في لقاء احتفائي بكتاب «الحسن مختبر: سيرة رجل سلطة»

 

نظم الاتحاد المغربي للثقافات المحلية، يوم السبت 26 فبراير 2022 بأحد فنادق مدينة المحمدية، لقاء لتقديم وتوقيع كتاب « الحسن مختبر ..سيرة رجل سلطة ( من لاعب كرة قدم إلى تنظيم سري مسلح ) للزميل المصطفى الإدريسي،بحضور الأستاذ الحسن مختبر والفنان التشكيلي عبد الله بلعباس الذين ألقوا كلمة وسط حضور نوعي.
هذا اللقاء الثقافي شارك فيه كل من الأساتذة: محمد خفيفي – عبد الإله الرابحي – عبد العزيز كوكاس – حميد مصباحي، وقام بتنسيقه وتسييره الفنان التشكيلي شفيق الزكاري ، كما ألقى خلاله المناضل محمد صابري شهادة أمام الحاضرين عن تجربته، فيما قرأ الزجال عبد الرحيم لقلع قصيدة « الشهيد « .

«سيرة رجل سلطة»… سيرة الصفح الجميل

 

محمد خفيفي

كان بول ريكور صادقا حين ربط بين السرد والحياة، وجمالية السرد وغوايته في هذا الذي نحن فيه، ونقصد به عمل الصحفي والمبدع المصطفى الإدريسي عن» الحسن مختبر رجل سلطة من لاعب كرة قدم إلى تنظيم سري مسلح»، أن يكون حوارا متسلسلا يهم مسار حياة غير عادية لرجل عاش الحياة وعاش التحول والامتداد، الحوار مولّد للسرد بتقنية تحفيزه للذاكرة لتغوص في ماضيها وتنساب في حكي سلس منساب تعيد فيه ترتيب الأحداث والوقائع، وتستحضر الأسماء والوجوه والفضاءات المنفتحة والمظلمة.
إذا كان بعض كتاب السيرة الذاتية ورواتها يمتثلون لأسطورة نرجس بهدف الدفاع عن النفس أو الاعتداد بها ولعب دور الضحية أو لتصفية حسابات مع الغير أحيانا ، فإن مسرود الحسين مختبر ينأى عن ذلك، إننا أمام سيرة استثنائية وبطلها رجل استثنائي جمع هذا الزخم النضالي المكثف برصيد ممتد في زمن المغرب المعاصر.
وبدون أقنعة وبلغة المكاشفة تبحر هذه السيرة في الزمن المغربي المُلتهب، تُحقّب فيه الذي كان، بدءا بمحكي الطفولة الذي لم يكن إلا جسرا ومعبرا نحو تبئير النضال السياسي، حيث صوت الطفل هنا يتذكر مولده بدرب الكبير وأصول والديه ودخوله المسيد والتحاقه بالمدرسة، وما حاط ذلك من صراع بين الحركة الوطنية وقوى الاستعمار وانتفاضات شعبية اهمها انتفاضة 1952 بعد مقتل الزعيم التونسي فرحات حشاد، وكذا انخراطه المبكر في لعب كرة القدم بجانب لاعبين كبار كان لهم صيتهم داخل فريق الرجاء والراسينغ البيضاوي، وتتويجه كأحسن لاعب في فئة الشباب وتهنئته من طرف الملك الحسن الثاني عقب نهاية كأس العرش التي جمعت بين المولودية والكوكب المراكشي…
وإذا كان فيليب لوجون، وهو من أكبر منظري السيرة، لا يقبل ذكريات الطفولة على عواهنها وعلاتها، وإنما يسائلها بحثا عن أجوبة مناسبة تسعف على تصحيح ما اعتراها من اختلالات وأعطاب، والتأكد من صدقية محتواها من عدم صدقيته، فإن محكي الطفولة في سيرة «رجل السلطة» انفتح على المحيط السياسي والتربوي لدرب الكبير ومنه استمد دعائم التوثيق، والاقتراب من الحقيقة التاريخية وأنعش الذاكرة كالحديث عن مدارس الحركة الوطنية، مدير المدرسة، المعلم بوخريص، المقاومان ابا العبدي وقاسم بولال، المسيرة العمالية التضامنية في 1952 ،اللاعبين بهيج عبد القادر صامبا الروبيو….
صوت الطفولة، هنا، مرهون لمغرب لم نعشه نحن بعنفوانه وعمق مخاضاته وانجذاباته نحو استقلال ظلت معالمه تشوبها غيوم تشوّش الرؤية وتزعج الفكر، لذلك فإن ما سيأتي بعد يُعيد فتح جسور الامتداد في تاريخنا الوطني الذي انكتب بمداد الشهادة والاستشهاد، تاريخ الصراع الدموي بين قوى التغيير وقوى المحافظة، ومعنى ذلك أن سيرة الحسن مختبر تسير في اتجاه أن تتحول إلى وثيقة «غنية بيد المؤرخ وعالم الاجتماع والمحلل السياسي لما تحمله الوثيقة من وقائع ومواقف يمتزج فيها السياسي بالإنساني وبالوفاء للمبادئ والقيم النبيلة، وليتعلم منه الجيل الحاضر والأجيال القادمة في زمن طغى فيه العبث والمسخ والجحود» كما سطر ذلك الأستاذ محمد كرم في تقديمة لهذه السيرة.
في كل سيرة نقطة مشعة، ينبعث منها ضوء التاريخ ونفحاته، وضوء هذه السيرة موزع بين دعامتين سرديتين تشكلان أهم مقاطع هذه السيرة:
قدرة المعارضة على اختراق حصن السلطة المنيع بتواجد رجل سلطة يعمل قائدا في واد لاو داخلها، منخرط نشيط ضمن التنظيم السري الذي كان يؤمن بالكفاح المسلح ويهيء لمغرب آخر ضمن استراتيجية يتفاعل فيها مناضلو الداخل مع المنفيين بالخارج، وتتآزر فيها إرادة الفاعلين داخل التنظيم: الفقيه محمد البصري عمر دهكون، الحسين كوار، محمد بنونة الناصري الفاضل وغيرهم، وكيف استطاع «السيد القائد» أن يؤخر اعتقاله بعد تحركات ولقاءات واتصالات ومتابعة لمجريات التداريب التي كانت تجري في سوريا .
وبموازاة مع هذه الدعامة، تقدم السيرة سيرورة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سنوات الشد والجذب من موقع قريب لصناع القرار بقادته ورموزه عمر بن جلون محمد اليازغي عبد الرحيم بوعبيد مصطفى القرشاوي….تقول السيرة «عرف حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قرارات 30 يوليوز 1972.وكانت تلك القرارات بداية القطيعة مع ازدواجية الوسيلة، القطيعة التي تم تأجيلها حتى المؤتمر الاستثنائي سنة 1975، نظرا للانقلابين العسكريين وأحداث مولاي بوعزة 1973 .»وهي بذلك تقدم شهادة إضافية على تفاعلات العمل الحزبي في هذه الفترة.

