في محاضرة افتتاحية ألقاها الدكتور أحمد العاقد بكلية خريبكة:السيميائيات الوسائطية نموذج تحليلي متقدم لفهم نسقية الخطاب ودينامية التواصل

نظم ماستر آليات تحليل الخطاب الأدبي ومختبر الأبحاث التطبيقية في الأدب واللغة والفن والتمثلات الثقافية تكوين الدكتوراه أدب لغة وثقافة، محاضرة افتتاحية لطلبة الدكتوراه، والماستر، والإجازة، ألقاها الدكتور أحمد العاقد بالكلية المتعددة التخصصات بخريبكة، يوم الجمعة 15نونبر 2024 في الساعة العاشرة صباحا، بعنوان: « نسق الخطاب وسياقات التواصل: مبادئ وآليات السيميائيات الوسائطية»، تنسيق الدكتور الشرقي نصراوي.
ابتدأ الدكتور الشرقي النصراوي المحاضرة معرفا بالدكتور أحمد العاقد وبفرش نظري للسيميائيات ليعطي الكلمة للضيف الذي أوسع من مفهوم علم السيميائيات، أو علم العلامات، كمجال دراسي يركز على فهم كيفية استخدام العلامات والرموز لنقل المعاني، والتي أكد أحمد العاقد على ضرورة النهل من مجالات متعددة، بما في ذلك اللغة، الأدب، الفلسفة، وعلم الاجتماع، والمنطق حتى نتمكن من فهم العلامات كنسق ينتمي إلى حقل معرفي يتسم بالدقة في دراسة متونه.
إذ يعتبر «تشارلز ساندرز بيرس» (1839-1914) الفيلسوف وعالم المنطق الأمريكي مؤسس علم السيميائيات، حيث قدم مفهوما معقدا للعلامات، وحددها في:
العلامات الأيقونية: وهي التي تمثل الشيء الذي تشير إليه من خلال الشبه (مثل الصور)، والعلامات الرمزية: وهي التي تعتمد على اتفاق اجتماعي أو ثقافي (مثل الكلمات)، والعلامات الاستدلالية: وهي التي تشير إلى شيء ما بناء على علاقة سببية (مثل الدخان كعلامة على النار).
حيث ركز بيرس على العلاقة بين العلامة والشيء الذي تشير إليه، والمفسر (الشخص الذي يفهم العلامة)، واعتبر أن المعنى هو عملية مستمرة من التفسير والتفاعل.
أما «فرديناند دي سوسور» (1857-1913) اللغوي السويسري فيُعتبر أيضا من الشخصيات الرائدة في علم السيميائيات، الذي قدم مفهوم «اللغة» كعلامة تتكون من جزئين: «الدال» (الذي يشير إلى الشكل المادي للعلامة) و»المدلول» (الذي يشير إلى المعنى)، وقد أثرت نظرية سوسور بشكل كبير على الفكر اللغوي الحديث، حيث أكد أن المعاني ليست ثابتة، بل تتشكل من خلال العلاقات داخل النظام اللغوي كما أشار إلى أهمية السياق الاجتماعي والثقافي في تشكيل المعاني.
تُعتبر أفكار بيرس وسوسور حجر الزاوية في دراسة السيميائيات الحديثة، والدعائم الأولى لإرساء علم العلامات، حيث ساهمت أعمالهما في تطوير مجالات متعددة، مثل تحليل النصوص الأدبية، دراسة الثقافة، وعلم النفس كما ألهمت العديد من المفكرين في القرن العشرين وما بعده، مثل رولان بارت وجوليا كريستيفا، إذ تفرعت عن أعمالهما فروع عدة كالسيميائيات الثقافية مع «يوري لوتمان»، والسيميائيات الفيلمية مع «كريستيان ميتز»، والسيميائيات السردية مع « ميخائيل باختين» جيرار جينيت» و» ألجيرداس جوليان غريماص»، وتفرعت منها أيضا سيميائيات الأهواء مع رائديها « ألجيرداس جوليان غريماص» و» جاك فونتاني».
