من داخل رحم الأسوار العتيقة، رفع الستار على فعاليات مهرجان فاس للموسيقى العريقة في نسخته الثامنة والعشرين، تحت شعار: «انبعاثات»، حيث ترأست صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء حفل افتتاح هذا الموعد الثقافي الروحي، الذي أصبح علامة مميزة في سماء الفن والتلاقي بين الحضارات، بحيث شكل حضور سموها لحظة رمزية فارقة، أكدت عمق الرعاية الملكية لمهرجان موسيقى الروح، الذي هو ليس مجرد تظاهرات فنية، بل جسر التواصل بين الشعوب، ونافذة مفتوحة على قيم السلام، التعايش وحوار الحضارات.
ولدى وصولها إلى الساحة التاريخية مكان الحفل، استعرضت الأميرة للا حسناء تشكيلة من القوات المساعدة التي أدت التحية، قبل أن يتقدم للسلام عليها وزير الشباب والثقافة والتواصل، محمد المهدي بنسعيد، وسفير دولة الإمارات العربية المتحدة، العصري سعيد الظاهري، وأرماندو باروكو سفير جمهورية إيطاليا، ضيف شرف المهرجان، وسفيرة جمهورية السنغال سينادو ديال، وسفير جمهورية أذربيجان ناظم صمادوف، وسفير جمهورية تركيا مصطفى إيلكر كيليش، وسفير سلطنة عمان خالد بن سالم بن أحمد بامخالف، وسفير مملكة إسبانيا إينريكي أوخيدا فيلا.
وقد تابعت سمو الأميرة عرضا فنيا ساحرا نقل الجمهور في رحلة عبر القارات والتقاليد، تحت شعار «انبعاثات : من الطبيعة إلى المقدس»، تضمن فقرات متتالية، مستوحاة من جمال العالم، وتعدد تعبيراته وجمالية إفريقيا بألوانها المبهرة، الباروكية، والساخرة في بعض الأحيان.
فمن خلال سينوغرافيا حكائية وكوريغرافيا استثنائية، سلط هذا الحفل على الموضوع الرئيسي لدورة 2025، مثمنا مفهوم «الانبعاث»، كحافز للتجديد الثقافي والروحي والفني، الذي يعتبر المغرب نموذجا له، حيث امتزجت الأصوات والأنغام والرقصات، واختلطت الأهازيج والرقصات بالأضواء والرسوم الضوئية التي حيكت بخيوط الذاكرة الجماعية، على خشبة باب الماكينة التي تحولت إلى مسرح مفتوح عابر للقارات، في عرض افتتاحي حالم.
وتعاقب عشرات الفنانين الذين يمثلون البرمجة المتنوعة للمهرجان، أمام الأسوار التاريخية لباب الماكينة، ومن بينهم نساء مايوت (جزر القمر) اللائي قدمن عرضا يجسد طقس « ديبا » الصوفي، والمجموعة الصوفية «أريج » من سلطنة عمان، ومجموعة ميهانزيو من الكوت ديفوار.
ويتعلق الأمر أيضا بـ»قصائد» لمريدي السنغال، وطبول بوروندي، والرقص الصوفي «السماع» لمكناس، والغناء المقدس للنهضة الذي أدته الميزو – سوبرانو وكولوراتور باتيستا أكوافيفا.
وفي ختام هذا الحفل الافتتاحي، أشرفت صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء على تسليم جائزة المواهب الشابة «روح فاس»، المنظمة بشراكة مع مؤسسة «روح فاس»، لخريجي المعهد الموسيقي للعاصمة العلمية للمملكة، حيث عادت جوائز البيان، والقانون، والكمان والعود، على التوالي، إلى إيمان برادة، وهبة ازكار، وزكرياء المبكر، وسعد غانمي.
وتحتفي الدورة الـ 28 من مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة بإفريقيا، القارة التي يحرص شبابها على الحفاظ على تقاليدها العريقة والاحتفاء بها، ونقل تراثها إلى الأجيال القادمة، مساهما بذلك في نهضتها الثقافية.
هذا، وقد اجتمع جمهور من مختلف بقاع العالم لمتابعة هذا الموعد الثقافي الدولي، حيث تجلت فلسفة «الانبعاثات» في لوحات إبداعية مزجت بين الروحاني والجمالي، احتفاء بانبعاث مدينة فاس الثقافي والروحي من قلب التاريخ، حيث تابع الجمهور رحلته الليلية التي جسدت روح الدورة من الانبعاثات الفردية إلى الانبعاث الجماعي، ومن الطبيعة إلى المقدس، ومن فاس إلى العالم.
كما تناول العرض الإنسان في كل تجلياته الروحية والثقافية، من خلال فسيفساء موسيقية مستهلها مع إشعاع فاس، مرورا بالطقوس الصوفية بإفريقيا والجزيرة العربية والمحيط الهندي، وصولا إلى الصحوة الأوروبية التي أطلقها عصر النهضة الإيطالي، حيث نُسج العرض بعناية، ليحاكي انبعاثات الإنسان كمتتالية من الشذرات، تتقاطع فيها الجذور والمعتقدات، احتفاء بالتعدد.
وقد أبهرت مجموعة «أريج» العمانية الحضور بأناشيدها الصوفية، في مقدمة للصلاة على رسول الله، بينما قدّمت مجموعة الشمائل المحمدية للأمداح النبوية، عرض «السماع» الصوفي، برئاسة إسماعيل بوجية، في حوار موسيقي مفعم بالروحانية.
كما حضرت إفريقيا من خلال عروض لمجموعات فنية متنوعة، من بينها رقصة طقوس النمور من الكوت ديفوار، ومريدو السنغال، وطبول بوروندي الشهيرة، إلى جانب مشاركة نساء من جزيرة مايوت في طقس «ديبا» الصوفي، الذي يحتفي بمولد الرسول.
بدوره، أضفى الفنان المالي حبيب ديمبيلي لمسة سردية على الحفل، في دور «الحكواتي»، بأسلوبه المتميز.
للإشارة، تتميز هذه الدورة بحضور إيطاليا كضيف شرف، في احتفاء يجسد روح التبادل والحوار بين ضفتي المتوسط، بحيث تأتي هذه الاستضافة في إطار اختيار يعكس الشعار الذي يحمله المهرجان هذا العام، «انبعاثات»، إذ تسلط الضوء على مرحلة النهضة الإيطالية التي شكلت لحظة تحوّل فارقة في تاريخ أوروبا نحو الحداثة.
ويعد حضور إيطاليا بالمهرجان فرصة لإحياء روابط ثقافية قديمة، كتوأمة فاس وفلورنسا منذ عام 1961، في لحظة رمزية تكرس فاس كعاصمة روحية للمغرب ومفترق طرق للحوار بين الإسلام والمسيحية واليهودية، وترسخ في الآن ذاته التفاهم المتبادل بين الشعوب من خلال لغة الفن.
في عرض افتتاحي حالم إحياء جمال الروح في لحظة واحدة

الكاتب : مكتب فاس : حسن عاطش
بتاريخ : 19/05/2025