يعتبر المبلغ الذي يدفع تحت الطاولة (النوار) عند اقتناء السكن، أحد تجليات التملص الضريبي الذي يفوت على خزينة الدولة مداخيل هامة، وتمس هذه الظاهرة العديد من القطاعات الاقتصادية. ويُعزى عدم التصريح بالمبلغ الإجمالي لبيع الشقق الذي يتمثل في الحصول على مبالغ مالية دون التصريح بها كاملة في العقد بين البائع والمشتري، إلى عدم تلاؤم العرض مع الطلب من الناحية الكمية والنوعية. وقد تم اتخاذ العديد من الإجراءات لمحاربة هذه الظاهرة، منها على الخصوص، منح المدونة العامة للضرائب لمفتشي الضرائب سلطات في مجال مراجعة الأثمان المصرح بها، وتوقيع ميثاق آداب وأخلاقيات المهنة مع الفدرالية الوطنية للمنعشين العقاريين يلزم المعنيين باحترام مجموعة من المبادئ.
وتتمثل هذه المبادئ، على الخصوص، في احترام مهنة الإنعاش العقاري وقواعدها الأخلاقية والالتزام بمعايير مزاولتها، والتزام الشفافية في المعاملات، والتحلي بروح المواطنة والابتعاد عن التلاعبات، وكذا احترام مصالح الزبناء الذين يقتنون العقار.
وللقضاء على «النوار» تم الرفع من العرض السكني من خلال أوراش كبرى في المدن الجديدة : تامسنا بالرباط وزناتة بالمحمدية وتامنصورت بمراكش ،والمناطق الجديدة للتعمير، ومنتوج 140 ألف درهم ، كما أن قانون المالية لسنة 2010، تضمن إلزامية المرور عبر الموثق للاستفادة من الدعم المالي المباشر المقدم من طرف الدولة لمقتني السكن الاجتماعي، وربط الاستفادة من الدعم المالي بإلزام المقتني بتخصيص السكن الاجتماعي المقتنى لسكناه الرئيسية لمدة أربع سنوات.
منطق جديد مع خلق أقطاب جديدة
يمكن إجمال الأسباب الحقيقية لانطلاقة قطاع الإسكان والاستثمار فيه، في عدة عوامل أساسية، أولها خلق أقطاب عمرانية جديدة، من أجل الرفع من الطاقة الاستيعابية للمدن و ملاءمة العرض السكني لمشروع 250 ألف سكن مع نوعية الطلب وتسريع وتيرة برامج القضاء على السكن غير اللائق وتأهيل المدن وتحسين ظروف السكن بالوسط القروي .
ومن بين العوامل الأساسية التي ساهمت في تسريع وتيرة نمو القطاع السكني بالمغرب ، تجميع المؤسسات العمومية للإسكان في قطب أطلقت عليه الدولة إسم العمران، حيث تم تجميع كل من الرصيد العقاري وأضيف إليه المالي والخبرة الطويلة والقدرات التقنية التي كانت منتسبة إلى الوكالة الوطنية لمحاربة السكن غير اللائق والشركة الوطنية للتجهيز والبناء، حتى أن المجموعة التي استأثرت بكل المفاتيح السكنية والمشاريعية، أصبحت تشكل قطبا اقتصاديا لا يوازيه أي قطب عمومي آخر باستثناء بعض الخواص ، كما أنها أصبحت المؤسسة العمومية الأولى في البلاد على مستوى الاستثمار، ولاستكمال الحلقة التي تشكل بنية الاستثمار ينضاف الى الوعاء العقاري الدور الكبير الذي يلعبه القطاع البنكي في التمويل للأشخاص أو الشركات حتى أنه أصبح يعتبر شريكا استراتيجيا في كل المشاريع العقارية والسكنية، حيث فاقت القروض البنكية في السنة ما قبل الماضية، أي 2015 ، ما يفوق 160 مليار درهم . وأدت المنافسة بين المؤسسات البنكية الى ظهور عدة منتجات بنكية تختلف فيها نسبة الفائدة التي أضحت تنخفض كل شهر ومع ظهور كل منتوج جديد ، حتى أن القروض أضحت تبدأ أحيانا من 800 درهم مما جعل عملية اقتناء سكن في متناول العديد من ذوي الدخل المحدود.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك عدة مشاريع سكنية بالمدن المغربية متوقفة وعالقة، لأسباب متنوعة وصعوبات وعراقيل مختلفة منها الخاص كمشاكل الإرث، أو ظهور مشاكل طوبوغرافية أو مشاكل مالية أو قضائية أغلبها تهم السكن الاجتماعي، وقد بادرت الدولة بالاهتمام بالموضوع عبر خلق لجن محلية وجهوية للبحث عن السبل الكفيلة لإزالة هذه العراقيل ، وتذليل هذه الصعوبات، إلا أن جزءا كبيرا منها بقي عالقا جراء تشابك الملفات التي تخص المشروع الواحد.
