هناك مفارقة بين الوضع السيادي المتقدم وأزمة السياسي الأقل تأهيلا
المغرب اليوم انتقل من دبلوماسية التفويض إلى دبلوماسية خلق الحدث، وهو ما تظهر ملامحه الدالة بخصوص تدبير ملف قضية الوحدة الترابية، التي عرفت تطورا إيجابيا كبيرا، حيث أن لا أحد اليوم يفكر في حل للنزاع المفتعل في الصحراء المغربية خارج مقترح الحكم الذاتي
لا أحد كان متحمسا للإصلاحات الدستورية قبل 2011، باستثناء الأحزاب المنتمية للأسرة اليسارية، إذ كان هناك من كان هاجسه هو تحسين علاقته بالدولة
تحرك الشارع المغربي يثبت أن هناك أزمة اجتماعية لا يمكن أن يستشعرها إلا من كانت الدولة الاجتماعية تشكل هويته، وهناك أحزاب كانت تراهن على إضعاف دور الدولة
قال عبد الحميد اجماهري، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إن المغرب يعرف مفارقة كبيرة بين الوضع السيادي المتقدم، والذي يوجد على درجة عالية من التأهيل، والوضع السياسي المرتبط بالتعبير الاجتماعي الذي يعرف تأهيلا أقل.
وأضاف في اللقاء المفتوح الذي نظمه فرع بن جرير لحزب القوات الشعبية، يوم الأحد 07 يناير الجاري، تخليدا لذكرى رحيل الزعيم عبد الرحيم بوعبيد، وسيّره كاتب الفرع محمد الخليفة، أن من تجليات هذا الوضع السيادي الأداء الدبلوماسي المتقدم، حيث أن المغرب اليوم انتقل من دبلوماسية التفويض إلى دبلوماسية خلق الحدث، وهو ما تظهر ملامحه الدالة بخصوص تدبير ملف قضية الوحدة الترابية، التي عرفت تطورا إيجابيا كبيرا، حيث أن لا أحد اليوم يفكر في حل للنزاع المفتعل في الصحراء المغربية خارج مقترح الحكم الذاتي الذي صارت تؤيده القوى الفاعلة دوليا ومن بينها إسبانيا، وأشار في هذا السياق إلى أن القضية الوطنية تمنح مساحات كبيرة للدبلوماسية المغربية. مؤكدا أن هناك شعورا عاما بأن هذه القضية قد حسمت.
كما عرج في تحليله على الاستثمار في العمق الإفريقي باعتباره أحد تجليات الوضع السيادي المؤهل، حيث اكتسب المغرب موقعا قويا، وأصبح قلب الأحداث المؤثرة في المنطقة، مشيرا إلى دوره الرائد كقاطرة في ولوج عدد من البلدان الإفريقية إلى الأطلسي، واقتناع الطرف الأوروبي بأنه الشريك الأساسي في القارة.
واستحضر عبد الحميد اجماهري، في عرضه، القوة الروحية للمغرب ونموذجه الديني من خلال إمارة المؤمنين، والذي جعل المملكة القاعدة التي تنطلق منها الدول الإفريقية في تدبير هذا المجال، مؤكدا على أهمية الاستثمار في السجل الإمبراطوري للمملكة التي تتحرك بامتداداتها في التاريخ.
كما اعتبر أن من ملامح هذا الوضع السيادي المتقدم، توفر المغرب على نخبة أمنية بخبرة مطلوبة دوليا لمصاحبة الانتقالات الكبرى، وكذا تأثيره الواضح على مستوى العلاقات التجارية.
ولاحظ اجماهري أنه بالمقابل، فالجانب المرتبط بالتعبيرات الناتجة عن المجتمع يعرف أزمة، ليس فقط في الجانب السياسي المحض، وإنما أيضا في الوسائط الاجتماعية الأخرى. مسجلا في هذا الصدد، أن التقدم الذي حصل على مستوى الدستور، عملت الممارسات السياسية للنخب على تعطيله.
