في ندوة لبيت الشعر بفاس حول «العلاقة بين الشعر والتاريخ»

على الشاعر وهو يكتب نصه أن يموقعه داخل الزمن وخارجه

 

برحاب جامعة سيدي محمد بن عبد الله العتيدة، وفي ضيافة كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس، التأمت نخبة من الباحثين والأكاديميين والشعراء والنقاد من أجل ملامسة العلاقة بين الشعر والتاريخ، في أفق استغوار تفاصيلها، والكشف عن خلفياتها، ورهاناتها الثقافية والشعرية. جلسات علمية دسمة في غناها، جادة وعميقة في تصوراتها، قاربت في مجملها إشكالية الشعر والتاريخ من زوايا مختلفة نظرية وتطبيقية: «التاريخ والخيال :علاقة المؤرخ بالشعر»، «الشعر والتاريخ :قضايا نظرية ونقدية»، «الشعر والتاريخ :مقاربات نصية». قضايا قاربها السادة الأساتذة: ذة. العالية ماء العينين، لطيفة بلخير، عبد الله الغواسلي المراكشي ،إبراهيم الحيسن، محمد علوط، محمد بودويك ، محمد الشرقاني الحسني. هنا الجزء الثاني والأخير :

اعتبر د . محمد الشرقاني الحسني العلاقة بين الشعر والتاريخ ،علاقة متلازمة قائمة على التساكن والتعايش، وسيظل واهما من يعتقد غير ذلك». وأضاف أستاذ التعليم العالي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس «إن كل منجز تخيلي مبني على التجربة الذاتية ،إضافة إلى استقراء الشواهد التاريخية بكل أصنافها يكون الشعر لا نهاية له مثله مثل التاريخ. وأشار د .الشرقاني في مداخلته «تقاطعات الشعري والتاريخي في الشعر المغربي الحديث « إلى مساهمة الشعر في بناء الخبر التاريخي ودعمه بمعلومات جمالية تتراوح بين السرد و الخبر المدهش، والبلاغة التصويرية، ليخلص في النهاية إلى أن الشعر كان المسجل لأحداث سياسية واجتماعية وثقافية كثيرة، نبتت في صميم المجتمع العربي وصورته تصويرا واقعيا بقدر ما يستغيث بالخيال يغرق في تفاصيل الحياة ومداراتها.
د . عبد الله الغواسلي المراكشي أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس تناول في مداخلته علاقة الشعر بالتاريخ من خلال شروح الشعر القديم، حيث تناول الباحث هذا الجانب عند أحد أبرز شراح شعر أبي تمام، ألا وهو محمد بن يحيى أبو بكر الصولي المتوفى سنة 335هجرية. وقد حاول الباحث أن يرصد بصفة خاصة المقام الخارجي في هذه الشروح، المرتبط بالتاريخ الذي يعرض فيه الشارح لأحداث شكلت حافزا من حوافز القول الشعري وباعثا عليه، مؤكدا إمكانية الوقوف خلال هذا المقام من خلال الشرح على نوعين من الأحداث، خاصة وعامة. وخلص الدكتور المراكشي إلى أن هذه وتلك وظيفتها واحدة،هي إضاءة النص معنى ومقاصد. فالشارح لا يؤرخ لغاية التأريخ فقط، بل يروم خدمة ( الفن) ممثلا في الشعر. وبهذا المعنى يكون الشارح هو المتمكن من زمن القول أحداثا وأياما. فالشاعر برأي د. الغواسلي ينشئ والشارح يحين، فيربط القول بلحظته».
