يعد اضطراب طيف التوحد من المشاكل التي لها تأثير كبير على عدد من الأفراد والأسر في بلادنا، صحيا واجتماعيا واقتصاديا، لأن الأمر يتعلق بأكثر الاضطرابات التي تشغل الأطباء والباحثين، التي تؤثر على سلوكيات الأطفال وعلى قدرتهم على التواصل والتفاعل الاجتماعي.
تشير الأرقام التقريبية إلى وجود حوالي 400 ألف شخص مصاب بالتوحد في بلادنا، وإن كان هذا الرقم غير مضبوط لأنه ليست كل الحالات مصرّح بها، لكن منظمة الصحة العالمية تشير إلى أنه في كل 160 ولادة يكون هناك طفل أو طفلة يعانيان من هذا الاضطراب، الذي يتطلب كشفا مبكرا وتتبعا صحيا وتعليميا وإدماجا في المجتمع، وهو ما يحتاج إلى الكثير من الجهود التي تفوق قدرات العديد من الأسر المغربية، خاصة تلك المنتمية إلى الفئات الهشة.
في هذا الإطار، أكدت فردوس الدحمين، وهي أخصائية نفسية إكلينيكية ومعالجة في علم النفس الصدمات وباحثة في علم النفس العصبي لـ «الاتحاد الاشتراكي» أن التوحد ليس مرضا بل اضطراب نمائي يستمر مدى الحياة، يؤثر على طريقة التواصل والتفاعل الاجتماعي، مشيرة إلى أن من أبرز علاماته صعوبة التواصل اللفظي وغير اللفظي، تأخر في اللغة، سلوكيات نمطية متكررة مثل الرفرفة باليدين أو الدوران حول النفس، إضافة إلى حساسية مفرطة أو منخفضة للمثيرات الحسية مثل الضوء والأصوات واللمس.
وحول أسباب التوحد، أوضحت الأخصائية في تصريحها للجريدة بأنه لا يوجد سبب واحد واضح، بل هناك عوامل تساهم في حدوثه، منها العوامل الجينية، حيث يزيد وجود تاريخ عائلي من احتمال الإصابة، بالإضافة إلى العوامل البيئية مثل تعرض الأم لبعض المواد الكيميائية أثناء الحمل أو إصابتها بأمراض معينة، كما أن الولادة المبكرة وانخفاض وزن الرضيع قد يكونان من العوامل المؤثرة، وأشارت أنه لا يوجد أي عامل بيئي يثبت كسبب مباشر للإصابة. وأكدت فردوس أن تشخيص التوحد يتم بناءً على ملاحظة سلوكيات الطفل وفقا لمعايير محددة مثل DSM-5ويشمل ذلك الملاحظة السريرية من قبل متخصصين مثل أخصائي الطب النفسي، وأخصائي الحس الحركي، وأخصائي علم النفس، كما يتم إجراء اختبارات تشخيصية متقدمة مثل ADI-R وADOS-2، إلى جانب مقاييس تقييم للجوانب الاجتماعية والمشاكل الحسية مثل VINELAND وSENSORY PROFILE..
وحول العلاقة بين استخدام الأجهزة الإلكترونية والتوحد أكدت الأخصائية للجريدة على أنه لا يوجد دليل علمي يثبت أن استخدام الهاتف أو التلفاز يسبب التوحد، لكنه قد يؤثر على التطور اللغوي والاجتماعي عند الإفراط في الاستخدام، مما يؤدي إلى تأخير في المهارات الاجتماعية، وهو ما قد يشبه أعراض التوحد. وبخصوص أساليب العلاج، أوضحت المتحدثة بأنه لا يوجد علاج دوائي مباشر للتوحد، ولكن التدخلات تشمل العلاج السلوكي مثل ABA وDENVER MODEL وTEACH لتعزيز التواصل وتقليل السلوكيات الصعبة، إضافة إلى العلاج الوظيفي لتحسين المهارات الحركية والتنظيم الحسي، والعلاج بالنطق والتواصل لدعم اللغة والتفاعل الاجتماعي، كما يتم توفير دعم تعليمي من خلال استراتيجيات مثل التعليم البصري والتواصل البديل.
ونبهت فردوس إلى أن التوحد ليس مرضا يمكن علاجه، بل هو اضطراب يستمر مدى الحياة، ومع ذلك يمكن أن تتحسن الأعراض بشكل كبير مع التدخل المبكر والدعم المناسب، بحيث يتمكن الطفل من العيش باستقلالية أكبر، مشددة على أهمية توفير بيئة هادئة ومستقرة للتوحدي، والحد من العزلة الرقمية وتعزيز اللعب التفاعلي له، إلى جانب استخدام الجداول البصرية والروتينات الواضحة، كما يجب التعاون مع المدرسة لوضع خطة فردية لدعم الطفل أكاديميا واجتماعيا. ولتوضيح كيفية التعامل مع نوبات الغضب والسلوكيات المتكررة، شددت الأخصائية على أهمية تحديد المؤثرات التي تؤدي إلى النوبات وتجنبها أو التهيئة لها مسبقًا، واستخدام استراتيجيات التهدئة مثل الضغط العميق والأماكن الهادئة وتمارين التنفس. كما أكدت أن العقاب ليس حلا، بل يجب التعامل مع الطفل بهدوء والانتظار حتى يهدأ، مع تعزيز البدائل السلوكية المقبولة تدريجيًا.
وعلاقة بالاعتقاد السائد لدى البعض بأن جميع الأطفال المصابين بالتوحد لديهم قدرات خارقة غير صحيحة، أشارت الخبيرة إلى أن الأمر يتعلق بفكرة خاطئة، حيث أن 10% فقط من المصابين يمتلكون مهارات استثنائية مثل ذاكرة قوية أو قدرات حسابية متقدمة، بينما يتمتع البقية بقدرات ومواهب تختلف من شخص لآخر. بالمقابل أكدت على أن التحسن من اضطراب طيف التوحد ممكن مع مرور الوقت بفضل التدخل المبكر والدعم المستمر، حيث يمكن للطفل أن يطور مهارات جديدة ويحسن تواصله وسلوكه بشكل كبير، وقد يصبح بعض الأطفال مستقلين مع الوقت.أما عن إمكانية بناء الصداقات والتفاعل مع الآخرين، فقد أوضحت الباحثة بأن الأطفال المصابين بالتوحد لهم القدرة على ذلك، لكنهم قد يحتاجون إلى توجيه وتعلم مهارات اجتماعية بشكل منهجي، حيث أن بعضهم قد يواجه صعوبة في فهم القواعد الاجتماعية، إلا أن ذلك لا يعني أنهم غير قادرين على تكوين علاقات إذا حصلوا على الدعم اللازم.
وبشكل عام، نصحت الأخصائية بأنه يجب تقبل الطفل كما هو ودعمه في تطوير نقاط قوته، والتركيز على جودة الحياة بدلا من محاولة تغييره، والبحث عن الدعم النفسي للأهل أيضا لأن التعامل مع التوحد يحتاج إلى قوة و صبر، مشددة على أن التوحد يعتبر اضطرابا نمائيا معقدا يؤثر على التفاعل الاجتماعي والتواصل و السلوك لكنه لا يعني بالضرورة عجزا، بل هو اختلاف في طريقة التفكير والإحساس بالعالم.
*صحفية متدربة