التهاب الأسعار رغم التشجيع الضريبي
إذا كانت الدولة تقوم بمجهودات ايجابية لدعم هذا القطاع، ففي المقابل نرى على أرض الواقع، أن السمة البارزة لأسعار العقار خلال السنتين الأخيرتين، هي الارتفاع القياسي في أثمنة العقارات المخصصة للبناء، سواء تعلق الأمر بالبقع الأرضية المجهزة، أو الوحدات السكنية بكل أنواعها بما فيها السكن الاقتصادي المدعم من طرف الدولة في إطار الفصل 19 من قانون المالية 99-2000 ، الذي يمنح إعفاءات و تشجيعات ضريبية للمنعشين العقاريين الذين يتعهدون في إطار عقدة مع الدولة ، بإنجاز 2500 وحدة اجتماعية في مدة أقصاها 5 سنوات.
ويفسر مختصون في مجال العقار الارتفاع الملتهب للأسعار بفعل الإقبال الكبير الذي بدأ يعرفه سوق البناء والعقار من منعشين عقاريين جدد مغاربة أو مستثمرين أجانب، نظرا لما يمكن أن يوفره هذا القطاع من هامش ربح يصل أحيانا إلى ما يفوق 40 % ، بالإضافة إلى المضاربات التي تنهجها بعض اللوبيات المتحكمة في السوق العقارية، في بعض المدن المغربية الكبرى، همها الوحيد مراكمة الأرباح على حساب المواطنين الراغبين في اقتناء سكن .
كما لا يمكن إغفال غياب نظرة ثاقبة لإعادة النظر في تصاميم التهيئة لتشمل بعض المناطق الصالحة للاستثمار العقاري ، كالمناطق التي تنص التصاميم على أنها مناطق إدارية أو سياحية وتبقى دون استغلال لعدة سنوات، حيث يتم التخلي عنها بعد ذلك، وتكون المصالح الجماعية قد لعبت دور «السمسار» في رفع أثمنة الأراضي والعمل ايضا على توسيع المدار الحضري لبعض المدن كالبيضاء والجديدة وطنجة ومكناس والرباط للمساهمة في توازن العرض والطلب المتعلق بالمساحات والأراضي المخصصة للبناء. وينضاف الى كل هذه العوامل ،عامل أساسي يعتبر المحرك في ارتفاع الأسعار الخاصة بالسكن، هذا العامل المتمثل أساسا في غلاء مجموعة من المواد الأساسية المستعملة في البناء كالحديد والإسمنت، الذي يخضع بدوره لقانون العرض والطلب. ويبقى الضحية هو المواطن ذو الدخل المحدود الذي يطمح الى ضمان سكن يقيه شبح الكراء .
ضدا على القانون والأخلاق
تعتبر ظاهرة النوار الناتجة عن المضاربات العقارية تملصا ضريبيا لبعض المنعشين العقاريين الذين يلزمون المواطنين بأداء مبالغ مالية مسبقة لا يتم تضمينها في العقد النهائي للبيع ضدا على القانون والأخلاق ، كما أن بعض المقتنين للعقار يعمد إلى عدم التصريح بالثمن الحقيقي طمعا في تخفيض رسوم التسجيل والتحفيظ، إلا أن ذلك ينقلب عليه عندما يحاول إعادة بيع هذا المسكن،
كما أن بعض المنعشين العقاريين يتخذون من ظاهرة النوار وسيلة أساسية لتعويض وتبرير بعض النفقات غير المبررة و غير المصرح بها لدى مصالح الضرائب ويذعن لها المشتري مجبرا دون مناقشتها ، علما بأن الدولة نجحت إلى حد ما في سياستها العقارية، إلا أن مشكل السكن يبقى مطروحا نظرا للخصاص المهول الذي يعرفه المجال ، إضافة الى بعض الإختلالات البنيوية في مجال السكن الاقتصادي الذي من المفروض أن تستفيد منه الفئات المتوسطة وذات الدخل المحدود في الوقت الذي تستفيد منه فئات أخرى بتواطؤ مع جهات مفروض فيها مراقبة عملية تفويت مثل هذا المنتوج ، وبالتالي يبقى تدخل الدولة حاسما في هذا الإطار لإعادة الأمور إلى نصابها.