الاعتقال السياسي

اعتقال الحسن مختبر شكل أرضية لتلخيص ما جرى في المعتقلات من تجاوزات تؤرخ للحظة عنف الدولة المسلط على المعارضين، ورغم الاقتصاد اللغوي الذي تبناه صاحب السيرة في فضح ما رافق هذا الاعتقال بدرب مولاي الشريف من تجاوزات وتعذيب لمعرفة أماكن تواجد الأسلحة، وعلاقته بعمر دهكون ويونس الفيكيكي، فإنه يلتقي مع رفاقه ممن دونوا لتجربة الاعتقال السياسي في مشترك جعل عددا من تيمات تتكرر بين النصوص بتفاوت تتحكم فيه تقنيات الكتابة «كشراسة التعذيب وعنفه، الاختطاف، الاستنطاق، طول المحاكمات وعدم حياد القضاة، القهر النفسي والجسدي، الأمراض الجسدية، سادية الجلادين» وهي قضايا فصلناها في كتابنا الحكي الجريح قراءات في أدب الاعتقال السياسي بالمغرب.
هذه السيرة كتابة تؤجل الموت، موت المناضل الشاهد، وموت تاريخ مستهدف، كتابة تمانع المحو، خصوصا في موضوع أدبيات الاعتقال السياسي بالمغرب وندوبه وجراحاته. لقد عمدت السلطات المغربية إلى هدم سجن تازمامارت عام 2011، ولكنها لم تفلح في محو ما كتبه المعتقلون السياسيون الذين خرجوا من جحيمه، فقد أسهمت كتاباتهم وبوحهم في التشهير بعذاباته وسادية حجاجه، وأعادت بناء واقعيته ببشاعاتها وفظاعاتها.
مصطفى الإدريسي انحاز لكتابة الوفاء بمداد الحوار الذكي الذي يفقه أين تكمن التفاصيل، فكانت هذه السيرة عن زمن ما سمه الحسين مختبر بزمن «القرطاس» الزمن الرمادي الذي احتضنته ريشة الفنان عبد الله بلعباس على ظهر الغلاف وأبدعت فيه لوحة دالة، عميقة، وصممته ورتبته أنامل السي محمد لوزيني.
فعلا إنها سيرة تستحضر ما قاله الروائي أرنست هيمنغواي «من الممكن تحطيم الإنسان، ولكن هزيمته غير ممكنة».