وأكد أحمد العاقد أن علم السيميائيات هو مجال معقد يتطلب فهما عميقا للعلاقات بين العلامات والمعاني، رغم أن تشارلز ساندرز بيرس وفرديناند دي سوسور قد جاءا من خلفيات مختلفة، إلا أن كليهما ساهم بصورة كبيرة في تأسيس هذا العلم، وأن فهم أفكارهما يمكن أن يساعدنا على إدراك كيفية عمل اللغة والرموز في حياتنا اليومية من تواصل واتصال، وفهم أهم الفروق بينهما خاصة في بيئتنا الحالية المشحونة بالرموز المنقولة عبر وسائط الاتصال المتعددة من تلفاز، سينما، مسرح، مواقع التواصل التي جعلت من العالم قرية كونية صغيرة، وقد أشار أحمد العاقد أيضا إلى السيميائيات الوسائطية كفرع من فروع السيميائيات والتي تدرس كيفية استخدام العلامات والرموز في مختلف الوسائط التي يتم من خلالها نقل الرسائل كالأدب والتلفزيون، والسينما، والفنون التشكيلية، وكيف تتفاعل مع المتلقي، هذا الأخير الذي يجب أن يتعامل مع هذه الرسائل لتشكيل المعنى من خلال السجل المعرفي والثقافي والمعرفي الذي يمتلكه.
بعدها أخذ الكلمة الدكتور الشرقي نصراوي، منسق الجلسة، ليعطي تركيبا جامعا لما جاء في محاضرة الدكتور أحمد العاقد، جمع فيه بين تعاريف المصطلحات السيميائية وروادها، وأن فهم المعاني التاوية خلف الرموز لا يقدر على الإمساك بمدلولاتها إلا متمرس ودارس جيد للمناهج النقدية والمدارس اللسانية، وأن السيميائيات غنية بحقلها الدلالي وآليات اشتغالها، وأنه لكل وسط من الوسائط الناقلة للرموز ما يوالمها من الآليات حتى يتمكن المتلقي من الإمساك بمطبخ المعنى وجودة التأويل.
بعد تكريم الدكتور أحمد العاقد من منسق ماستر آليات تحليل الخطاب الأدبي والطلبة الباحثين في سلك الماستر والدكتوراه، تمت مناقشة الأسئلة التفاعلية بين الحاضرين والدكتور المحاضر ما ساهم في فهم أعمق للموضوع المطروح، وكان بمثابة درس نموذجي حي بين الملقي والمتلقي وفك شفرات البنية العميقة للرسالة العلمية التي من أجلها نظمت المحاضرة، لتعطى الفرصة لطلبة الدكتوراه لبسط مداخلاتهم في السيميائيات الوسائطية كل من زاوية اشتغاله. وعرفت الجلسة التي سيرها الطالب الباحث عبد الكريم عوينة، إلقاء المداخلة الأولى من طرف الطالب الباحث محمد نظاري لشرح العلاقة التي تربط السيميائيات الوسائطية بسيميائيات الأهواء باعتبارها نظرية قائمة بذاتها تسعى إلى دراسة الانفعالات، والحالات النفسية، والبعد الهووي، وإعادة الاعتبار للجانب الداخلي للذات البشرية داخل النصوص الأدبية، والخطابات السردية والبصرية. واعتبر أن من أهم روادها «ألجيرداس جوليان غريماس»، و»جاك فونتاني»، مقيما الربط بين سيميائيات الأهواء والسينما باعتبارها من الوسائط المهمة التي تحمل مدلولات ورموز تاوية خلف المتتاليات الفيلمية، تتطلب دراسة متأنية للوصول إلى الانفعالات النفسية للممثلين وبعدها الهووي في تحريك الشخصيات وأفعالهم داخل الفيلم. وبالنظر إلى السينما كنص سردي بصري ينتمي إلى السيميائيات الوسائطية باعتبارها نظرية تسعى إلى دراسة كيفية نقل المعلومة عبر الوسائط المختلفة، كالنصوص الأدبية، الصور، والأشكال السمعية، فإن التفاعل بين الأهواء والوسائط يكون بالطريقة التي يتم بها نقل المعلومات عبر الوسائطـ، فالصورة أو الموسيقى كعناصر فيلمية قد يكون لها دور في استثارة مشاعر معينة.
