في لحظة حوارية بين بيت الشعر والرابطة المغربية للصحافة الثقافية : «الحياة الأخرى للشعر» هواء جديد خارج أقفاص الورق

هل هناك حياة واحدة للشعر أم أنه يمتلك القدرة على «البعث» من داخل حيوات أخرى، تنتظر فقط من ينفخ فيها الروح؟ هل الحديث عن «الحياة الأخرى للشعر» يمر حتما عبر القطيعة مع ما أنجز، أم أنها حياة تتخلّق وتمتد من داخل القطائع غير التامة؟ أي أنه فرصة لتجربة شعرية بأفق وأشكال ولغة مغايرة، تجربة تبحث فيها القصيدة عن إمكانات وفضاءات أكثر رحابة، لتخرج من أقفاصها التقليدية: الورق والفضاءات المغلقة وتتسلل إلى الشارع، إلى اللوحة، إلى السينما، إلى الواقع الافتراضي، إلى المدرسة. إنها وضعية تسلل لكنها مشروعة وواعية بذاتها وأهدافها.
هذه الأسئلة وغيرها من الانشغالات التي تؤرق المشتغلين والمهتمين بالسؤال الشعري اليوم وانحساراته وآفاقه، شكلت محور لحظة حوارية صنعها «بيت الشعر في المغرب» و»الرابطة المغربية للصحافة الثقافية» يوم الجمعة 31 يناير بقاعة محمد الفاسي بوزارة الثقافة بالرباط، لحظة أدراها وسير فقراتها الشعراء أحمد زنيبر وعمرالعسري وسعيد منتسب، استحضر خلالها ضيفا اللقاء عن «بيت الشعر في المغرب» الشاعران مراد القادري ونبيل منصر، ومحمد جليد رئيس الرابطة المغربية للصحافة الثقافية، أسئلة الراهن الشعري باحثين عن ممكنات وبدائل جمالية لترسيخ هذا الشكل التعبيري أكثر وسط المتلقين.

 
لامست أسئلة المحاورين الثلاثة أفق الشعر اليوم، والى أي يمكن “للمؤسسة” أن تعمل على تحجيم انتشاره بدل إشعاعه ومنحه حياة أخرى ورئة ثالثة يتنفس منها هواء آخر قادرا على تجديد دمائه.

مراد القادري: لا حياة جديدة للشعر
في غياب تشبيكه مع فنون أخرى

وفي هذا الإطار، اعتبر مراد القادري رئيس بيت الشعر في المغرب، أن الشعر لا يمكن أن يخلق له حياة جديدة في غياب تشبيكه مع فنون أخرى، وفي غياب الانفتاح على جميع الأصوات الجيلية والحساسيات الشعرية ولغات الكتابة، وكل الفروع التي تلتقي معه وتدعمه كالترجمة والدراسات النقدية، الأنطولوجيات، ولغات الكتابة بما فيها الزجل والفصيح والامازيغية، مقرا في نفس الوقت أن الفصيح يحتل النصيب الأوفر من منشورات البيت.
وأضاف القادري أن موضوع اللقاء “الحياة الأخرى للشعر” هاجس يشتغل عليه البيت منذ تأسيسه قبل 25 سنة، خصوصا البحث عن ممكنات أخرى لشعرنا المغربي، مقرا بأن الشعراء وحدهم داخل هذه المؤسسة لا يمكنهم أن يضمنوا استدامتها ، ولهذا تم الحرص منذ البداية داخل بيت الشعر على استقطاب نقاد وتشكيليين وموسيقيين ومسرحيين ومترجمين.
يرى القادري أن تجربة النشر داخل البيت تسعى اليوم لأن أفق نشر مغاير يجعل الشعر حاضرا بأسئلته الجمالية والفكرية بشكل مستمر، وهو أفق يشتغل عليه الأعضاء داخل بيت الشعر بدءا بمرحلة تلقي المسودات والمخطوطات وانتقاء الأعمال بعناية، لأن البيت له علامة شعرية وثقافية تحرص على أن تتصدر وتعتلي العناوين فقط التي لها الكثير من الجدارة الفنية والأناقة الشعرية، وأن تكون الاعمال المنشورة تتماشى وتتماهى مع أفقه الفكري والثقافي، وأولها تحديث المشهد الشعري والانتصار لكل ما يعمق ثقافة الحداثة في المجتمع المغربي.
لا ينفي رئيس بيت الشعر أن كل المعطيات اليوم تؤكد أن الشعر يحتاج الى حياة أخرى تضمن له الامتداد عبر مختلف الوسائط، والتي قد تجد ترجمتها مثلا في تعبيرات جمالية أخرى كالشعر الغنائي الذي قرب الشعر الى الجمهور في مراحل الثمانينات من خلال تعاون شعراء متميزين مع ملحنين كما حدث في تجربة الشاعر عبد الرفيع الجواهري مع أغاني “القمر الأحمر” و”راحلة”، وتجارب الزجل مع أحمد الطيب لعلج وحسن المفتي، أو من خلال التشكيل حيث اشتغل البيت في بداياته مع التشكيليين شفيق الزكاري ونور الدين فاتحي أو مجال الفوتوغرافيا مع الفوتوغرافية سعاد كنون عبر إنجاز كتالوغ عن صورة الشاعر المغربي، هذا الشاعرالمطلوب إعادة الاعتبار إليه.
وخلص القادري إلى أنه لا يمكن تصور حياة أخرى للشعر اليوم بدون حضور للشعر داخل المدرسة وداخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمنظومة التربوية، بغاية فك الحصار عن الشعر الذي لا يلقى رواجا لاعتبارات هيكيلية وبنيوية موجودة في المجتمع والأسرة وحتى في الإعلام الذي لا يساهم في إشاعة ثقافة الشعر لأنه محكوم بهواجس الماركوتينغ والإشهار.
نبيل منصر: القصيدة العمودية اليوم تستعاد بقوة السلطة والمال

