في ذكرى رحيل فارس السرد العربي نجيب محفوظ

 

في يوم 30 غشت من سنة 2006 توفي رائد من رواد الأدب العربي الحديث والمعاصر وفارس السرد العربي الروائي الكبير نجيب محفوظ، تحل ذكراه كل سنة، والعالم العربي يعرف تحولات شاملة غير مرضية سياسيا واجتماعيا وثقافيا وفكريا. تلك التحولات لن يرضى عنها الراحل بتاتا، حيث منذ وفاته ازداد الوضع العربي بؤسا وتراجعا وتشتتا، نتيجة بروز ظواهر غريبة في الثقافة العربية الدينية والسياسية والاجتماعية التي أصبحت عتبة قاتمة ترسم مظاهر بداية انقراض الرأي العربي إذا لم نكن مخطئين أو مسالمين للغة التشاؤم ، لأنه كان يسعى بحلمه وموقفه وقلمه وخياله إلى تقدم الأوضاع وترسيخ قيم التعايش والتسامح والعدالة والحرية والديمقراطية كما هو معتاد عند أصحابه، وذلك بأعماله الروائية العميقة التي لن نتحدث عنها في هذه الكلمة، لكي لا نكرر نجيب محفوظ الذي كان عاشقا للجديد في الأدب والسياسة والحياة والكتابة. والريبرتوار الروائي للراحل والدراسات والأبحاث والنقود التي اهتمت بهذا الريبرتوار، لا يزال بالها لم يهدأ ولم تصل بعد إلى الحسم النهائي في مقصديات العالم الروائي الرحب الذي أسسه الرجل المصري الكوني، حيث أسهم في تشييد فكر مصر الحديث والمعاصر وسردها وثقافتها إلى جانب مجايليه المبدعين والمثقفين والمفكرين والفنانين التنويريين المنفتحين، وأعطى أجيالا وأجيالا من الروائيين المصريين والعرب قاطبة، بل وزعزع السرد العالمي حينما تعرف إليه عبر ترجمات وترجمات، حتى بات من المستحيل، أن تلج مكتبة أجنبية في المعمور ولا تجد فيها عملا روائيا يحمل غلافُه رؤية نجيب العربي الحكيم. ولعل نيله جائزة نوبل للآداب لم تكن مصادفة أو قصدا سياسيا كما يذهب أعداء النجاح السردي العربي على المستوى العالمي، فمن يقرأ روايات الراحل مثل «الثلاثية، والقاهرة الجديدة، وثرثرة فوق النيل، ويوم قتل الزعيم»، وغير ذلك، لا يمكنه أن ينكر عبقرية الرجل العربية في الجمع بين الخيال والواقع والفن والجمال والمبادئ والمواقف خدمة للإنسانية جمعاء، حيث رواياته تقف جنبا إلى جنب بالروايات العالمية التي ألفها دوستوفسكي وتولستوي وإميل زولا وغابرييل غارسيا ماركيز وجان بول سارتر وسيمون ديبوفوار وألبير كامو وغونتر غراس وغيرهم. بيد أن صوت نجيب محفوظ أصبح غير مرغوب فيه عند الظلاميين الذين حاولوا اغتياله مرات ومرات، إما بالفعل الدنيء كما جرى له على روايته الجريئة والمتمردة»أولاد حارتنا»، وإما بالحث الصبياني الآتي من أهل الهدم والتدمير من ترديد كلام تكفيري رديء وهجين لكل من يطلع على روايات نجيب أثناء الحياة وبعد الموت، وعند بعض مثقفي الحداثة الأدبية العربية الذين لهم موقف سلبي من الرواية عامة والرواية العربية خاصة،حيث لا نجد لهم رأيا أدبيا في السرد العربي، وكأن عالم الرواية بعيد كل البعد عن عوالم الأدب ومكوناته. فاهمالهم لنجيب محفوظ يعود بالدرجة الأولى إلى هذه الظاهرة التي تنقص من عمق الأدب العربي، وتتمظهر هذه الظاهرة