ليتسلم الكلمة الطالب الباحث نور الدين ثلاج بموضوع سيميائية التواصل والتي تدرس الأنساق اللغوية (كلمات مكتوبة ومنطوقة) وغير اللغوية (إشارات، رموز، إيماءات…) التي يستعملها مجتمع ما بغرض معين، حيث يشترط في دراسة هذه العلامات وجود وظيفة أو قصد من قبل المرسل تجاه المرسل إليه، من أجل التأثير فيه أو إقناعه بفكرة أو دفعه إلى رفضها، على اعتبار أن غاية سيميائية التواصل هي بلوغ المعنى الذي أقيمت لأجله عملية تواصل بين مرسل ومرسل …إليه في سياق ثقافي اجتماعي معين، ويسمي ايريك بويسنس كل فعل تواصلي فعلا سيميائيا، باعتبار أن السيمياء تدرس طرق التواصل أو أنساق العلامات ذات الوظيفة التواصلية، وهو الموقف الذي يزكيه لوي بربيتو بقوله إن السيمياء ينبغي عليها أن تهتم بالوقائع والأحداث القابلة للتواصل، مما يؤكد حسب القولين أن القصدية ضرورية لدى السيميائيين لدراسة فعل التواصل.
كما أكد الباحث أن الخطاب الإعلامي بمختلف أصنافه (المرئي، المكتوب، المسموع…)، يستجيب بشروط المقاربة السيميائية لوجود القصدية أو الوظيفة، حيث يبث الإعلامي أو الوسيلة الإعلامية رسالة أو معلومة أو خبر للتأثير في متلق عن طريق (الفيديو، الصورة، المقالة الخبرية، مقال الرأي…) موظفا سننا لفظيا وغير لفظي، لغوي وأيقوني، في سياق ثقافي اجتماعي معين، حيث يعمل المتلقي على تفكيك هذا الخطاب وتفسيره وتأويله لاستجلاء المعنى، وهو الأمر الذي تسعى سيميائية التواصل إلى بلوغه، من خلال سيرورة متواصلة غايتها فهم كيفية تأثير الرموز والعلامات على فهم المرسل إليه للعالم عامة والخطاب الموجه إليه خاصة، وتسعى سيميائية التواصل في الخطاب الإعلامي إلى الوصول إلى دلالات الرموز والعلامات الظاهرة والمضمرة التي تستخدمها الوسيلة الإعلامية أو الإعلامي؛ سواء أكانت هذه العلامات لسانية أو غير لسانية، لإبلاغ رسائل مؤثرة وتشكيل اتجاهات وسلوكيات الجمهور، باستحضار البيئة الثقافية لأطراف عملية التواصل، وذلك لتجنب سوء الفهم والنزاعات.
وتطرق الطالب الباحث يوسف الفيضاضي إلى موضوع السيميائيات السردية في الرواية من خلال منظور غريماس، الذي طور منهجا سيميائيا جديدا بناء على أبحاث واسعة سابقة، مثل الفولكلور والحكايات الشعبية عند فلاديمير بروب، وأشار الباحث إلى المستويات الثلاثة للنص السردي التي يطالها التحليل السيميائي وهي :مستوى ظاهري وهو ما يسمى ببنية التجلي، ومستوى البنية السطحية التي تضم مكونين المكون السردي (وفيه تعمل البنية العاملية) والمكون الخطابي (يضم الصور والحقل المعجمي والدلالي وأدوار الممثلين)، ومستوى البنية العميقة ذي البعد المنطقي حيث يشتغل المربع السيميائي الذي ينظم دلالة النص: سطحي أو عميق.
أما مداخلة الطالب الباحث المصطفى الفادي الموسومة بـ «سميائيات الخطاب الفيلمي» فكانت حول ثلاثة محاور أساس، تمثلت في إبراز أهم خصائص الخطاب السينمائي، وتميزه عن الخطابات الأخرى، وكذا دور اللغة السينمائية في توليد المعنى، من خلال التنظيمية الكبرى التي جاء بها كريستيان ميتز، الذي حاول التقعيد للغة السينمائية (النحو السينمائي)، ليختم بخصوصية التلفظ الفيلمي بوصفه تلفظا غير شخصي ناتج عن الفيلم نفسه وأجزائه.


الكاتب : تغطية: محمد نظاري

  

بتاريخ : 20/11/2024