلى الدِّين، ولا العلم الوضعي ولا الأيديولوجيا؛ بل التعويل فقط على ضرب من التأمّل في موضوع التفكير، استناداً إلى التراث الفلسفيّ العالميّ.
n ما الجديد الذي يقدّمه هذا الكتاب من منظار باحث عربي حول فلسفة هيدغر؟
pp يمكن أن يكون الجديد في هذا الكتاب هو تبيان أنَّ هيدغر لم ينجح في مشروعه الفلسفيّ الذي أحدث تأثيراً هائلاً في تاريخ الفلسفة المعاصرة في مختلف أنحاء العالم، إذ لم يتمكّن هيدغر من تحقيق غايته الرئيسة، وهي تكوين منهج يجمع بين الأنطولوجيا والفينومينولوجيا والهيرمينوطيقا، ويمكن توضيح ذلك على أساس أنَّ الأنطولوجيا هي العلم الهادف إلى اكتشاف معنى الوجود بإرجاعه إلى علل أو أسباب تقف وراءه، والفينومينولوجيا هي علم الظواهر، والهيرمينوطيقا هي علم التأويل. وعليه، أراد هيدغر أن يجعل الإنسان نفسه موضوعاً لهذه العلوم الفلسفيّة كافةً، أي أراد أن يكون الإنسان وجوداً مُتَكشِّفاً، وظاهرة قابلة للتفتُّح، وحالة خاضعة للتأويل. ذلك على نحو يُظهر حقيقة الوجود؛ غير أنَّ ما لم ينتبه إليه هيدغر هو أن معنى الوجود لا يُمكن أن يُختزل في الإنسان وحده حتى لو كان الإنسان هو القادر فقط على طرح سؤال الوجود من بين الموجودات كلّها، إذ إنَّ قدرته على طرح هذا السؤال لا تعني أنَّ الجواب ينبع من وجوده فقط الذي لم يُعن هيدغر إلا به، بل هناك موجودات كثيرة في هذا الوجود يجب أن تتصل الإجابة عن معناه بها وألا يقتصر منهج البحث الفلسفيّ على الإنسان وحده، فالوجود ليس إنسانيّاً فقط.
يندرج هذا الكتاب في أُفق الكتب التي تؤرخ للفلسفة الغربيّة المعاصرة، كما أنّه يتصل بمجال النقد الفلسفيّ، ولكنَّ هدفه الرئيس هو محاولة التأسيس لعلم وجود ينبع من تجاوز الهيمنة الغربية على تاريخ التفكير في حقيقة الوجود
n مَنْ هو الجمهور المفترض للكتاب ومَنْ القرَّاء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
pp لا يوجد في ذهني أي تصور مسبق عن القارئ، ودائماً أشعر بالرهبة الشديدة أمام أي قارئ مُفْتَرض، وأشعر بصدق أنّي أقلُّ مستوىً من القارئ، لأنَّ مَنْ يملك القدرة على الإصغاء يبقى أعمق ممن يملك القدرة على الكلام.
n ما مشاريعك الأخرى المستقبلية؟
pp في داخلي رغبة عارمة لتأليف كتاب عن الفلسفة السورية القديمة، إذ إنَّ سوريا في رأيي الشخصي هي بلاد الفلسفة المُغيَّبة، بدءاً من الفينيقيين الذين لم يبتكروا الأبجدية الصوتية الألفبائية فقط؛ بل كانوا روّاداً للتفكير الفلسفيّ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولقد خرجتْ من سوريا مذاهبُ فلسفية مثل الرواقية التي وضع زينون الفينيقي صرحها الشامخ الذي استمر أكثر من ألف عام؛ وكذلك كان النعمان الأفامي السوري واضع المذهب الأفلاطوني المُحْدَث الذي استمر تأثيره إلى أفلاطونيي كمبردج، وبرديصان الرُّهاوي أحد أهم المفكّرين الإنسانويين الأوائل في تاريخ الثقافة الإنسانية ويوجد تجارب فلسفيّة سوريّة تُعَدّ مثاراً للدهشة، ولا يمكن في هذا المقام حصر عظمة الفكر السوري القديم. وهذا، ما حفَّزني للكتابة في هذا الموضوع.
عن «جدلية»