بدوره، أكد الشاعر وعضو المكتب التنفيذي لبيت الشعر نبيل منصر أن تجربة النشر ببيت الشعر لم تنطلق من هاجس التشكي من كون الشعر هو المجال الهش ضمن مجالات الإبداع الأخرى، بل بغاية إعادة تنظيم الخطابات والتوازنات بينه وبين هذه المجالات التي لم يحدث الانفصال بينه وبينها إلا في العصر الحديث ، فالشعر دائما كان يحاور الرواية والمسرح والموسيقى ويتفاعل معها، بل كان هناك نوع من التضايف العميق بين هذه الخطابات والعبور السلس بينها.. تضايف كان مخصبا للكتابة الشعرية، مؤكدا على أن بيت الشعر عند اشتغاله على تجربة النشر، فهو ينطلق من رؤية حداثية تميز بين الشعر التقليدي الذي يخدم توجهات معينة، وبين شعر ينتمي للأفق الحداثي المشدود إلى ما يأتي والى التفاعل مع المجهول في هذه الحياة.
وبخصوص عودة القصيدة الغنائية والعمودية الى المشهد الشعري، اعتبر منصر أن الشكل لا ينفصل عن ظروف الحياة وعن اللغة بوصفها بيتا للكائن، مشددا على أن الشكل لايورث، بل يبنى انطلاقا من صراع مع العالم ومع اللغة ومع الخطابات لكنه صراع ليس بعيدا عن الحوار والتجاور.
وكان منصر واضحا وهو يؤكد، بدون مواربة، أن القصيدة العمودية اليوم تستعاد بقوة السلطة والمال، خصوصا مع ظهور العديد من الجوائز التي أصبحت تخصص لهذا الشكل الشعري، معتبرا أن هذا الشكل منذ بداية ظهوره مع الشعراء الرموز، تم توظيفه للتقرب من أعتاب السلطة لتبرير خطابها، وقد تم استهلاكه لفترة طويلة استنفد فيها ذاته، وفي المقابل اعتبر أن الشعر الغنائي باشتغاله على الذات كانفعال وليس كذات تشتغل بتأمل واع في الأسئلة الوجودية والمعرفية ، يقف اليوم بعيدا عن أن يهب حياة جديدة للشعرية العربية وأن يجترح لها آفاقا أخرى.
منصر وقف عند دوافع ولوج “بيت الشعر” الى تجربة النشر، موضحا أنه اختيار تم بدافع تحصين الكتابة الشعرية والشعر ممن لا يمتلكون رؤيته وأدواته، والتي تقتضي الإخلاص لهذا النوع من الكتابة في نقائه ونبله وسموه، وما يتطلبه من الشاعر الذي لا ينبغي أن يكون متاحا في كل وقت، بل مقيما في التأمل والمعرفة التي تتـأسس عل القراءة، وتنضج في العزلة، معتبرا أن هذه مسؤولية بيت الشعر لصيانة الخطاب الشعري ولمصلحة الشعر نفسه مما يمكن أن يلحقه من شوائب وعوالق تُحسَب على الشعر وما هي بشعر.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 05/02/2020