من جهته استهل الدكتور محمد بودويك مداخلته « بين الشعر والتاريخ : جدل الطاعة والنشوز» بتسليط الضوء اللغوي على العنوان، الذي يعبق برائحة فقهية، لكن المداخلة ستعمل على تعرية الاصطلاح من بعده الفقهي مكتفية بإحالته اللغوية المحدودة . وإذا كانت الطاعة تعني في ما تعنيه الطوع والطاعة والتطوع والخضوع والطواعية والاستجابة الفورية والتحاصن المفترض بين الشعر والتاريخ، فإن النشوز في حده اللغوي والمعنوي الذي لا يتخطى البعد والابتعاد والهجران والارتفاع وهو ما تنهض به وتؤديه بعذوبة وشموخ بعض النصوص التاريخية المشهودة ، يقول بودويك، قبل أن يضيف أن بداية فعل التاريخ في الشعر عند قلب المعيار واختلاف الأذواق والحساسيات بفعل التطور الثقافي والحضاري والاجتماعي والإبستيمي أولا وأخيرا «. واستطرد متسائلا ألا يعني ذلك أن الشعر وجود، بينما التاريخ رجع وصدى ؟ واستحضر في السياق ذاته قولة جديدة وبديعة للشيخ الأكبر ابن عربي «إن وظيفة الخيال الأولى هي التحرش بالمحال» ويصل الشاعر بودويك إلى القول « إن علاقة الشعر بالتاريخ إنما تقوم وتنهض متوترة بالمعنى الإيجابي الخلاق لكلمة توتر ، تنهض هذه العلاقة كذلك على قاعدة التحول وقاعدة التنظيم الذاتي ،أي أن النص الشعري يتطور من حيث اللغة والأسلوب والخيال والثقافة التي تسنده عبر متوالية زمنية ممتدة «.
وفيما تتضمن القاعدة الأولى نظاما مفتوحا،ديدنه التقدم والصيرورة، نجد القاعدة الثانية تتضمن نظاما مغلقا يحيل على نفسه ويتسرنق على ذيله كحية الأوروبروس.. إن ما يكتب الآن من شعر يجري في هذا ،أي في سياق ومساق ما حللنا وفككنا ،ويستجيب لدعوانا وتصورنا . ويخلص إلى دعوة الشاعر التسلح بالوعي وهو ينتدب نفسه حارسا لعظمة الشعر وسارقا لناره، مكتويا بها إلى العظم ، أن يعي دوره ويعي فعله ،وهو يكتب نصه ويموقعه داخل الزمن وخارجه.
مداخلة الشاعر والناقد محمد علوط بعنوان «التاريخ في مسكن الاستعارة رؤيا الاستعاريّ المفارق في شعر محمود درويش « جاءت عميقة متعددة الإحالات ومفعمة بالمصادر والمراجع العربية والأجنبية. وقد انطلق محمد علوط من الاستدلال الشّعري المقتبس من ديوان : «أحد عشر كوكبا « لمحمود درويش» لم يبق في الأرض متسع للقصيدة يا صحبي، فهل في القصيدة متّسع بعد للأرض بعد العراق؟ معتبرا المحمول المجازيّ الرمزيّ لهذا النّص يتأسّس على قلب للمعادلة:البحث عن كينونة شعرية في التاريخ بإبدال استعاريّ، وهو البحث عن كينونة تاريخية في الشّعر وهما منطلقان يختلفــــان في المقدمات والنتائج كما يختلفان من حيث الأساس التّصوريّ الإدراكي».
وبرأي الناقد علوط، فإن كتاب الحسين لغوالي «الشعر والتاريخ»، يأتي كمثال جلي في اعتبار التاريخ وعاء لـ «حفظ» الكينونة الشعرية» لأنه برأي الناقد يعتمد قياسات منهجية تقوم على نسق المماثلة بين الشّعر والتاريخ، سواء في أدبيات ومسلكيات تاريخ الأدب أو الدّرس النّقدي الذي اعتمد المنهج التاريخي والاجتماعي، وكذلك المنهج الواقعي في قراءة المتون الشعرية. وأشار علوط إلى استدلالات إدوارد كار في كتابه «ما هو التاريخ»، ليؤكد أن تجريد الشّعر من حقيقة كونه واقعة تاريخيّة ذات محايثة أنطولوجية مع الواقع التّاريخي، يترتب عنه أن كل تمثيل انتقائي للواقعة الشّعريّة ينتهي بها إلى مستوى الأمثولة كمعرفة أليجورية بسبب وقع قياس الانتقاء والاخترال والمماثلة».
