في عيد المسيرة الخضراء ..متطوعون يسترجعون ذكرياتهم..

لم نشعر بالخوف أو التردد، كنا عاقدين العزم على تحرير الصحراء بأي ثمن

 

قبل 45 سنة، حمل رجال ونساء مغاربة مصيرهم بين أيديهم، وتوجهوا مسلحين بالايمان وحب الوطن، نحو ربوع عزيزة من بلادهم، عاقدين العزم على طرد المستعمر وتحرير الأرض، كانوا 350الف متطوع يمثلون كل مناطق المغرب شاركوا بكل شجاعة في هذه الملحمة الوطنية. بعد كل هذه السنين، أردنا في جريدة الاتحاد الاشتراكي ان نكرم ذكراهم في عيد المسيرة الخضراء، من خلال اثنين من المتطوعين اللذين سيتقاسمان معنا بعضا من ذكرياتهما التي لم تمحها السنين ولا نالت منها الأيام.

 

كعادته في نفس الموعد من كل سنة، يجلس السي عبد الله مشتري..الرجل السبعيني الذي أوهنه المرض لكنه لم ينل شيئا من وضوح أفكاره ودقة ملاحظاته، وسط أحفاده وحفيداته ..يسرد حكايات فريدة وقصصا عزيزة إلى قلبه، ذكريات تعود به سنوات كثيرة إلى الوراء، يوم قرر، وفي لحظة حماس وطني، تسجيل اسمه ضمن لائحة المشاركين في المسيرة الخضراء..كان يوما مشهودا يقول..لم أفكر لحظة واحدة في ما أنا مقدم عليه …حين تناهى إلى أسماعنا الخبر..قررت رفقة بعض أصدقائي وشقيقي الأصغر ودون كثير تفكير التوجه إلى المقاطعة لتسجيل أسمائنا.. وذلك مباشرة بعد مغادرتنا العمل، كان المكان يعج بالمئات من المواطنين ذكورا وإناثا ..يحاولون بشتى الطرق نيل مكانهم ضمن المغادرين لتحرير الصحراء.
“سجلت اسمي ورجعت باش نخبر والدتي وزوجتي الحامل بما أنا مقدم عليه…كان الخبر صادم ليهم ..كيفاش غنخلي أسرتي وأمي دون معيل وأغادر نحو المجهول، لكن كان حماسي أكبر من أن يثنيه كلام والدتي أو صمت زوجتي المعبر ..حتى قوة ما كانت تقدر تغير لي رأيي..كانت شي حاجة كتدفعني باش نمشي، ما حسيتش بالخوف ولا التردد، ربما هي فورة الشباب ..فقد كنت في بداية العشرينات من عمري..جهزت نفسي وجاء يوم المغادرة نحو مراكش …اجتمعنا في مكان كان معروفا في ذلك الوقت باسم الشابو بعين السبع ..كانت الجموع غفيرة أكثر مما يتصور..عيالات ورجال.. صغار وكبار..هازين أمتعتهم البسيطة على أكتافهم … بقينا تما أربعة أيام .. في خيام تم تجهيزها خصيصا لنا . كنا نقضي الوقت في انتظار السفر..”
في اليوم الرابع سيتوجه المتطوعون الى محطة القطار للمغادرة نحو مراكش :”توجهنا الى محطة القطار..باش نمشيو لمراكش ..كان الكل يتدافع ويتسابق ليكون ضمن الصفوف الأولى التي ستستقل القطار، انطلقنا بعد أن وزعت علينا كل احتياجاتنا من ماء وأكل وسجائر..”.
