في معنى الكتابة

يعد فعل الكتابة فعلا فرديا لا ينوب فيه شخص عن الآخر تماما كالموت والحياة. فعل يراهن على اقتسام المتعة والمعرفة ونشرهما على الملأ. صحيح جدا أننا لا نعرف من سيلتقط الرسالة ولا حجم تأثيرها، لكن هذه المجهولية تشترط أن تقوي من عزيمة الكاتب في مواصلة الكتابة لا العكس.
تاريخيا باكتشاف الكتابة- قبل حوالي خمسة آلاف سنة- دخل الإنسان التاريخ حيث اقترن حضورها بخطوط السحرة وتعزيمات الكهنة، وكانت لها سلط لا قرار لها.. غير أنها سلط تراجعت بانتشار التعليم والوعي، فجاءت الكتابة كبديل عن الذاكرة وأصبحنا نقول:» التذكر فعل خروج لنزهة صيد، أما الكتابة ففعل احتفاء بالطريدة بين يديك.» فقط يبدو هذا التعريف الأولي للكتابة مطمئنا أكثر من اللزوم؛ الأمر الذي يشترط طرح الأسئلة التالية:
ترى هل نكتب للبوح أم للكتمان؟ للكلام أم للصمت؟ وهل نكتب لنهرب من، أم لنهرب إلى؟وهل الكتابة ستر أم فضح؟ وألا يكتب البعض ليعيش حياة من ورق؟ وألا نكرر ذواتنا بكتابة عالم تم تكلمه؟ وألا نكون قد أضعنا الحقيقة عندما اكتشفنا اللغة تحديدا لقول العالم لغويا عوض عيشه؟ وهل حقا أن الكتابة سلطة تطوع الزمان والمكان بحيث تجعل المبعد قريبا والماضي حاضرا؟ وهل حقا أن الكتابة في بعدها النفسي بحث عن إثارة الإعجاب وانتزاع الاعتراف من الآخر؟ وإذا كانت كذلك ألا تضمر سلطا بالجوار إذ لا يمكن للكاتب إثارة الإعجاب دون ممارسة سلطة الهيمنة.. إذ واهم من يعتقد أن الكاتب يريد أن يتواصل فقط بقدر بحثه عن السيادة. وهل نحن أحرار لحظة الكتابة أم نحن محكومون بالسقف الأخلاقي والسياسي والاجتماعي؟ وما معنى الإقامة في اللغة، أليس هذا الفعل ترجمة لرغبة البقاء بعد أن يتفسخ الجسد ويغادر فسحة الحياة الفيزيقية؟
في الواقع الكتابة تبدو في الغالب مواجهة خيبة ما أو تجلية حقيقة أو دفع هزيمة وشيكة أو تسجيل موقف. ووضوح الرؤية بالنتيجة شرط أساسي لتحقيق انسجام المشروع الكتابي للكاتب غير أن الكتابة أحيانا تقدم نفسها كفعل اكتشاف للذات.. فأحيانا لا يعرف المبدع نهاية نصوصه.. والكتابة بمعناها الأدبي هي فعل يعرفنا على ذاك الآخر الذي يسكننا ولا نكتشفه إلا في قراءة الأثر. الكاتب بالنتيجة هو من يحملك على مراجعة ما ترسخ لديك من معارف.. والكتابة هي أكثر من ترك أثر على الورق، هي بالأساس ترك أثر في الإنسان أولا وأخيرا. فكل كتابة لا تحمل القارئ على مراجعة ما تكرس لديه من مسلمات ليست كتابة. هي أشبه بجمرة متوقدة دوما ومحاورة أبدية للذات بنية تجاوز حالة الاطمئنان الزائف للمعرفة الحاصلة. الكتابة فعل صدامي لا يهادن وممارسة تحريضية على التطور والانعتاق. بهذا المعنى فقط يمكن اعتبارها حفرا في اتجاه العمق وهروبا من السطح واقتراح حياة بديلة عن حياة الواقع المفروض علينا.. ولهذا نجد الكاتب دائما في حالة خصام مع واقعه. الكتابة بهذه الخلفية صلاة يلزمها الكثير من الإيمان ليصل صدقها للقارئ. هي حرث لتشجير الصحاري التي تحاصرنا. فعل يضرب أرض الألفة بدهشة السؤال. وسيط لحماية رغبتنا اللاواعي من القمع والكبت. لعبة لنسيان ذاك الألم القادم من المستقبل: أقصد الموت. هي علاج ووسيط لعقد مصالحة مرحلية مع الذات سيما إذا علمنا أنها فعل يبدأ لكيلا ينتهي.. فأجمل نص للمبدع يظل شبحا في ذاكرته حيث يقال أجمل قوس قزح هو ما في مخيلتي لا ما في الواقع. بهذا المعنى الكتابة هي الفوضى الممكنة لإعادة ترتيب العالم وفق اشتهاءات المبدع. الكتابة تعويض عن جرح النقص والحاجة التي تدخل في صميم التركيبة الأنطولوجية للإنسان.