تراجع.. وتردد
عرفت العديد من المدن المغربية ، مؤخرا، تراجعا في الطلبات على العقار خلال الأشهر القليلة الماضية، وقد أرجع العديد من الخبراء ممن التقتهم «الاتحاد الاشتراكي» ذلك إلى حالة التردد التي سادت في السوق من طرف الراغبين في امتلاك سكن لهم، نتيجة الارتفاع المهول الذي عرفه سعر العقار خلال السنتين الماضيتين وعدم قدرة الطبقتين المتوسطة والفقيرة على امتلاك سكن رئيسي أو ثانوي، وترقب هؤلاء الإفراج عن مشاريع المدن الجديدة، خصوصا بضواحي البيضاء والرباط و الجديدة و طنجة .
وعن أسباب المشاكل التي يتخبط فيها العقار، والتي تعيق الاستثمار به، أكد أحد المستثمرين في المجال بمدينة الجديدة ، «أنه يأتي في مقدمتها النوار، والذي له انعكاس مباشر على خزينة الدولة بتهرب المنعش العقاري والمشتري من أداء ما بذمتهما من ضرائب تجاه الدولة، بالإضافة إلى أن الأسر الفقيرة تزداد تهميشا جراء هذه الآفة لعدم قدرتها على سداد ثمن العقار، مضافا إليه النوار» وأكد أحد المنعشين الصغار ، « أن الدولة عجزت عن محاربة النوار الذي يكاد يصبح عرفا معمولا به بشكل عادٍ بين الناس»، مشيرا إلى « أن التدابير المزمع اتخاذها من طرف وزارات الإسكان والمالية والعدل لتقنين قطاع العقار ومحاربة النوار بواسطة حق الشفعة تمثل حلا صائبا، شريطة تفعيلها بشكل سليم دون أن تبقى مجرد حبر على ورق، كما هو الحال بالنسبة إلى عدة قوانين لم تفعل منذ إقرارها».
فيما يرى آخر أن « تبييض الأموال» يعتبر سلوكا يتضرر منه قطاع العقار ، «حيث يبقى دور الدولة جد فعال في هذا الإطار، خاصة مع اكتشاف عصابات، في الآونة الأخيرة، أضحت تستثمر بشكل كبير في مجال العقار بأموال المخدرات في مدن الناظور ومكناس والبيضاء ، وبالتالي على السلطات المالية، التي لها كل الإمكانيات اللازمة، الحرص على ضمان سوق عقاري بأموال غير وسخة».
وأكد جميع من استفسرتهم «الاتحاد الاشتراكي» على أنه حان الوقت ليوقع جميع المتدخلين في القطاع، من منعشين عقاريين وإدارة ضريبية وموثقين وأبناك وغيرهم ،على ميثاق شرف يضمن لقطاع العقار نموه على أسس متينة دون الوقوع في أخطاء قد تؤدي إلى ركوده ، كما هو الحال عند الجارة الإسبانية التي انخفضت قيمة العقارات بها الى درجة خطيرة .
هل فعلا هناك «أزمة» عقار ؟
يعاني القطاع من الارتفاع في التكاليف الضريبية عند بيع أي عقار، مما ينتج عنه عدم التصريح بالقيمة الحقيقية للعقار، وبالتالي ممارسة الطرفين (البائع والمشتري) للنوار، علما بأن الضرائب المفروضة عند شراء العقار تعتبر من النسب الأكثر انخفاضا مقارنة بالدول المجاورة كإسبانيا وفرنسا ، حسب إطار يعمل بمصلحة مراقبة الأرباح العقارية ، لكن المشكل يطرح بالنسبة إلى الضرائب المفروضة عند بيع العقار حيث النسبة المخصومة مرتفعة جدا، مما يشجع على النوار.