في الطريق الى مراكش عبر القطار اضطر المشاركون إلى التخلص من أكلهم الذي فسد بسبب الحرارة يؤكد سي عبدالله “ملي ركبنا في القطار وبدينا غادين ..لقينا أكلنا المكون من الدجاج المحمر اللي عطاوه لينا في الدار البيضاء خسر..حيث كانت الحرارة بزاف والمسافة بعيدة ..”. وعند وصولهم المدينة الحمراء استبدل المتطوعون القطار بالحافلات والشاحنات يقول سي عبد الله لاصوف..وهي الكنية التي لازمته منذ الصغر..” وصلنا لمراكش ركبونا في الكيران والشاحنات..وبدينا غاديين ..حتى وصلنا لكلميم.ومن بعد طانطان عاد طرفاية ولكن مادخلناش ليها توقفنا في واحد المكان عند الحدود ..نصبنا الخيام ديالنا ونظمنا راسنا..كنت أنا الشاف على خيمة فيها 32 شخص. في أحد الايام زارتنا مجموعة من الصحراويين.. شي عشرة تقريبا..دخلوا خيمتنا..واشتكوا لنا معاناتهم مع الإسبان الذين يستولون على جمالهم إن هي توغلت في الصحراء..اقتسمنا معهم ما كنا نختزنه من أكل وشرب…وتبادلنا معهم أطراف الحديث من بعد مشاو…”.
على بعد كيلومترات قليلة من طرفاية يوجد مركز الطاح…وهو نقطة حدودية وهمية وضعها المستعمر لفصل المغرب عن الصحراء، في يوم 5نونبر خاطب الملك الحسن الثاني المتطوعين قائلا :”غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطأون طرفا من أرضكم وستلمسون رملا من رمالكم”. في صبيحة السادس من نونبر..وقفت الحشود في نظام وانتظام منتظرة الأوامر القادمة من أكادير لاختراق الحدود..الوهمية.. “في حدود العاشرة، أمرنا الملك الحسن الثاني باش نتحركو ونخترقو هداك الحاجز الحديدي..بدينا غادين .. والطائرات الإسبانية كتحوم فوق روسنا..كنا حاملين القرآن والرايات وصور الملك..ماخفناش من الطيارات.. كنا نردد الأناشيد الوطنية والشعارات ..وصلينا فوق الرملة بأحذيتنا.بعد توغلنا في الصحراء..جات الأوامر باش نوقفو…”..
نترك السي عبد لله يواصل استرجاع شريط ذكرياته متذكر ا خبر ا مفرحا جاءه عبر البريد، فقد وضعت زوجته مولودة في نفس يوم اختراق الحدود الوهمية.. ..وننتقل الى متطوع آخر . .
سي مبارك جمعاوي… الفلاح البسيط من منطقة حد اولاد فرج نواحي الجديدة،الذي لم تنل السنون من سرعة بديهته ورجاحة عقله وحسه الفكاهي، مازال يتذكر تلك اللحظات بكثير من الفخر الذي يطل من عينيه، والاعتزاز بمشاركته إلى جانب عدد كبير من أبناء منطقته في هذا الحدث غير المسبوق، الحدث الفريد الذي سيكون سببا في تحرير جزء عزيز من الوطن من أيدي المستعمر الإسباني.
يسرد تلك الأحداث المتسارعة بكثير من الدقة والوضوح، وكأن الصور تتسارع أمامه مثل شريط سينمائي، وكأن السنين توقفت عند تلك اللحظات وأبت إلا أن تنقش تلك الذكريات في القلب قبل الذاكرة،” لم أتقبل أن يخبرني المقدم أن لا مكان بقي لي، وأنه تم تسجيل العدد المطلوب، درت جميع المحاولات أنا وصديق لي حتى قدرنا نسجلو أسماءنا ضمن لائحة المتطوعين، شعرت بفرح كبير وكأني فزت بجائزة”.
في اليوم الموعود توجه المشاركون نحو المكان الذي سيجتمع فيه كل متطوعي إقليم الجديدة، ” كنا جاهزين ومستعدين، كل شي كان فيه الحماس وفرحان باش يمشي للصحرا، ركبنا الشاحنات المخصصة لنا ، بينما تم إركاب النساء الحافلات، كان رجال الدرك والجنود يقومون بتنظيمنا وتوزيع كل المستلزمات علينا من أكل وشرب وأغطية وخيام وسجائر. ..كل ما تفكرت هاد اللحظات أحس أنها وقعت أمس”.
