في لقاء معه بخنيفرة: الباحث الجامعي محمد ياسين يفكك مفاهيم ورهانات ومحددات الفضاء العمومي

 

استمرارا لبرنامج «محاضرات الشهر»، احتضن «المركز الثقافي أبو القاسم الزياني»، بخنيفرة، مؤخرا، لقاءً مفتوحاً مع الأستاذ الجامعي، الفاعل المدني والباحث السوسيولوجي، د. محمد ياسين، في موضوع «الفضاء العمومي: مكاسب التفكير ومحددات التأهيل والتطوير»، وقد سجل اللقاء حضورا نوعيا ومتفاعلا من بين الفاعلين والمهتمين بالشأن الثقافي، ومن ممثلي مشارب وأطياف المجتمع المدني.
انطلقت أشغال اللقاء بكلمة افتتاحية لمسؤول المركز المضيف، ذ. المصطفى فروقي، الذي وضع الحضور في دلالة ورمزية هذا اللقاء ضمن خارطة البرامج التي رسمها المركز الثقافي، وجعلها محطة للنقاش والتفاعل، وملتقى يجمع المبدعين والباحثين بالمهتمين بالشأن الثقافي، فيما لم يفت ذ. فروقي عرض تفاصيل المسيرة العلمية للضيف، كجامعي وباحث وفاعل مدني ومنشغل بالأسئلة المجتمعية والظواهر السوسيولوجية والمجالية.
ومن جهته، انطلق د. محمد ياسين مما أخذ يعرفه موضوع الفضاء العمومي من اهتمامات ومرافعات ونقاشات باعتباره من «أهم المرتكزات التي تقوم عليها التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية على الصعيد العالمي»، وبوصفه أيضا «حقلا لتفاعل انكسارات المجتمع، ضمنيا وعلنيا، ومشتلا حقيقيا للصيانات الرمزية التي لها جذورا في الفعل الثقافي والتواصل الاجتماعي وقيم الحرية والتعددية».
كما تناول المحاضر أهم «مداخل ومؤشرات ووظائف الفضاء العمومي بالمغرب بوصفه المجال القابل للتطور مقارنة مع بعض مكونات الحوار الجيوسياسي»، فيما أشار بالتفصيل لـ «ماهية الفضاء العمومي في سياق الحياة الجماعية التي تؤسسها الروابط الوظيفية بديلا عن الروابط الآلية والقرارية»، ومدى «قابلية هذا الفضاء لإعادة البناء والتأسيس كلما ازدادت الحاجة الثقافية والاجتماعية لملء مساحات منه».
وفي ذات السياق، توقف المحاضر، د. محمد ياسين، عند المجال الرقمي و»اختراقه الواسع لكل الأوساط البشرية رغم أن الفضاء العمومي ظل محكوما برهان التملك من خلال قوة الأبعاد التي تؤطره»، و»بديناميات مجسدة في قواعد التدبير المعلنة والخفية، والإرادة المستمدة لتأكيد الحرية»، قبل تطرق المحاضر للمدنية باعتبارها «الحاضن الحقيقي للفضاء العمومي من حيث الأنماط والرموز والإيقاعات المختلفة».
ومن جهة أخرى، انتقل المحاضر للحديث عن موضوع الثقافة بوصفها «الدينامو الحقيقي لفاعلية الفضاء العمومي والقادر على انتاج الإرادة السياسية والاجتماعية وغيرها»، فيما حاول تفكيك مفاهيم آليات اللغة والمعنى والهيمنة الرمزية والسيرورة الثقافية للإنسان، كما تطرق للمدارس التي طرحت موضوع الفضاء العمومي منذ القرن 18، والفلاسفة المنتمين فكريا لعصر الحداثة.
وصلة بالموضوع، أشار د. محمد ياسين، في محاضرته الفكرية القيمة، إلى نماذج من بعض الفلاسفة، ومنهم جان جاك روسو في تنظيره للحرية والعقد الاجتماعي، والذي كان من بين المداخل الأساسية لمفهوم الفضاء العمومي، كما أشار لآخرين مثل كانط ومؤلفاته التي كانت «منتوجا لمفهوم التنوير وبوابة لإقرار الحداثة»، ثم هيجل وحديثه عن الدولة والمجتمع المدني.
ولم يفت المحاضر بالتالي التوقف بورقته عند ما أسماه ب «التناقضات التي حصلت بالغرب خلال منتصف القرن 19 بين الدولة والمجتمع لأجل تغييرات معينة تسير في أفق عصر الأنوار الذي نطق فيه زمن الحداثة»، ومن هنا فتح المحاضر لنفسه مجالا للحديث عن «المعرفة التي بنيت في نطاق الحداثة والبحث عن سبل الإفلات من الفردانية وافتقاد الحس المدني والسياسي».
وبعد إشارته لفكر الفيلسوفة حنة آراندت حول مشكلة الفعل والحرية وعلاقتها بالشرط الإنساني، ثم لفكر يورغن هابرماس صاحب نظرية الفعل التواصلي وكتابه الذي لقي انتقادا واسعا وجدالا قويا وهو يحمل مناعة سياسية، سيما عقب انخراط هذا المفكر في «موجة ترمي لإعادة المشهد الحداثي والاقرار بإنسانية الإنسان»، فيما تحدث المحاضر حول ما كان هابرماس يراهن عليه لأجل بناء قيم معينة ومحددة.
ومن خلال تركيزه على «مفهوم الدولة كقدر استراتيجي يعجز الإنسان عن تخطيه»، ركز المحاضر على ما يجب أن يبنى عليه الفضاء العمومي من «ديمقراطية تشاركية شعبية، وتصورات عميقة»، فيما اعتمد على بعض المفكرين الذين «اعتبروا الفضاء العمومي ليس هو الفضاء المبني على ما تنتجه صناديق الاقتراع الانتخابية، بل هو الفضاء الذي تكون فيه للإنسان قواسم مشتركة في مناقشة ما يهم الأفراد والجماعات».
