(1)
كانت الأرض منذ البدء، والمواويل تسرّح غيمات الفرح على الربوع والسهول، وتحرس البراري من لعنة الذئاب، هنا كان القمر يغنّي وشجر الزيتون يرقص وأطياف الأنهار تمرّ موسيقى في القصب، وكانت الشعاب تمرح مع الوعول والأيائل في سكينة أبدية وهدنة أزلية، كانت الأسوار لا تخون أنفاس الرجال والجبال، ترافق خطوات الجدود وتكسّر جدار الحدود، صامدة في عزلة الشيوخ وانتظار الأمهات، في نظرة عيون الفتيات وشهقة شفاه السرد.
لم يكن الليل يطيل الإقامة ولا النزيف يعرف طريقه إلى الأجساد والروح، كانت الأعراس تتباهى بأناشيدها ورقصاتها وتلويحات الصبايا من خلف حجاب وأياد مضوّعة برائحة الأرض، وعرق الجباه في عز الحصاد.
( هذه الأرض تعرفني
تعرف صهيل خطواتي وخفقة العروق
تعرف سحنتي القادمة من طين الأبدية
وتعرف شهقة التراب في يديّ
تحملني دون كلل وتزيح الأثقال عني
بجدار يتنفس عرق البناة ولهفة الأسلاف
وعليها تشتعل الأحلام
وترتاح في آفاقها الغيمات…)
(2)
هذه السعة تشرع أقاليم اليقظة في سباتٍ أممي، وتغلق باب الدّجل والأساطير وحيطان المبكى، برشقة من عزّ الفتيان وصولة الرجال، الذين كسروا الأوهام وحطموا تماثيل الجيش الذي لا يقهر، وأحدثوا الشقوق في جدار العار والميز العنصري، وخلخلوا معادلة القوة وشيّدوا معادلة الإرادة،
هي سعة المقاومة الممتدة منذ أكثر من قرن، التي كذّبت الظنون والشكوك وأمنت باليقين الربّاني والرغبة في قهر كوابيس العدوّ، وعرّت الحقيقة وحطّت الأصبع على مكمن الجرح، وواصلت رحلتها بإيمان وقوة العزيمة، مدججة بأمل العودة و جلاء المحتل. وكلّ البيوت وإن سكنوها الأعداء، وأعدموها ستبقى حاضرة في ذاكرة الأرض والسماء، في القلوب والشرايين، في الشهيق والزفير، في عبور الريح ونشوة الندى، في الشرفات المفتوحة على أمم القدس ويافا وحيفا والخليل والجليل وطولكرم وغزة والقدس وعلى المدى الفلسطيني تكتب تاريخها بدم الشهداء وتلعن قاتلها برقصة الولدان وزغاريد الأمهات.
( زغردي أيتها الشفاه بأرضنا / بعشبنا / بعطرنا / بنهارنا / وشمسنا
واحفظي أسماءنا
أنفاسنا / نظراتنا / بصماتنا التائهة بين الأحجار
وانفخي اللهب في وجه الثعالب والذئاب
ويممي شطر المقدس بتراتيل السماء
ولملمي شظايانا فنحن إلى الحياة ذاهبون. ..)
( 3)
هكذا عيد الطوفان يأتي بغتة من البر والبحر والجو ، يطرق باب الغراب، وهو سادر في بحبوحة السراب، تطوقه أسراب من نعاج وكلاب، توهمه بأن التاريخ ملك له، وأن التلمود يؤيده، وحائط المبكى سنده ومتكأه، فاستفاق من غفلته وغباوته، أصيب بالتلف والخرَف، وسدّد حقده وضغينته تجاه أطفال يحلمون بصباح مكلّل بنور الجباه ودعوات القلوب، وشيوخ يبتهلون للحياة والسماء، ولنساء لم تتعبهن قوافل جثامين الشهداء، بل حيّرن الغرابين ويممن جهة الشمس، في انتظار الوطن.