ومن مفارقات هذا الوضع، يقول عبد الحميد اجماهري، كون الذين صنعوا الإصلاحات لم يفوزا في الانتخابات، والذين كانوا ضدها هم الذين فازوا، مذكرا في السياق نفسه، أن لا أحد كان متحمسا للإصلاحات الدستورية قبل 2011، باستثناء الأحزاب المنتمية للأسرة اليسارية، إذ كان هناك من كان هاجسه هو تحسين علاقته بالدولة، ومن كان يرى أن الديمقراطية ينبغي أن تكون في صالحه.
ومن مظاهر هذه المفارقات التي توقف عندها عضو المكتب السياسي، الدولة الاجتماعية، فالذين كانوا يحملونها كجزء من هويتهم وناضلوا من أجلها، ليس هم من يقودون تنفيذ هذا الورش المهم. متسائلا كيف يمكن أن تكون دولة اجتماعية بدون حوار اجتماعي ناجح؟
وانتقد في عرضه إخراج التعليم من منظومة الدولة الاجتماعية، علما أنه هو العامل الأساس في الارتقاء الاجتماعي. مؤكدا في هذا الصدد أن الوقت قد حان لإجراء حوار وطني حول التعليم.
وأكد اجماهري أن تحرك الشارع المغربي يثبت أن هناك أزمة اجتماعية لا يمكن أن يستشعرها إلا من كانت الدولة الاجتماعية تشكل هويته. مشيرا في هذا الصدد إلى أن هناك أحزابا كانت تراهن على إضعاف دور الدولة في صنع السياسات، لكن بعد الأزمة الوبائية والحرب في أوكرانيا، عادت الدولة بقوة ورسخت رؤيتها. مسجلا أنه لا يمكن أن تكون هناك دولة قوية من دون مجتمع قوي.
واستعمل اجماهري مفهوم الطهارة الديمقراطية، لتشخيص الدور السيء للمال الناتج عن الفساد وتجارة المخدرات، في تفسخ النخب السياسية، مشيرا إلى أن هؤلاء صاروا يصنعون الخرائط السياسية مستعملين الأموال الهائلة المتدفقة من تجارة المخدرات. وتساءل في هذا الصدد» كيف للدولة التي ربحت معارك استراتيجية كبرى، أن تظل عاجزة أمام مجموعة من الأثرياء المحتكمين إلى ثروتهم المشبوهة؟ «.
واعتبر أن الملفات المطروحة اليوم أمام التحقيق تشير إلى النموذج الذي ينبغي أن يكون عليه الحذر المغربي بخصوص الفساد، منبها إلى خطورة تعميم النموذج الكولومبي في صنع النخب السياسية استنادا إلى تأثير أموال المخدرات. وأكد في هذا الصدد أن الفساد عدو التنمية، ويكون أكثر رعبا من الإرهاب في حالات معينة، وهو عدو رئيس للتنمية. داعيا إلى ضرورة اجتثاثه عبر تطهير ناجع، والعودة إلى الإلحاح الأخلاقي في صنع العلاقات السياسية وصنع النخب.
وقال اجماهري إن هناك مجموعة من التوافقات الكبرى التي تمت، لكن هناك أزمة سياسية تتمثل في العجز المؤسساتي في تنزيلها. ليخلص بالقول « إن ما تم بالفعل هو إغلاق الحقل السياسي.»
وكان عبد الحميد اجماهري قد افتتح عرضه بالتذكير بمرتكزات المدرسة الفكرية والسياسية للقائد عبد الرحيم بوعبيد، والتي أجملها في الواقعية النظيفة التي لا تتفاوض في الوطن حتى لو كانت لفائدة الديمقراطية، واعتبار القضية الوطنية كقاعدة للانطلاق في كل مناقشة للشأن السياسي، و» السياسة أخلاق» التي عاد إليها وزنها اليوم، وتأكيده أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس.
وتفاعلت القاعة التي اكتظت بحضور لمختلف المشارب السياسية، مع الطروحات التي قدمها عبد الحميد اجماهري، وتركزت حول معضلة الثقة وإشكاليات التعليم وأداء الوسائط ذات الوظائف الاجتماعية والسياسية والثقافية ودور اليسار في الإشكاليات السياسية التي يعرفها المغرب.