عند ثلة من الشعراء العرب الرواد ، إذ هناك من يصرح بأنه لم يطلع على عمل روائي قط، وهناك من قام بدراسات ودراسات للأدب العربي ، ولم يشر لا من بعيد ولا من قريب، إلى أي عمل روائي عربي، ليكون نجيب محفوظ ضحية هذا التصور المغلوط إن زمن الشعر لا يعترف بزمن الرواية والعكس صحيح، الذي لا يتلاءم مع التصور الجديد للإبداع والكتابة في ارتباطهما بالمعرفة. ولا داعي لذكر الأسماء. وتكمن عدم الرغبة في الإنصات إلى روايات الفارس الخالدة وأفكاره من لدن مؤسسات الدول العربية الإعلامية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني كما هو معمول به عند الدول والشعوب التي ترى في الأديب والمفكر والفيلسوف والمثقف والعالم رمزا وطنيا وقوميا يستحق الاعتبار والتكريم، لأن رسالته قيمة كبرى لمواجهة التخلف والتراجع وكل ظلام يريد الهيمنة والتسلط. ومن منا لا يتذكر الجملة الشهيرة التي قالها الرئيس الفرنسي السابق الجنرال شارل ديكول حينما طلب منه مستشاروه اعتقال الفيلسوف والأديب سارتر، متهمين إياه بالتحريض والمشاركة في تظاهرات 1968، حيث كان رد الزعيم شارل» إنكم بصنيع كهذا كما لو تريدونني أن أعتقل فرنسا بكاملها « ففرنسا هي سارتر وسارتر هو فرنسا»، فقوة الكلام تتجلى في مكانة سارتر عند الفرنسيين وهذا هو مربط الفرس المتمثل في الاعتبار الرمزي .فإحياء ذكرى نجيب محفوظ وأمثاله في العالم العربي أصبح اليوم أكثر من أي وقت مضى، وبالمستوى الواقعي المطلوب، ضرورة فكرية وحضارية وإنسانية لمحاربة كل أشكال التطرف والتحجر والتشتت التي اتبعها أهل الظلام لغرض الانتشارالسوداوي الهدام للتاريخ والإنسان والوطن والتوالد اللامجدي للفكر التكفيري البئيس،وهذا ما استدركته الدول الباحثة عن نشر التنوير والعقلانية والإنسانية وسط مجتمعاتها، ففي أوربا مثلا نجد إحياء ذكرى إميل زولا أو نيتشه أو سارتر أو بودلير في كل الحغرافيات الغربية، لأن إحياء المثقف التنويري وسيلة ناجعة لحث الأجيال على أخذ العبرة إبداعا وحياة ووجودا وتواصلا، كما أن الأمة التي تحافظ بالمعنى الائتماني على تراثها التاريخي والفكري والأدبي والحضاري تستطيع التشبث بالوحدة والتماسك، حيث يحتاج الإنسان دائما إلى إرشاده إزاء ما يجمعه بأخيه الإنسان في القرب والبعد. فلسفة نجيب محفوظ الروائية من خلال الحكي والشخصيات والأحداث كانت تسعى إلى ترسيخ هذه القيمة الغالية التي تنشر النبل والسلام والعقل والحوار، فنجيب لن يرحل ولم يرحل، فالراحلون هم الذين لم يستفيقوا بعد من غفلتهم وسباتهم في نسيان نجيب وأمثاله، فالقلادة المزورة المهداة للفارس في حياته، حسب ما يروى، رمز من رموز البؤس الإنساني غير المشرف الذي كان نجيب يحاربه بخياله وسرده وحلمه، بينما صدق نجيب المتجلي في الكتابة بالموقف التنويري الفاضح للمناورات حتى الاغتيال والحصار، وبالرفع من القيمة الجمالية العربية هو الذي جعل الشاعر يتذكره بطريقته المتواضعة ولن ينساه…


الكاتب : يحيى عمارة

  

بتاريخ : 05/09/2022