تمادى الغراب في عماه وخلفه القطيع يردّد صداه، السماء والأرض تحرثها سلالة الطوفان بغارات من بسالة وشجاعة، بينما ثكنات الغراب جنودها بين قتيل وجريح وأسير.
تأتي النسور الطائرة تنشب مخالبها في جسد الغراب، ترقص على جثته ملحمة فلسطينية، حيث الأبواب القديمة والحارات الجليلة والبيوت المهيبة والجدران الصامدة وروائح الأمهات وعرق الآباء الكل يهب لنصرة الله والأرض، متألقة بملح الأنفاس والذكريات المحفورة في تاريخ الوطن، تشرع السماء بالدعوات والتراب والأحجار بأنشودة الظفر.
ها هي النسور الطائرة تفتك بالغراب يوما بعد يوم، تصول في وطنها بكل أريحية ورجولة، غير خائفة أو هاربة إلى المخابئ، بينما القطيع يفر مدحورا مرعوبا إلى سجنه، الذي سمعته ايادي الحمقى والنوكى من سلالة الخنازير.
( وطني
أعود إليك طائرا
أزرع المدى بنور الله
وابتسامة الشهداء وهم يضيئون
الأرض بالياسمين
بنخوة الزياتين
ويقظة الطوفان الجديد
لن يركبوا الجواري مثنى
لن يشقوا رمل سينا
ووادي عربة
لن يطفئوا ابتهالات القدس
لن يكونوا سوى حطب لنار الوقت…)
(4)
وتحكي الحكاية أن الغراب دفن دَحْرَهُ في الصراخ والعويل، ولوّح بنعيقه الذي لن يجديه في شيء، ويضرب بجناحيه يمنة ويسرة، ويبتلع ريق دهشته من أنوار تنبع من الأرض والسماء، وبوارق تلمع بنصرة الله وإصرار الأبطال وهم يدكّون المحتلّ بوابل من قوة وشجاعة وإباء، لا يكلّون ولا يتعبون ولا يهابون الموت، صدورهم مفتوحة لملاقاة صانع وخالق الكون بإيمان وطهر ، أما الغراب / الخنزير ياسادة مدنّس ورائحته عطنة وملامحه شيطانية وأفعاله وسلوكاته أكثر حيوانية وبهيمية، فهو مستمر في هدم الحجر وسفك دماء الأبرياء، همّه الأوحد زرع الرعب في نفوس حراس الأرض المقدسة، لكن هيهات هيهات الشرفاء المقاومون إلى المستقبل ذاهبون بقلوب مؤمنة ببزوغ شمس جديدة إلى الأمل، الذي في انتظارهم منذ أن رضعوا فلسطين وحبها وعشقها من أثداء الأمهات الشريفات العفيفات، الطاهرات النديات بالتضحية والصمود في وجه العدوّ الصهيوني وأزلامه من حكام العرب…
( من هنا مرّ التتار الجدد
جباههم خجلى من دم الطفولة خطواتهم حائرة أمام سطوة النهار
واندحار الليللا يملكون قمرا في سمائهم
ولا أرضا تقيهم منفى التيه
هم الغرباء سيخرجون من أشجارنا / من هوائنا/ من أحجارنا / من ماءنا الذي يعرف عطشنا/ من شرفاتنا القديمة التي تكتب ظلالنا بساطا للنسّاك… واللعنة تطوقهم بوابل من يأس…)
(5)
(… دمٌ حارقٌفي خريفٍ أعمى
يُرتّب موسيقى عمياء
ويترك الريح للأبواب القديمة ،
والشتاء يفرّ بجلدها من بلاد كانت تسمى بلاد العرب بينما صوتُ الخرابِ يتلو أسماء الشهداء والشهداء يزرعون السماء بالنور ويبتسمون يضيئون الأرض بالنار ويبتسمون يلعنون الطاعون ويتركون المدى معطّراً بماء النخيل
مثقلا بصمود الليمون ونخوة الزيتون
ويبتسمون فسلام على هضبات غزّة