 

*****************

من فن السؤال إلى حرقة الجواب

 


عبد الإله رابحي

الكتاب الذي نحن بصدده « سيرة رجل سلطة: من لاعب كرة قدم إلى تنظيم سري مسلّح «هو مؤلّف ينهض على الحوار بما هو حصيلة تداول الكلام بين مستجوِب٬ حتى لا نقول « مستنطِق «٬ لما للاسم من شحنة الألم والمعاناة في سيرة «الحسن المختبر»٬ ومستجوَب خبَر منطق الدهاليز المظلمة٬ تأسيسا لثقافة الحوار والتحاور التي انعدمت أو تكاد في ثقافتنا العربية٬ والتي لم يكن من نتائجها التاريخية الا إنتاج العنف والعنف المضاد …
الكتاب هو حصيلة مثير واستجابة٬ سؤال وجواب. ولم يكن الجواب شافيا وتطهيريا إلا لأن السؤال كان محبوكا يدرك أن أصل الأشياء منبعه السؤال ٬ السؤال الذكي الذي يعي أن الكائن خليط وقائع ومشاعر٬ وأن هذا الجزء المهم من فن التواصل كفيل باستثارة ما ترسّب في الذاكرة من أوشام وندوب.
لذا كان السؤال في الكتاب متأرجحا بين الذاتي والموضوعي٬ بين مكامن الألم المبكي٬ والضحك الساخر٬ بين سؤال المكاشفة من قبيل «هل تشعر…؟» الى السؤال المحمّل من قبيل «ألا ترى…؟»٬ بين السؤال المغلق المستدعي للجواب المحدد٬ والسؤال المفتوح المستدعي الإحاطة بما جرى بين ثنايا الأحداث٬ وتفاصيل الوقائع حتى يتيح للكاظم غيظه فرصة البوح التنفيسي. فما بين سؤال الربط٬ ما دمنا أمام سرد تاريخي يقيم الوصل بين الأسباب والنتائج ٬ والسؤال التوضيحي والتوسّعي ما دمنا نطلب الكشف عما جرى مما لم يذكره التاريخ الرسمي٬ كانت أسئلة الإعلامي مصطفى الادريسي٬ وتوالي علامات استفهامه أسلوب تحليل وصيغة من صيغ التفكير النقدي الذي يهدف قراءة الصفحة بتمعّن قبل طيّها.
وبذا أيضا كانت أجوبة الحسن مختبر٬ ذاك الذي كان يسير حافيا على الصفيح المشتعل٬ أجوبة حارقة٬ وهو يمنحنا٬ بتقطير سخي٬ وقائع أمس دام. فمن النشأة الأولى في أجواء « القرطاس «٬ وأشكال من المقاومة البطولية لعنف المستعمر إلى تأسيس» نادي الوعي» واللقاء بالرجال التاريخيين، من الانخراط في» الاتحاد الوطني لطلبة المغرب» إلى التكوين العسكري بمدرسة رجال السلطة بالقنيطرة، ومن الانخراط في «الاتحاد المغربي للشغل» وإشكالية النقابة الخبزية إلى دخول جحيم المعتقل السري وأجواء المحاكمة٬ إلى صمت الزنزانة وقسوة» الحاج «٬ وما بين علامات التشوير هاته مما عاشه الرجل وعايشه من أشكال الحرقة وألوان الحريق …كانت أجوبة الحسن مختبر جامعة بين التاريخ السرّي وسيرة المغضوب عليهم .
ومن عائلة «السوسي» بالدرب الكبير٬ إلى المعلّم بوخريص٬ إلى « أكلة الباخرة السرّية» المحمّلة بالعتاد٬ إلى معطف الدان والسروال العصري٬ إلى جمعية الخضر وأحسن فاصولياء في المغرب٬ الى أغنية « الجندول»٬ الى الاستقبال ب» الطبّالة والغيّاطة « …كانت أجوبة الحسن مختبر تحكي قصّة الأم التي تنتظر فلذة الكبد الذي يأتي ولا يأتي مصداقا لقول عبد الله ودّان: « معلوم ظلّي عسّاسة | فالشرجم تسنّاي خيالو «.
من كل هذه الأحداث الصغرى والكبرى تشكّلت هذه الوثيقة التاريخية التي كان لابد منها جوابا عميقا لسؤال أعمق ستظل الأجيال اللاحقة تتداوله لأن الذي لا يعرف ماضيه لن يعرف مستقبله. ألم يقل المرحوم محمد العربي المساري ٬ ذات « حرقة أسئلة «:» إن مناقشة هذه الأمور تكمن أهميتها في أن المغرب لا يخشى من أن يواجه عيوبه٬ ومن العيوب أن شبّانا في زهرة العمر واجهوا مآسي قاسية لمجرّد أنهم اعتنقوا أفكارا يسارية.»