ويتماهى الناقد علوط على الضّفة الموازية مع الذين يفسّرون الشعر بالتّاريخ، بموازاة لاشيء يمنعنا من أن تفسّر التّاريخ بالشعر. ويورد في السياق ذاته «الشرح الذي قدمه إدوارد كار لمفهوم الواقعة التاريخية حين قول إحدى شخصيات بيرانديلو (Pirandello) في مسرحيته «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» تقول : «إن الوقائع كالحقائب لن تستقيم إلا أن وضعت شيئا بداخلها». يتغير وعينا بالتّاريخ حين نفرغ تلك الحقائب ونضع أشياء أخرى فيها . والواقع أنّ هذه المهمة : مهمة تغيير مرجعيّة التّاريخ ووظيفته وتأويله مهمة يجب أن تكون مهمة تأسيسية، وهذا ما يفضــــي بنا برأي علوط إلى عمق الأسئلة الهايدغريّة التي تعتبر أن تاريخانية الفن لا تنحصر بكونه دائما ملتصقا بعالم تاريخي معيّن، أي بكونه راسخا دائما في سياق ما (وهذا مالا ينكره أحد) خاصيّته تكمن بالأحرى في وظيفته التأسيسية بالنسبة لهذا العالم، ويعني ذلك في الحقيقة الإصرار على أنّه يفتح المصير التّاريخي لشعب ما».
ويخلص الناقد إلى أن علاقة الشّعر بالتاريخ ظلت السّناد المرجعي الّذي أفرز التّمثّلات المعرفية الأدبية لتحديد مفهوم الشّعر ووظيفته، وتحديد ماهية الأنواع الشعرية والخطابية وأجناسيتها ، وبناء التمثلات البلاغية للخيال، ودور الاستعارة وعلاقتها بالتخييل الشعري وتمثيل المحاكاة.
دة. لطيفة بلخير أستاذة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز في مداخلتها – «شعـــر الإلياذة أوالتــاريخ المحفــوظ» اعتبرت الإلياذة تجسيدا للتاريخ الفعال الذي يمكن الباحث الأنثروبولوجي المهتم بدراسة الملاحم أن يشرح ويفسر ويؤول العلاقة الجدلية بين خيال الملحمة والأحداث التاريخية الحقيقية، بل قد ينظر إليها باعتبارها مدونة ناطقة بالمعارف والأنساق الثقافية والعلاقات الاجتماعية والعرفية والأخلاقية السائدة. كما قدمت أرسطو باعتباره أول من ناقش في تفكيره النقدي العلاقة بين الشعر والتاريخ، والشعر والحقيقة، جاعلا من الشعر الفن «الألصق بالحقيقة من التاريخ»، عكس «أفلاطون الذي اعتبر الشعر اكتشافا صادرا عن تذكر الخبرات الماضية المكتسبة بفعل مشاركتنا للمثل».»