الآلاف من المتطوعين منتشرون في كل مكان. لكل واحد منهم قصته وحياته الخاصة، لكنه أراد أن يفتح فصلا جديدا فيها، عنوانه الانتماء وروح التضحية والامتثال لنداء الوطن، يمضي السي مبارك جمعاوي في بوحه قائلا “لم يتسرب إلى أنفسنا أدنى سؤال عن مصيرنا، وما نحن مقدمون عليه، كنا على ثقة تامة أننا متجهون في مهمة وطنية نبيلة، ببسالة الجنود وإقدامهم، لم نخف العدو، ولم تتسرب إلى قلوبنا ذرة خوف أو تردد”.
كان كل شيء جاهزا لتمر المسيرة في أحسن الظروف، بدأت الشاحنات والحافلات في التحرك بانتظام تام دون أن تتجاوز بعضها البعض في شريط طويل، يمتد لكيلومترات وكيلومترات، وسط الأهازيج والأغاني التي كان المتطوعون يرددونها بحماس منقطع النظير.
” كنا في كل مكان نحط به الرحال نقوم بتجهيز أكلنا وصنع براريد الشاي، لكل إقليم أو مدينة مكانه المحدد، الذي لا يتجاوزه، “دزنا على أكادير ، تزنيت فكلميم، فطنطان. لم نتوقف إلى أن بقي لنا عن مدينة طرفاية 12 كلم تقريبا، وقفنا تما لمدة 6 أيام، أو أقل ، نصبنا الخيام وصيبنا مساجد للصلاة، كل خيمة فيها 25 فردا، وعلى رأس كل خيمة واحد ينوب عنا. كيجيب الماكلة من المكان لي كتوزع فيه، كل واحد فينا لي عرف شي حاجة يديرها، كل شي كان موجود، الما، الخبز الصابون السردين، الحليب.. الكارو… ، حتى لي ما كيدخنش ياخذ حقو من الكارو.”
لم يتذكر السي مبارك اسم المكان الذي توقفوا فيه، كل ما تذكره هو تلك الصحراء الشاسعة والرمال التي تحيط بهم من كل مكان “البلاصة ما عرفناش اشنو سميتها، من بعد ما دوزنا 6 أيام علمونا أننا غنتحركو للعيون، اعطاو لكل خيمة خنشة ديال التمر( قنطار)،الخبز، والما، وعلمونا باش نجمعو الخيم ونتسناو الأوامر. من الثامنة مساء إلى الثامنة صباحا وحنا كنتسناو في الشاحنات بلا مانتحركو، العيالات كيركبوهم ديما في الحافلات” هنا يتذكر السي مبارك شيئا مهما طلب منهم:” قالو لينا بقاو مخَفّين، ما تكثروش من الحوايج، راكم غضربو 62 كلم على الاقدام، الشاحنات غادين يوصلو لواحد المكان ويوقفو، باش نرجعو عندهم ، إن رجعنا بطبيعة الحال،” يضيف السي مبارك.
بعد أن تحركت الشاحنات وصل المتطوعون الى الحدود الوهمية :” هذاك المكان لي كنا غندخلو منها هي الديوانة ديال اسبانيا، مبنية بحال القبب ، ظنناها في المرة الأولى غير أضرحة ديال أولياء الله الصالحين (يضحك) … ملي نزلنا وراونا كيفاش نكونوا لابسين..مانطة على الاعناق ، بيدو ديال الما في الجنب معلق، خدمة عسكرية، وجامعين روسنا’. قالو لينا راكم غادين تدخلو عند شي ناس صحراويين قولو ليهم احنا خوتكم جينا عندكم.”
بعد كل هذه الاستعدادات كانت مدينة قصر السوق حسب السي مبارك هي السباقة إلى الدخول نحو الأراضي الصحراوية المغربية المغتصبة ” قصر السوق هي لي قطعت الكروشي ودخلات، ولكن بعد 12 كلم وقفوا، من وراهم حنا دخلنا راكبين، لقينا أربع طائرات إسبانية كتدور فوق منا ” .