إن انتصارنا لأسئلة الكتابة بدل أجوبتها نابع من كون الكتابة المشككة والقلقة تخلخل اطمئنان القارئ وتحمله على مراجعة ما تكرس لديه في كل مرة. لكن علينا هنا ألا نعتبر أن تحقق هذا الأمر يتم حصرا بالكتابة.. وماذا يمكننا القول عن سقراط الذي لم يترك أثرا كتابيا؟ وكأني به يقول لنا أن وظيفة المفكر هي تعليم الناس فن الحياة أولا. بالنتيجة كل من سار في أفق التجربة الدرامية لسقراط يعتبر الكتابة إعدام للصوت وتغييب للجسد وحضور للكاتب في غيابه. يقول الناقد الفرنسي رولان بارت في ذات السياق»الكتابة ليست شيئا سوى بقايا الأشياء الفقيرة للأشياء الرائعة والجميلة في دواخلنا.»وهنا يمكننا الحديث عن مكتوب الغياب مقابل منطوق الحضور.. لكن رغم كل هذا يبقى الأثر المكتوب مرافقا لنا منذ لحظة الولادة به نسمى ونوثق تاريخ الميلاد، وبه نودع الحياة من خلال شاهد القبر. وخلافا للكتابة في بعدها الحسي كلحظة التقاء القلم بالورقة العارية من أية وسيلة دفاعية. ذهب جاد دريدا إلى اعتبار علم الكتابة فرعا من فروع الفلسفة مستثمرا الأفكار المضيئة لموريس بلانشو الذي تحدث عن وجود اللاأدب في قلب الأدب، وبالتالي وجب التخلص من التسميات المعيارية كالحديث عن الفنون الجميلة في القرن الثامن عشر، أو الأدب في القرن التاسع عشر وبات الحديث اليوم عن الكتابة بتجرد واضح.. فباجتراح جاك دريدا مفهوم الكتابة قصد تخليص الأثر الأدبي من خلفيته الغيبية حيث كان الحديث عن شياطين الشعراء في السياق العربي، وآلهة الإبداع في السياق اليوناني.. وعلى امتداد تاريخ الكتابة الطويل يبقى السؤال المربك هو: هل يموت الكتاب حقا؟
يقال عادة:» إن الكتاب لا يموتون لسبب بسيط أن كتاباتهم تخلدهم في ذاكرة التاريخ». فالكتابة تجعل عبثية الحياة محتملة.. بها فقط نلطف من الطابع التدميري للموت. صحيح جدا أن الإنسان مخلوق متناه وعابر لكن عظمته تتمثل في تقبله لوضعه الإنساني المحدود في الزمان والمكان. وبالكتابة أساسا نشبع الموت حياة. ليس ثمة وسيلة للتجوال في ردهات الموت سوى الكتابة من خلال نفق الحلم أو الأسطورة. فإذا كان الحلم هو أسطورة الفرد، فإن الأسطورة هي حلم الجماعة. ولهذا بالذات يتم الاحتفاء بالمتخيل كجسر ملكي لتأمل الموت إذ لم يحدث أن مات شخص وعاد لنعرف ماذا هناك. لكن في الأسطورة مثلا نعلم أن هرمس ابن زوس إله الحظ كان رسول الآلهة ومرافق الأرواح إلى عالم الموت البشري.. علما أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي أنه سيموت، فالموت بالنسبة للحيوان مثلا لا معنى له..
وبالعودة إلى تجربة الكتابة عن الموت نفاجأ بأن الكثير من الكتاب والشعراء كتبوا فقط عن موت الآخرين ونادرا ما كتبوا عن موتهم المحتمل. هل لأن الحديث عن الموت لا يكون إلا بصيغة الغائب كقولنا: آه لقد مات. وقبل هذا وذاك: هل كتابة الموت شيء ممكن؟أليس الموت كانفصال لحظة تقع خارج المعنى لأنها انتفاء لكل خطاب؟ وهل حقا أن الموت وحده يقول حقيقة الحياة؟ قديما قال كونفسيوس:»إننا لا نعرف أي شيء عن الحياة فما بالك بالموت؟»
إن تأمل الموت من داخل الكتابة يجعله أقل صدمة وإيلاما لأننا في عالم الأدب نستطيع رسم شخصية لا تخشى الموت وتعرف كيف تختار المنية التي تناسبها، وأخرى لا تخشى الموت ولكنها تختاره لغيرها.. لكن كيف السبيل لجعل الموت راقدا بداخلنا أطول مدة ممكنة؟ وما الطريق لجعل حياتنا أكثر توهجا وامتدادا؟ هل تتوفق حقا الكتابة في تضميد جراحها؟ أعتقد أننا بكتابة الموت نقوي التضامن بيننا نحن الأحياء. وبكتابة الموت نقلل من صدمة رؤية جثة الميت التي تجسد اللحظات القصوى لاكتمال القسوة. فإذا كانت الإقامة البيولوجية في الموت مستحيلة لأن العقل يرتفع والجسد يتحلل، فإن الكتابة تمنحنا حظوة مصاحبة الموت باعتباره الدرجة الصفر في التلذذ..

(*) الناقد الأدبي.


الكاتب : محمد رمصيص (*)

  

بتاريخ : 24/01/2025