وانطلاقا من سؤال: «هل بلغنا فضاء حاضنا لنقاش مجتمعي في قضايانا الاستراتيجية؟»، تناول المحاضر سبع بؤر أساسية في الفضاء العمومي، وهي التأسيسة (الدستور)، الترابية (مشروع الجهوية المتقدمة)، المؤسساتية (المؤسسات والمجالس الدستورية والاستشارية)، الأكاديمية (الفضاءات الجامعية)، المدنية (الجمعيات المدنية)، التواصلية (وسائل التواصل والمواقع الافتراضية)، ثم الثقافية (الفضاءات الثقافية).
وبينما رأى أن هذه البؤر «تؤدي حتما إلى الحديث عن مكاسب، وعن آليات ضرورية لا تقل عن البحث العلمي وأشكال التعبئة وإرادة الفعل وإمكانيات الاقتصاد المعرفي»، لم يفت المحاضر التطرق ل «معنى المواطنة والوعي الجماعي بالانتماء للوطن»، مبرزا نماذج جمعت الشعب حول الوطن، ومنها على سبيل المثال ما حدث في كأس العالم وما خلقه من إحساس بروح الوطن.
وتوقف المحاضر، د. محمد ياسين، كثيرا عند «أبعاد وعلاقة الخصوصية بالتنوع، اللغوي بالثقافي، الاقتصادي بالاجتماعي، وكيف أن المغرب لم تعد له أية عقدة أو مشكلة مع الثقافات، إلا في حالات وجود ما يهدد التحصين من بعض الانفلاتات أو الاختراقات»، وفي ذات الوقت أعرب عن تأسفه حيال بعض «السلط المعيقة لانبثاق الفضاء العمومي المنشود بسياسة عقلية الهيمنة والآليات المبتذلة».
وإلى جانب تطرقه لما وصفه ب «التفاهات المؤدية للضحالة المتحكمة في الحياة العامة، والمجهضة لأي تصور أمثل لبناء فضاء عمومي حقيقي»، تناول المحاضر عددا من المشاكل المساهمة في تعثر هذا الفضاء، ومنها «ضعف الأوساط المدنية، غياب أدوات التفكير والاستقلالية عن بعض الجهات المعنية»، فيما لم تفته الإشارة ل «ابتعاد الاعلام العمومي عن انتظارات ورغبات المواطن المغربي».
ومن جهة أخرى، توقف د. محمد ياسين بحديثه عند العنصر الثقافي، بكل تعبيراته وألوانه، ومدى أهميته في «إنضاج الفضاء العمومي، وفي تطوير المجتمع»، باعتباره «المدخل الأساس للديمقراطية التشاركية في الترافع والفعل والاقتراح»، كما هو «البوابة المؤدية للتربية على المواطنة»، فيما تطرق ل «أهمية التنوع ولأخلاقيات النقاش عبر القواعد السليمة لمبادئ الاختلاف والتعايش والتسامح».
وفي نفس الاتجاه، أشار المحاضر لأهمية البحث العلمي المتعدد التخصصات، والتأكيد على «ضرورة استحضاره في أي إشكالية من الاشكاليات، وبدونه لامعنى لأي نقاش حول الثقافة والفكر وسيرورة حركية المجتمع الإنساني ودينامية العلاقات، والهويات الخاصة»، كما لأهمية التوثيق والمقاهي الثقافية، قبل تركيزه مطولا حول موضوع الثقافة الإيكولوجية، وحاجتها للتثمين والتسويق، مع إبرازه لما يتعلق بالموارد الطبيعية.
وقد تميز اللقاء بفتحه لشهية الحضور في النقاش بعدة مقترحات وتصورات وإضافات، من قبيل «إشكالية الاعتماد الدائم على الحداثة لدى أوروبا والمفكرين الغربيين»، و»الحداثة المعطوبة بالمغرب والعالم العربي»، و»واقع قصور الفضاء العمومي وهزالة البحث العلمي»، فضلا عن «غياب الأحزاب السياسية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام عن النقاشات الحقيقية بالفضاء العمومي وبما يضمن الحقوق والعدالة الاجتماعية».كما تساءلت بعض المداخلات حول «مفهوم الفضاء العمومي» و»ارتباطه بالعقلنة والرأي المبني»، وحول «ارتباك الفضاء العمومي كلما تعلق الأمر بالبحث عن حوار منتج»، و»علاقة الفضاء العمومي بالدولة»، و»حالة تحول هذا الفضاء إلى حلبة للصراع والعراك والتدافع بين الدولة والمجتمع»، و»واقع اختفاء بعض الحقول التي لا تقل عن الأندية السينمائية»، وكيف «صارت حياة الانسان فضاء مفتوحا للعموم بما فيها الخصوصيات».
وحملت المداخلات أسئلة أخرى حول «الفضاء العمومي كمعطى فلسفي أنثروبولوجي»، و»حدود انفتاحه على الصراعات والنزاعات الاجتماعية»، وعلى «الآراء والأفكار والتعابير والنقاشات»، و»مشاركة المواطن داخله في الحياة العامة ومرافعات التنوع والحقوق اللغوية وسيرورة التغيير وتعزيز الديمقراطية»، و»مدى إمكانية الرهان عليه كقوة اقتراحية في واقع متحوِل سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا؟».


الكاتب : أحمد بيضي

  

بتاريخ : 15/07/2023