وأمام كل الذي يحدث يمكننا طرح التساؤل التالي: هل فعلا نعيش الآن أزمة عقار ؟ أم أن ذلك مجرد وهم، وبالتالي فإن سعر العقار يعرف انخفاضا، وما التساؤلات المطروحة سوى تهويل من طرف بعض المتدخلين في القطاع لإبقاء السوق محتكرا من طرف بعض الجهات.
وأكد أحد المنعشين العقاريين على «أن السكن خاصة الإقتصادي منه لن يعرف انخفاضا على الأقل في السنوات المقبلة ، مادام الطلب موجوداً على العقار ، رغم انحساره مؤخرا نتيجة تردد الكثيرين في الشراء، وأمام قلة العرض باستثناء الشقق التي نما سوقها بشكل ملموس في الأشهر الأخيرة في مدن البيضاء ، المحمدية ، طنجة ، مراكش، الجديدة، الرباط ومكناس، فيما بدأت تنعدم الأراضي القابلة للبناء، في العديد من المدن…
وأكد نفس المنعش « أن الشيء الوحيد الذي يعيق سوق العقار هو أن جل المعاملات التي تتم تكون خارج مراقبة أعين السلطة المالية ولا تتم ببطائق الائتمان أو الشيكات البنكية وإنما بالنقد، مما يفتح الباب أمام النوار بشكل فاضح ودون أن يترك أثرا له أمام السلطات المالية».
مؤاخذات المجلس الأعلى للحسابات
وجه ادريس جطو، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، انتقادات إلى «اتفاقات الصلح» المبرمة بين المديرية العامة للضرائب والمنعشين العقاريين؛ معتبرا أن «هذا النهج شجع ظاهرة عدم التصريح بالمبلغ الكلي للبيع «النوار»، وساهم في انتشار ممارسة التصريحات الضريبية الناقصة بالنسبة إلى قطاع يحقق هوامش ربح هامة». وقال جطو في تقارير المجلس الأعلى للحسابات، ، إنه نظرا إلى شيوع ممارسة التصريحات الضريبية الناقصة من طرف المنعشين العقاريين، بالرغم من المستوى العالي لهامش الربح، فقد أبرمت المديرية العامة للضرائب مع ممثلي المنعشين منذ سنة 2008 اتفاقات ذات طابع حبي تقضي بوضع هؤلاء لتصريحات تصحيحية من أجل الزيادة في مبلغ الضريبة، وذلك على أساس مذكرة اتفاق بين المنعش العقاري وإدارة الضرائب، وهو ما يثير عدة ملاحظات، أهمها: إبرام اتفاق عام مع قطاع الإنعاش العقاري برمته، في حين كان من الممكن أن يتم إبرام هذه الاتفاقات بشكل فردي؛ ثم إبرام اتفاقيات تعتبر، عمليا، بمثابة تخل عن التصحيحات الضريبية؛ بالإضافة إلى أن هذه الاتفاقات تمت قبل الشروع في المراقبة أو مباشرة بعد الشروع فيها؛ ناهيك عن عدم وضع التصريحات التصحيحية المنصوص عليها في الاتفاقات».
وأكد تقرير المجلس الأعلى للحسابات « أن إدارة الضرائب تلجأ، في بعض الأحيان، إلى إبرام اتفاقات صلح مع المنعشين العقاريين في غياب إشعار هؤلاء بالمراجعات المتخذة في حقهم، وكذا دون إجراء أية مراقبة أو عن طريق مراقبات جزئية»؛ مشيرا إلى « أن المراقبة تنحصر فقط في إرسال الإشعار بالمراقبة دون أن يتم ذلك فعلا على أرض الواقع، وهو ما يخل بمبدأ العدالة الجبائية بين الملزمين، إذ أنه لا يتم اعتماد عنصر موضوعي لتحديد مبلغ الاتفاق». ويضيف التقرير «أنه يلاحظ، في بعض المديريات الجهوية للضرائب، أن مكاتب المراقبة لا تقوم بمراقبة العمليات العقارية التي ينجزها المنعشون العقاريون؛ وغالبا ما لا يتم استغلال المعلومات المتوفرة عند هذه المكاتب من أجل اقتراح القيام بمراجعات لتصاريح بعض المنعشين العقاريين الذين يصرحون بأثمنة هزيلة وغير مطابقة للواقع».