عاد الأستاذ محمد الصغير جنجار المدير المساعد لمؤسسة عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، في تقديمه لضيف اللقاء الأول هذه السنة من سلسلة لقاءات “كاتب وكتاب” الباحث التونسي محمد الحداد ، الى فترة البدايات ، وبالضبط الى تجربته في مجلة “مقدمات ” إذ كان من الاقلام الشابة التي برزت في منتصف التسعينات بتحليلاتها الرصينة ومعرفتها بما يستجد في مجال الدراسات الاسلامية، بدءا من مقاله الاول في مجلة “مقدمات ” حول المفكر المصري حسن حنفي، ثم بعد ذلك كتاباته حول تجديد التراث والخطاب الديني.
واعتبر جنجار أن حفريات الحداد في تاريخ الفكر العربي الاسلامي والفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر، كانت حاسمة ومرجعية لمعرفة تاريخ الفكر الاصلاحي الديني بمقاربات جديدة من خلال كتاباته أنذاك “حفريات تأويلية في الخطاب العربي الاسلامي”، “محمد عبده :قراءة جديدة في خطاب الاصلاح الديني” ليتجه بعدها الى تحليل علاقة هذا الخطاب بالدولة الحديثة والاسلام، “البركان الهائل” “،الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح» «ديانة الضمير الفردي» مشددا على أن كتابه الأخير «الدولة العالقة: مأزق المواطنة والحكم المدني في المجتمعات الإسلامية» امتداد للمشروع الفكري الحضاري حول مأزق الفكر الإسلامي الحديث وإمكانية إصلاحه وتأهيله من الداخل.
بدوره أكد المفكر والأكاديمي التونسي والباحث المتخصّص في دراسات الحضارة العربية والأديان المقارنة بجامعة المنوبة أن الخيط الناظم لجل كتاباته هو فكرة الإصلاح الديني والدولة، وهو المشروع الذي يجد نفسه اليوم أمام مجموعة من الاحداث الطارئة بالمنطقة العربية والتي سميت الربيع العربي، مفضلا عليها تسمية الحراك العربي، معتبرا أن كتابه ما قبل الاخير «الثورة والتغيير» كان تعليقا على الاحداث فيما كتابه الأخير» الدولة العالقة مأزق المواطنة والحكم المدني « تفكير أكثر عمقا في ما حدث، ما جعله يعود الى بداية هذا الحراك التي حددها في أحداث العراق وسقوط حزب البعث الحاكم ، محاولا إجراء مقارنات بيم الانتقالات الديمقراطية بأوربا الشرقية وما حدث بالعراق بحكم احتكاكه بالعديد من المفكرين الأوربيين، مميزا بين انتقالين: الانتقال الذي حدث في أوربا أو الانتقال كلحظة من لحظات الفوضى كما حصل في بلدان الحراك العربي.
وفي تفسيره لماهية مفهوم «الدولة العالقة»، وقف محمد الحداد على حقيقة ان كل شروط الدولة الحديثة نضجت اليوم، لكننا في المحصلة لم نصل الى الدولة الحديثة ، بمعنى أن الشكل موجود لكن مضمونيا ليست هناك حداثة سياسية وهو ما أطلق عليه «الدولة العالقة « أي وجود انفصام تام بين السطح السياسي والعمق المجتمعي وهذه أكبر مفارقة، حيث نتجه شكلا نحو الدولة الحديثة لكننا في العمق نتجه الى وضع ما قبل االحداثة، وذلك لافتقاد الدول العربية لبديل واضح عكس بلدان أوربا الشرقية التي كانت أمام خيارين: الليبرالي أو الشيوعي.
واعتبر الحداد أن مجتمعاتنا العربية تعاني من غياب وضوح البديل، لأن مفهوم المواطنة غير راسخ حتى عند الديمقراطيين وثانيا لأن البديل يتلخص عند الناس في الدين باعتباره ىالملاذ، مشددا في هذه النقطة على أن حركات الاسلام السياسي ليست هي المسؤولة عن هذا الوضع بل إن الواقع هو الذي خلق وأفرز هذه الحركات التي استفادت من نتائج الحراك رغم افتقادها لحلول في المجال الاجتماعي، مضيفا أن الكتاب يدعو الى تأصيل مفهوم المواطنة وعدم ربطها بالدين لأن الدين له تاريخية معينة فيما المواطنة لم تكن من المفاهيم المطروحة عند ظهور الاسلام، ليخلص ال ان الدين ليس ضدها ولا معها.