 

*****************

حوار بين السيرة والتاريخ

 

حميد المصباحي

كتاب من لاعب كرب إلى تنظيم سري مختبر، تجربة سياسية، بمثابة سيرة اتخذت شكل حوار مع الصحفي مصطفى الإدريسي.

الحوار كسيرة:

الصحفي في حواره يخلق فضاء آخر، بحيث يترك للضيف حق الحديث عن تجاربه، وهو ما دأب عليه الإدريسي في كتاباته، فهو يترك للضيف تعريف القراء به، قد يحين الحدث الذي يبحث عنه أو يشدك إليه بلباقته المعروفة، فتجد نفسك تتحدث حديثا مسالما خاليا من أية انفعالية أو ردود غير متأملة، وهو ما يدفع لتلقي السؤال برحابة صدر، عكس هؤلاء الذين يثيرون الزوابع بأسئلتهم فيشعرونك وكأنك أمام لغز أو سؤال مورط في قضية يهاب الناس الاقتراب منها، فسهل السيرة وجعلها تلقائية وصريحة، لا تتهرب من أجوبتها ولا تخاتل وهي تستحضر أجوبة طالما تهرب منها الكثير من الساسة أو تجاهلوها تحفظا.

السياسة كتاريخ:

بهذا الحوار بدا سي مختبر أمام الصحفي الإدريسي، كمناضل متصالح مع تاريخ، ويقدم نموذجا لكيفيات استحضار الجروح وقد اندملت وطابت، باعتبارها تجربة بشرية، خاصة جدا. إنها تجارب ملحمية للاشتراكيين وهم يحبون وطنهم وحريتهم ويضحون من أجلها، فاستحقوا ما قاله محمود درويش في مديح الظل العالي ( نحن أول القتلى وآخر من يموت) إنها ملحمة الاشتراكيين في كل العالم، لا نضال إلا نضالهم ولا حب إلا حبهم ولا تاريخ إلا تاريخهم، بل إن الباحث عن التاريخ من خارجهم، لن يجده إلا وهو يرفضهم أو يصارعهم، فهم حضور دائم بصمودهم، وهم من هم فيه، يعلمون ولا يورثون، يقنعون ولا يفرضون، بل حتى ضعف المعتقل وهو يستسلم معترفا لا لوم فيه، ولا عتاب، فالبشر طاقة وقدرات وكل واحد له من الصمود ما يقدر عليه. لقد كانت السيرة، حقيقة ملحمة إنسانية وتعليمية في زمن غابت فيه نضاليات الفعل، أو ضاقت في حدود الممكن بفعل تحولات عرفها العالم، وتفاعل معها في حدود قدرات وطاقات الناس فيه.