على الدروب التي تشهر الأبواب القديمة، والمفاتيح المخزّنة في صناديق الأخلاف، والصور الأبدية لبلاد تسمى فلسطين، وستظل تسمى فلسطين، في وجه الغراب والذئب والطاعون سلام على مطر يخبئ ربيعه القادم في صرخة الوليد، في ملح العيون ودهشة القلوب، في حيرة الشيوخ ويقينهم بأن الشمس ستشرق من جديد. سلام على حمام القدس ويافا والجليل
سلام على عطور خان يونس وطولكرم
سلام على أرض تشهق بيقظة الريح
ونهر يطرد الطاعون ويخفق بسنابل الله… )
(6)
والغرابُ يعوي على أقمار تصعد سلالم السماء، مدججة بتهاليل المساجد والكنائس، مطوّقة بأناشيد مقدسية ، تتبعهم حشود من ضياء القلوب وشرارة الألسنة، تنثر الأشجار والأحجار والأطيار بنور الحياة، وتنتظر شمسا آتية من أقصى المغيب، يرافقها صهيل الأحصنة، وصليل الأسلحة، تلك أقمار الله ومصابيح تشرق على ظلمة البلاد العربية…
( لاشيء يأتي
موت هنا وهناك
لا شيء يغري
خراب يتكئ على الخراب
ولاشيء في الأفق يعلو على صوت المجازر
حروب تسلّم الجثامين للحروب القادمة ولا تخجل مقابر تفتح أشداقها ولا تشبع
ولاشيء يزرع الطريق بورد الحياة
حدائق تغدو حرائق
ولاشيء يطرق باب الحق
ضاع النهر في مجراه
والصحراء تقرأ عزلتها وتسري في عروق البلاد
عطشاً يؤرّخ سيرة السبات….
(7)
لغزّة أن تلبّي نداء الأرض، وأن تخلع من أفنان الليمون والزيتون والأعشاب البرّية، والسفوح المحاطة بزغاريد الأمهات بين دروب وسهول وبساتين وغابات ووديان وجبال أمنا فلسطين،الغراب الجاثم على صدرها، آن لها الآن أن ترفع رأسها الشامخ دائما وتفتح أرضها للشهداء وللموسيقى القادمة من الآتي والحاضر والماضي، وتطوّق الغبار والركام والأنقاض بالفجر الجديد، وتقود حشود الشهداء إلى جنان الخلود بقلب مطمئن ويقين ثابت، وأن تعبّد الطريق إلى القدس بشموس مشرقة من رماد التاريخ، وتضيء اليل العربي بما تيسّر من صمود ومقاومة وتحدٍّ.
لغزّة أن تطرد الجبن من قلوب حكامنا، من خوفهم من خنزير يهاب من ظلّه، وتمضي كينابيع تحفر مجاريها دون كلل أو ملل، موزعة الظلال ونكهة الغلال، ولذة المذاق على ألسنتهم التي اجتاحها عيّ الأفعال والمواقف. لغزّة أن تطفئ ليل الخنزير بقنديل الأسُود المتأهبة لافتراس الظلم والجور، الاحتلال والقتلة، الظامئة لدم الصهاينة، القادرة على اقتلاع أشواكهم الموخزة أرض الميعاد، حيث أرض السلم والسلام والأنبياء، أرض المحبة والتعايش والأخلاق الحميدة، أرض ممتدة من آخر بحر إلى أوّل محيط، تعلن غدا جديدا…
لغزّة أن تدكّ المدى بصواريخ الامل ، وتزرع الارض بفخاخ الرهبة، وتنثر ورد الإصرار على جحافل الآتي ولا ترتعب من رعديد جبان…
( لغزة أن تهشم عقارب الوقت
وتقلب معادلة الجبال
وتغيّر خرائط الغراب
وتدوّن تاريخ الفصول
وتضيء الطريق إلى أول البيت وآخره
وترفع أكفّ القباب تغاريد تمجّد نوراً
يأتي من آخر الأنفاق والآفاق
وتبزغ القدس مهلّلة بتسابيح الصوامع ومعمّدة بأجراس الكنائس
ولا صوت يعلو على صوت اليقين
ولا يد تعلو فوق يد الله…