وتوقف الحداد عند مفهوم المواطنة في المجتمعات الاسلامية ملاحظا أنها مازالت ضعيفة ، ولا تدخل ضمن البدائل الذي يحلم به الناس عند التفكير في التغيير والاصلاح، وهو ما يعيق ترسيخ مفهوم الحداثة السياسية التي لا تتحقق إلا عندما تصبح المواطنة هي المرجع في الانتماء وشعور المواطنين في نفس الوقت بأن المواطنة ليست نقيضة للدين.
وأشار الباحث التونسي محمد الحداد الى الاصوات التي تروج لفكرة أن المواطنة ليست نظاما صالحا لبلدان الشرق الاوسط أو ما يعرف بفكرة « الاستثناء الإسلامي» من داخل الغرب أيضا او نظرية الدولتين التي أصبحت تدرس في العلوم السياسية والتي كتب عنها برتراند بادي في كتابة «الدولتان» ،وهو ما يفتح على نظرية ثالثة هي فكرة اللادولة أو الفوضى كنموذج للدول العرية أو من يقترح العودة الى الخلافة كأرضية لإنهاء الصراعات، مبينا خطورة هذه الفكرة لأنها تدعو الى الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط دون التأسيس للدولة الحديثة، أي التعامل مع الدول كتجمع يضم إثنيات وطوائف بدون دولة وطنية وهو ما يترجمه بجلاء وضع الشرق الاوسط اليوم (الشيعة، السنة، الاكراد، الامازيغ) وإيجاد توافقات بينهم، مع ما تشكله العولمة التي تأسست على الانفتاح على المعارف والمجتمعات وإلغاء الخصوصيات من خطورة بعد أن أصبحت عولمة سائبة بدون أدوات تعديلية ، مشيرا الى أن هذا الترابط بين العولمة وانمحاء الدولة الوطنية يؤدي الى كوكتيل خطير بالمنطقة يهدد السيادة والحدود الوطنية.
الكتاب أيضا يشير الى أن التطلع الى تأسيس الدولة الحديثة ليس وليد اليوم بل إن له امتدادا تاريخيا انطلق مع حركة النهضة لكن مع فنترة الاستقلالات الوطنية تم تحجيم وإلغاء هذا المفهوم ، لصالح كاريزما الاشخاص بدل الافكار والمشاريع وهو ما جعل مشروعية «الدولة « تضعف بمجرد انهيار هذه الكاريزمات، لذا يجب اليوم رد الاعتبار لهذا المسار الذي بداه النهضويون لأنه سيساهم في ترسيخ هذا المفهوم وإعطائه بعدا اجتماعيا وشرعية أكبر. ولفت الحداد في هذا الباب الى الخلط بين الاصولية والنهضوية، معتبرا أن الحركات الاصولية لم تكن استمرارا للحركة الدستورية ولعصر النهضة الذي كان عصر انفتاح على التجارب الحديثة مع التمسك الهوية، بل إن الأصولية الدينية اعتبرت أن فكر النهضة تلوث بالغرب وأنها جاءت لتحرر الفكر الاسلامي من تلوث العهد الاستعماري وتحريف رواد النهضة للدين والذين فشلت مشاريعهم الاصلاحية بفعل درجة المحافظة في المجتمعات الاسلامية وبطء الإصلاحات، معتبرا أن الحركات الاصولية « انقلاب مفهومي « عليهما، ونسف لكل ما تحقق من تطور فكري وحضاري في عصر النهضة.
وخلص محمد الحداد الى أن الأفق اليوم هو دولة المواطنة التي تستوعب فئات أكبر ممن يعيشون في نفس الفضاء لأن المهمشين هم الفئة التي تستعمل لإسقاط الدولة الوطنية في مراحل الاحتقان، ولهذا فالتحدي هو إصلاح الدولة الوطنية والتحول الى دولة المواطنة التي تقبل بكل الحساسيات في إطار مدني، وهي المهمة المطروحة على المثقفين المطالَبين بتجسير الهوة مع العمق الاجتماعي، ألا يبقوا في مستوى النصوص الفوقية والنظرية المنظمة للدولة بل عليهم التفاعل مع المسألة الدينية.
في لقاء بمؤسسة عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية الباحث التونسي محمد الحداد: الأفق اليوم هو دولة المواطنة التي تستوعب كل الحساسيات في إطار مدني

الكاتب : حفيظة الفارسي
بتاريخ : 05/11/2018