الحوار والصور:

الذين خبروا العمل السياسي أيام المواجهات، كانوا يدركون خطورة الصور ورفضها، بل حتى الأسماء الحقيقية لم تكن تذكر في الاجتماعات، مما دفع لخلق تاريخ غابت عنه الكثير من الوثائق المكتوبة التي مزقت فما بالك بالصور، لكن الإدريسي استحضر الصور كصحفي ومؤرخ في الوقت ذاته، وهي صور مقسمة لقسمين: عائلية تخص الأسرة ونضالية تخص المناضلين وقد حفظها الأستاذ مختبر بطريقته لتشكل كنزا يستحق التحية عليه، وهو ما يشبه الشهادات النادرة والتي كانت أيام زمن مكلفة مما دفع للتخلص منها، فقد كانت وحدها تشكل دليل إدانة كالكتب وحضور التجمعات، وفي الأخير لا يسعني إلا تحية الصحفي مصطفى الإدريسي على مجهوده والأخ المناضل مختبر الذي عبر بصدق عن الكثير من القضايا التي تستحق وحدها جلسة سياسية خاصة لاستحضار التاريخ فيها والتاريخ المختلف حوله بعدما أحدث التباعد الزمني عن حرقة الأحداث وشدة حضورها لتتمكن الأنفس الفاعلة فيها أو التي تفاعلت معها من فهمها والتوقف عندها لفهم دروسها وأبعادها وحتى جراحها.

*****************

ذاكرة رجل مختبِر، وسيرة أمة في دائرة المختبَر

 

عبد العزيز كوكاس

«في دفتر مذكراتك، تجد تلك المواقف التي مررت بها وتعتقد اليوم أنك قد لا تنجو منها لو حدثت، لكنك فعلت! بل وكتبتَ عنها.. إننا نزداد حكمة بتذكر أنفسنا في الماضي، وتذكر كل ما مررنا به وواجهناه بكل شجاعة» (فرانز كافكا).

