في مقهى «الأندلسية» بالقاهرة وعندك قهوة زيادة وشيشة للبيه الأفندي المغربي

 

1 – “اتْعَمَل لي عمل بالقهوة”

تم افتتاح مقهى “الأندلسية ” سنة 1992، وهي السنة التي صادفت أول زيارة لي للقاهرة حين دُعيت لتغطية الدورة 16 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي. تقع وسط البلد  في شارع 26 يونيو رقم 15 بالضبط أمام أو بالأحرى خلف فندق “جراند أوتيل” الذي يوجد مدخله الرئيسي في مواجهة القهوة. هذا الفندق هو الذي جعلني أكتشفها حين قررت إضافة بضعة أيام بعد انقضاء فترة الإقامة بفندق مهرجان القاهرة السينمائي “شيراتون الجزيرة” الذي تحول الآن إلى “سوفيتيل الجزيرة” لوجوده في جزيرة صغيرة وسط النيل، ذي تصميم دائري يجعلك تطل على النيل من أي طابق ومن شرفة أية غرفة. وذلك من أجل مزيد من الاكتشافات والحوارات التي أنجزت بمصر خلال زيارتي الأولى تلك، فكتبت في “قهوة الأندلسية” الشيء الكثير سواء كتغطيات صحفية أو حوارات أو مذكرات كنت أدونها يوميا، ومنها أينع كتابي “مصر بالأبيض والأسود، قراءة مغربية في عين المكان”.
يعود فضل اكتشاف هذا الفضاء إلى الزميل والصديق الناقد السينمائي المرحوم سيد سعيد، فهو الذي أخذني للإقامة بالفندق  حيث أصبحت مدمنا على تناول قهوتي الصباحية “بسكر زيادة” ومدخنا حجرين بالشيشة حتى ثلاثة “بالأندلسية”. والواقع أنني لم أتعاط طيلة حياتي للتدخين لا شيشة ولا سجاير، وحتى الآن لا أتناول هذا المشروب المدوّي إلا في قهوة “الأندلسية” حين أذهب لمصر، إذ أجدني تلقائيا منساقا وكأنني مخدر، أو على حد تعبير إخواننا المصريين: “اتْعمل لي عمل بالقهوة دي”. فلا أرتاح أو أصوغ مقالا أو خاطرة إلا إذا تناولت قهوتي والتي أصبحت حاليا “سادة” بدون سكر، لانقطاعي عن تحلية مشروباتي الساخنة بجميع أنواعها.
ففي إحدى الصباحات وأنا أدون يومياتي غير بعيد عن مدير القهوة آنذاك عمّ علي الذي توفي رحمة الله عليه سنة 2015، سألني حين عاين أكسسوارات اشتغالي من كاميرا تصوير وآلة تسجيل صغيرة حيث كنت أفرغ الحوارات، زائد القلم والورق طبعا، ثم إدماني على القهوة الزيادة والكتابة  دون شيشة بعد:
– لا مؤاخذة يا بيه، هو حضرتك صحفي؟
– نعم.
فسأل: “أهرام” ؟ “أخبار” ؟ “جمهورية” ؟ “وفد”؟
– لا، أنا صحفي مغربي
فتهلل وجه عمّ علي الكامل الاستدارة، تحف بذقنه لحية خفيفة لم يبْتَلِ بتمرير يده عليها أو بهرشها من حين لآخر كما يفعل كثيرون. الرجل كان هادئا صموتا قلّما تسمع له صوتا أو يعطي أمرا. لكنه هش وبصوت ملأ فضاء القهوة الداخلي:
– يا أهلا ومرحبا، احنا بنحب المغرب والملك الحسن، ملك المغرب.. ونحب الفنان عبد الوهاب الدكالي وسميرة سعيد وعزيز بدربالة والتَّيْمومي  وهشام الگروج ونوال المتوكل،  ياه.. بلدكم حلو آوي. قهوتك إيه أستاذ؟
– لا شكرا عمّ علي، لقد تناولتها. ثم أردفت ضاحكا: “وزيادة كمان”.
فقال بسرعة وبحزم:
– لا القهوة دي على حساب المحل. انت ضيفنا ولازم نكرمك.
وقبل أن أفتح فاهي للرد، صاح بصبي القهوة أحمد فاروق، شاب في الثانية والعشرين من عمره آنذاك، فيه شبه من أحمد زكي في طوله وسمرته:
– هات قهوة زيادة وشيشة للبيه الافندي المغربي.
فرد أحمد بدوره وبصوت أعلى منغم وكأنه يؤدي موالا، نفس العبارة التي ستلازمني لسنوات بهذه قهوة بالذات، إذ غدوت كلما وضعت رجلي بمدخلها يصيح أي نادل بها:
–  وعندك قهوة زيادة وشيشة للبيه الافندي المغربي.
فأسمع ردا من آخر غالبا ما لا أحدد موقعه:
– أيوا جاي
لكني قلت لعمّ علي في حياء:
– عفوا عمّ علي، أنا لا أدخن الشيشة.
فاهتز جسمه الثخين بضحكة مواربة وهو يقول:
– الله، ومن قال لك دخّن؟ انت حتشرب. ثم إزاي تجي مصر وما تشربش شيشة؟ الشيشة دي يا ابني حتعدل دماغك وتخلّيك تكتب وانت رايق، بعدها انفجر ضاحكا.
ومنذ ذلك اليوم، ذلك الشهر وتلك السنة، وعلى مدار 32 سنة تعودت على شرب الشيشة،  لكن فقط بالأندلسية، وكثيرا ما أكتفي بحجر واحد وقهوة أو شاي من غير سكر، فالسن لم تعد تسمح بالإفراط في أي شيء. وأضحى هذا التناول لكلا المشروبين مجرد عادة أو طقس من طقوس الحلول بهذه القهوة وإحياء صلة رحم معها.
2 – فضاء تأملي
تعود ملكية قهوة “الأندلسية”  لصاحبها المصري السيد مصطفى فهمي الذي كان يقيم بالسعودية، بينما كان يتولى إدارتها أخوه محمود فهمي. وبوفاته حل محله ولداه محمد وأحمد محمود فهمي اللذين لا زالا يديران القهوة بالتناوب.
رغم عدم شهرة قهوة الأندلسية مثل بقية مقاهي القاهرة (الفيشاوي، زهرة البستان، ريش، الأتولييه…) إلا أنه كان  يجلس فيها بدورها رهط من رجال السياسة والصحافة والفنانين كما تم تصوير بضعة أفلام بها. من بين الرياضيين الذين كانوا يرتادونها ذكر أحمد فاروق: مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك واللاعب السابق لنفس النادي إبراهيم يوسف. من رجال السياسية  وزير الثقافة المصري السابق حلمي النمنم وهو كاتب صحفي، ومؤرخ مصري مهتم بالقضايا التاريخية والسياسية والاسلامية. من الفنانين المخرج أسامة عبد العزيز ورسام الكاريكاتور الشهير جورج البهجوري. ومن الصحفيين جمال عبد الرحيم من جريدة “الجمهورية”.
أما الأفلام التي صورت لقطات بها فهي: (ضربة شمس) أول فيلم روائي طويل يخرجه محمد خان سنة 1980 من بطولة نور الشريف – (الحرّيف) سيناريو بشير الديك، إخراج محمد خان أيضا وبطولة عادل إمام 1983-  و(شُرُم بُرُم) فيلم كوميدي فنتازي لرأفت الميهي وبطولة خالد صالح سنة 2001.
وبالتالي فأنا لم أصبح مدمنا على قهوة الأندلسية وشرابها، فقط لأن عددا من المشاهير الفنية، الإعلامية والسياسية كانوا يرتادونها، فهذه معلومة سأكتشفها لاحقا، بل لأنني بمجرد جلوسي فيها لأول مرة استهواني فضاؤها، تملكني دفؤها، وأسرني هدوءها، إذ هي غير منفتحة عل الشارع حيث لا يصلك هدير السيارات ولا زعيق أبواقها ولا صياح الباعة.
هي منزوية وراء فندق “جراند أوتيل” تفصل بينه وبينها نافورة مياه ترفرف أمامها بضعة أعلام لدول مختلفة وتحف بها بضعة أشجار وأغراس خضراء تكسب الفضاء برمته حلة شاعرية تحفز على التركيز والكتابة، وفيها يمكن أخذ قسط راحة بعيدا عن صخب القاهرة وضوضائها. هو فضاء تأملي وإبداعي لم ولا تتيحه لي بقية المقاهي المرتبطة بالكتابة والإبداع مباشرة على رأسها قهوة “الفيشاوي” حيث كتب نجيب محفوظ ثلاثيته، فهذه غدت مزارا سياحيا لا غير، ولا “زهرة البستان” وإن كان ما زال يرتادها كتاب وصحفيون إلا أن وجودها في العراء لا يحقق لي شخصيا دفء وهدوء الكتابة.
قهوة “الأندلسية” هذه غدت تربطني بها علاقة حميمية ومع جميع مستخدميها ماضيا وحاضرا، منهم على الخصوص أحمد فاروق الذي أصبح له من العمر حاليا  54 سنة فابيضّ جزء كبير من شعر رأسه وذقنه. ثم المرحومين عمِّ علي ومحمد بيومي، هذا الأخير كان يعد الشاي والقهوة على متن الفحم الطبيعي وكانت تعتريه فرحة طفل لمّا أنفحه بنشرات المهرجان ليتفرج على صور الفنانين بها، فكان يسألني بمجرد جلوسي وطلب “قهوتي الزيادة” التي يحضرها بنفسه أحيانا:
– فيه مجلات أستاذ خالد؟
قهوة “الأندلسية” بشكل أو بآخر مصدر وحيي وإلهامي بالقاهرة. يكفي أنه بحضنها أنجبت كتابي الأول عن مصر سنة 1996. كما صغت مقدمة الكتاب الثاني عنها سنة 2024 الذي هو قيد الطبع حاليا ومنه استقيت هذه المادة.

 


الكاتب :  نورس البريجة: خالد الخضري

  

بتاريخ : 28/03/2025