رغم الطائرات التي كانت تحوم فوقهم لم يشعروا بالخوف أو الرهبة يقول السي مبارك: كنا نتحداها بعباراتنا وأيادينا التي نلوحها لها في توعد ظاهر ونحن نطالبها بمغادرة أرضنا، ما خفناش منها الصحرا ديالنا “.
بعد دخول المتطوعين بدأوا في نصب الخيام التي سيقيمون بها، بين إقليم وإقليم مسافة معينة،”حنا اقليم الجديدة كنا حدا الدار البيضاء، الشاحنات توقفت قريبة لينا وأدارت وجهتها للجهة المقابلة تحسبا لأي خطر، وبقاو فيها السائقين، طلبو منا باش كل ليلة يحرسها واحد من الخيم”.
بعد أربعة أيام تقريبا عادوا الى مكان قرب طرفاية ، ‘ كان الجو معتدلا، وقفنا حدا البحر، اغتسلنا ، وغسلنا ملابسنا بمياه البحرلأن المياه لي وزعو علينا كانت خاصة بالشرب فقط”.
يتابع السي مبارك سرده للمراحل التي مروا بها، “”ما عمرنا لقينا شي حد، أو صادفنا شي حد” وفي 9من نونبر خطب الملك الحسن الثاني الذي أمر المسيرة بالرجوع”.
“ذيك الليلة خطب الملك قال لينا أنا ذاهب إلى مراكش والمتطوعون يرجعو من الصحرا لأماكنهم”
عمت الفرحة الجميع وأمرت الحافلات بالرجوع ” عرفنا راسنا حررنا الصحرا، في الصباح ركبنا في الشاحنات ورجعنا بحالنا…”
لم يندم سي مبارك او سي عبد الله على ركوب تلك المغامرة. يقول سي مبارك إنه كلما حلت ذكرى المسيرة الخضراء أو سمع تلك الأغاني التي تتغنى بهذه الملحمة الوطنية إلا وأحس بالدموع تتجمع في عينيه، وشعر بالحنين الى تلك الأيام، وإلى تلك الأرض العزيزة التي كتب له أن يحررها رفقة 350 ألف متطوع سلاحهم الإيمان بعدالة قضيتهم، وحبهم لوطنهم .
حكايا كثيرة يرويها كل من السي عبدالله والسي مبارك وقعت أثناء المسيرة ،مثل اقتحام خيمة سي عبدالله في الثانية والنصف صباحا من طرف شخصين مجهولين ليسا من المتطوعين لم يعرفوا هويتهما فتم إبلاغ الدرك عنهما..أو عندما قام مجموعة من المتطوعين بإضرام النار في بعض الأمتعة استعدادا للرجوع، فظن حراس الشاحنات أن خطبا ما حصل أو هجوما من العدو قد تم ..فحصل هرج ومرج بالمخيم إلى إن تدخل رجال الدرك وأعادوا الهدوء والطمأنينة الى النفوس. أو عندما قام أصدقاء السي عبدالله بصنع علم وطني بواسطة علب السردين الفارغة الحمراء والخضراء ونصبوه أمام خيمتهم..أو عندما توجه سي عبدالله لمخيم إقليم آخر للبحث عن اصدقائه وبعض أفراد من عائلته..وقام باستضافتهم في خيمته..أو في المساء عندما تجتمع كل فرقة حول النار ويقومون بالعزف والغناء الى حدود ساعات متأخرة من الليل..
عرفت المسيرة التي شارك فيه 350 الف متطوع مغربي، زيادة على وفود عربية وأجنبية هي المملكة العربية السعودية، الأردن، قطر، الإمارات العربية المتحدة ،سلطنة عمان، السودان، الغابون، السنغال نجاحا باهرا ..حيث كانت سببا في استكمال المغرب لوحدته الترابية ..وتواصلت منذ ذلك الوقت مسيرة النماء والازدهار بالأقاليم الجنوبية المغربية وعاد المتطوعون الى مدنهم وقراهم، حاملين في النفس ذكريات لن يمحوها الزمن…


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 06/11/2020