أول ما واجهني خلال قراءتي لكتاب/ حوار السيرة الذاتية /النضالية الذي أنجزه الزميل مصطفى الإدريسي مع الحسن المختبر، المختصر في الحيز وعدد الصفحات الطويل في سيرة الوجع والمعاناة والأمل وروح التسامح والنبل الذي يطبعه، هو أنني وجدت نفسي أمام رجل يجمع بين ما لا يُجمع، أو ما يصعب تصور الجمع بينه: رجل سلطة، لاعب كرة قدم، وقائد في تنظيم سري في مرحلة سياسية صعبة من مخاض بناء الدولة المغربية الحديثة لما بعد الاستقلال، وما عرفته من صراع حاد حول السلطة بين النظام والحركة الوطنية والديمقراطية، والتي خلفت من مآس موجعة أضاعت الكثير على البلاد، سيرة الحسن المختبر تحكي بلغة بسيطة جراحا عميقة نجح الزميل مصطفى الإدريسي أن يستلها من رجل عرف بصمته وقلة كلامه بين أصدقائه المقربين منه، ومن بين أهم ما استوقفني فيها، هو:
1 ـ البوح والحكي كفضيلة، كيف نتخلص من هشاشاتنا الصغرى ومن الوجع المصاحب لانهياراتنا حين نقول آلامنا؟ كيف يغدو الحكي حول الجراح والعذاب بابا للتطهير (بالمفهوم الذي قدم به أرسطو وظيفة المسرح والتراجيديا خاصة catharsis)، من غريزة الانتقام من جلادينا، كيف يغدو الحسن المختبر المحكوم بالمؤبد، المسجون في زنزانة ضيقة، مساحة تكفي للاستمرار في الحياة فقط، الخارج من محنة التعذيب القاسية، ليملك قلبا منفتحا، يتجاوز حدود الزنزانة التي كان محتجزا فيها.. كيف يصبح متسامحا لا يحمل ذرة حقد أو انتقام تجاه جلاديه؟
إنه الحكي، إنها فضيلة البوح التي تمارس –على المرسل والمتلقي معا- نوعا من التطهير الجماعي والفردي/ النفسي، فالسرد ليس فقط وصل للمتعة أو مادة للسمر وبعث الفرح وقتل الصمت، إنه باب للمكاشفة، ولمشاركة آلامنا وآمالنا مع الآخرين، ومجال للشفاء مثل دموع الحرب التي يعقبها تخفيف كدر النفس.. أتذكر واقعة حكاها لي المبدع الماحي بنبين، حين غادر أخوه أحمد بنبين معتقل تازمامارت، اتصل به وقال له أريد أن أرى أبي، مبسط أو «مجنون الملك»، كما هو عنوان أحد كتب الروائي والتشكيلي الماحي بنبين، فغضب الماحي وقال له: «اخطيك، هل تريد أن ترى الرجل الذي تنكر لك؟ هذا ليس والدك لأنه بلا قلب حين احتجت إليه تخلى عنك؟» فأجابه أخوه الخارج للتو من أكبر معتقل سري للموت والبشاعة والقهر الجسدي والنفسي: «هل تعرف لماذا نجوت من أصل 58 معتقلا في تازمامارت ولم يتبق منا سوى 26 حيا؟ لأنني كنت أحكي وأصبحت أملك قلبا متسامحا، ولو لم أكن أبوح وأحكي لكنت حاقدا وراغبا في الانتقام ولكنت ميتا؟»..
أستحضر هنا ما قاله موريس بلانشو «أكتب كي لا أموت»، وما قاله الفيلسوف المبدع هزينغا: «أكتب كي لا أجن»، بتحوير الأمر قليلا لما تحدث عنه بلانشو وهزينغا، يمكن أن نقول إن السيرة الحوارية للحسن المختبر التي استهلها منه بالكثير من الترويض والحب مصطفى الإدريسي هي حكي وكتابة للفاجعة من أجل درء الجنون والموت.. هي إذن فضيلة البوح/ فضيلة السرد، الحسن مختبر يقدم حكاية لجراحه ومن خلاله ذاكرة سوداء لأمة تريد أن تتخلص من جراحها وأعطاب ذاكرتها.. بالحكي أيضا نتطهّر من آثامنا، ومن جراحنا ونشفى أيضا من العذابات المصاحبة..
2- السرد والحكي كصيانة للذاكرة الجماعية: يقدم الحسن مختبر سيرته الذاتية الخاصة، كيف ولد بدرب الكبير بالدار البيضاء في 1944، من أصول سوسية/ سطاتية، الوالد من إغرم نواحي تارودانت والأم من المذاكرة، كيف عبر المسيد وعمره 5 سنوات، والتحق بإحدى مدارس الحركة الوطنية حتى تخرج من المدرسة الإدارية كقائد عُيّن بواد لاو بتطوان حتى اعتقاله، مرورا من مرحلة انخراطه في لعبة كرة القدم التي برع فيها، وحاكاياته حول العائلة وأصدقاء الدرب والدراسة وانخراطه في الحركة الاتحادية، في جناحها الثوري.. لكن سيرته كما يستخلصها منه ببراعة الصحافي مصطفى الإدريسي تُحولها إلى ذاكرة جماعية، إن سيرة الحسن مختبر هي سيرة ذاكرة أمة في مرحلة اختلاف الفاعلين السياسيين الكبار حول الوجه الذي يجب أن يكون عليه المغرب ومن يمتلك شرعية أن يحكم، أنتجت ما سيُسمى سنوات الرصاص..
وقد شدّتني حد الانبهار تلك الروح التي تحدّث بها موضوع الحوار/السيرة الحسن مختبر، بلغة فيها الكثير من التسامح والعفو والغفران، وهو مقام سامي يُتيحه السرد/ الحكي في سياق أمة عاشت مسارا تراجيديا في سنوات الرصاص، حصد الكثير من الضحايا ولا تزال تحاول التكيف مع محاولة نسيانه والشفاء من جراحه من خلال فهم ما حدث كي لا يتكرر.. لقد قُدّر لي في مرحلة مُهمة من تاريخ المغرب بداية الألفية الثالثة أن أكون قريبا من الفرن الذي كانت تنصهر فيه المواد الأولية لصناعة القرار، وحضرت أول لقاء بين رجالات العهد الجديد وإدريس بنزكري، وعشت جزءا من القلق الشخصي الحاد للمناضل الراحل الذي لم يسعفه جسده حتى آخر لحظات لاستكمال بناء ما بدأه، والذي يشكل ملحمة وطنية متفردة في سياق العدالة الانتقالية لطي صفحة الماضي المؤلم وإنصاف ضحاياه، حتى تقديم تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة.. وذكرني بوح الحسن مختبر في تلك الفرحة الكبرى التي انتابت إدريس بنزكري لحظة موافقة الدولة على إجراء جلسات الاستماع للضحايا بشكل علني وإذاعتها على المغاربة في وسائل الإعلام الرسمية، كيف حوّل هذا الخبر التاريخي لجلسات الاستماع العلني إلى طفل يوزع ابتساماته بمرح علينا نحن الذين لم نكن نعي الأبعاد الكبرى لحدث بوح الضحايا بما تعرضوا له من تعذيب قاسي ووحشي، ليطهروا أمة من آلامها، وليمسحوا الوسخ من الجلباب الأبيض لثوب الدولة التي قست على أبنائها بلا قلب ولا شفقة ولا رحمة، بشكل يعجز عن تصويره أي خيال تراجيدي، أتذكر عبارة الحسن الثاني حين عين إدريس الضحاك رئيسا للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، حيث قال له وهو يشير إلى جلابته البيضاء: «السي الضحاك، أنا ثوبي أبيض ونقي، ولكن علقت به بعض الأوساخ، أتمنى أن تزيلها بحكمة».
3- التسامح النبيل لمحكوم بالمؤبد: في نهاية السيرة /الحوار الذي أجراه المصطفى الإدريسي مع الحسن مختبر نعثر على ذلك التسامح الباذخ، والروح النبيلة التي عبّر عنها الحسن المحكوم عليه بالسجن المؤبد والخارج من تجربة مريرة من الاعتقال، كيف أنه غادر السجن ولم ينم عند «ماما فاطمة»، وقصد منزلهم بالبيضاء وكيف احتفلت به العائلة والجيران وحولوا معانقته الحرية إلى عرس باذخ، وكيف نسي الجراح والعذاب والألم، وأخذ يتكلم بلسان من أدى واجبا طبيعيا في سبيل الوطن ولا ينتظر لا «كريمة» ولا وساما، يكفيه حُب البسطاء الذين دافع عنهم ونطق باسمهم وحلم من أجل مُستقبل أفضل لهم بعد أن عانق الحرية، يقول في ص 70: «مساري بعد خروجي من السجن المركزي في إطار العفو الملكي لسنة 1980 كان عاديا بدون أي تشنج أو صراع، لم يكن لدي أي طموح أو رغبة من أجل الوصول إلى قيادة التنظيم الحزبي»، ثم تنثال الكلمات والجمل المرحة في سياق الاعترافات/ الحوار: «أشكر إخواني.. وهذا اعتراف ترك لي شعورا بالفخر خاصا.. واعتراف لي ولأسرتي الصغيرة».. وفي صفحة أخرى نقرأ: «كانت رحلة ممتعة حفزّ في الإخوة ذكريات التاريخ والمعارك النضالية.. واكتشفت خلال الطريق لطفهم وطيبوبتهم وحسهم الوطني».
كتاب الحسن مختبر هو سيرة ذاتية فردية، لكنه أيضا سيرة ذاكرة أمة، من خلال مكونات عنوان الكتاب ذاته، (رجل سلطة: إذ لا معنى لسلطة خارج المؤسسة، لاعب كرة القدم التي هي لعبة جماعية لا فردية، وتنظيم سري مسلح أي التقاء أفراد على هدف مُعين، تجمع بينهم إيديولوجيا، طموح، هدف وحلم، ثمة مكر ما في اسم صاحبه الحسن مُختبر، الذي سواء كان اسم فاعل أو اسم مفعول بفتح أو كسر الراء، تجعله ذا تجربة عميقة في الوجع وما يحكيه ويسرده يتحدث عن المغرب المختبَر، مغرب تتصارع فيه بنيات وأفكار ومواقف، من أجل ألا يتكرر ما وقع في الماضي.

 


بتاريخ : 07/03/2022