وأوردت في ذات السياق ربط ابن خلدون التاريخ بفائدة الاقتداء،مع يوهان فولفجانج فون غوته الذي بين في سيرته الذاتية المعنونة بالشعر والحقيقة ،أن الرؤية التاريخية رؤية لا يستغنى عنها من حيث كونها معينا على المعرفة، تضيف د لطيفة بلخير « غوته أشار إلى ضرورة الربط بين التقييم والنظرة التاريخية، لأنه عاش خلال نهاية القرن الثامن عشر جوا مفعما بتاريخ الفن . فالأصيل عند جوته يمكن أن يرتفع ويحافظ عليه عن طريق جرد تاريخي ،والزائف يمكن الحط من شأنه وتبديده بجرد تاريخي كذلك. ولقد استحوذ التاريخي على فكر وعبقرية غوته لدرجة أسمى معها التاريخ «بنشيد تمجيد البشرية ببنيان محكم». وبرأي الدكتورة لطيفة دائما فإن لشعر الإلياذة الفضل في مساعدة الباحثين في التاريخ على ارتياد الحقيقة بوساطة فنية، بل له القدرة على التغلغل في سبر أحوال الماضي بوعي يراوح بين الواقع والخيال المتماهيين في تشكيل الوعي بالحاضر واستشراف المستقبل.» فالفن إذن حري بصناعة التاريخ لكونه يؤثر فينا. أما في كتاب «الحقيقة والمنهج» فيقدم غادامر رؤية مغايرة وفهما بديلا للطرح الأرسطي، وهذا يعني أن التعرف على أنفسنا لا يحدث إلا من خلال التعرف على تاريخنا.» تستنتج بلخير.
وفي تقديمها لشرح أهمية ملحمة الإلياذة كنموذج لهذه المقاربة ،تؤكد المحاضرة أن العلاقة بين التاريخ والشعر علاقة تفاعلية، لأنها تعكس ما علق في الذاكرة من معارف وإنجازات عظيمة، حيث يسترجع الشاعر هوميروس بوساطتها الموروثات التي تنتج نوعا من المعرفة المتناسلة، لا سيما أن «حجم التاريخ المحفوظ يكبر باستمرار..وتخلص الدكتورة لطيفة بلخير إلى أن» الإلياذة هي الماضي، الحاضر في العقل والذاكرة والوعي واللاوعي، فهي تجسيد للتاريخ بالمعنى الذهني باعتباره «ماضيا يستنبط في كل لحظة من الآثار القائمة أو بعبارة أخرى إن موضوع التاريخ هو الماضي الذي هو حاضر.
من جهتها الدكتورة العالية ماء العينين في مداخلتها «الشعر وكتابة التاريخ المعتمد ابن عباد نموذجا» اعتبرت النموذج الأندلسي أرضا صالحة ومناسبة للعلاقة بين الشعر والتاريخ، من زاوية المؤرخ وزاوية الشاعر» د. العالية اختارت أن تكون مقاربتها انطلاقا من النص الشعري والشاعر في اتجاه التاريخ، مؤشرة على مرحلة تعتبر من المراحل المهمة في تاريخ الاندلس، حقبة يبرز فيها المعتمد ابن عباد ملك اشبيلية كشخصية تاريخية سياسية وكشاعر كبير له أثره في الأدب الاندلسي « حقبة أهم ما ميزها تضيف د العالية « كثرة الأحداث المتسارعة والمتضاربة، وتشتت الأندلس وتفكك أوصالها بين دويلات، بعد أن بقيت لأربعة قرون تحت الخلافة الأموية والدولة العامرية.
وبعد أن استعرضت أهم المحطات والصفات التي ميزت المعتمد، استطردت متسائلة : لماذا أخذت سيرة المعتمد بن عباد هذا المنحى؟ وهل السر يكمن في كون الشاعر لبس قبعة المؤرخ ؟ لماذا تميزت سيرة المعتمد عن غيره من ملوك الطوائف؟ هل فعلا كان استثناء في الواقع، أم أن استثنائيته من فعل « المؤرخين؟ إلى أي مدى ساهم شعره في صنع شخصيته؟ وفي معرض إجابتها، أوضحت د. العالية أن المعتمد شخصية أندلسية حاضرة في الذاكرة العربية والإسلامية. شخصية ملحمية تكاد تكون أسطورية بحضورها التراجيدي»، وهو إلى جانب ذلك من ملوك الطوائف، الأقوياء باعتبار قوة مملكته وغناها وأهميتها. وهو أيضا شاعر كان يحب الشعراء ويحيط نفسه بهم.
وأشارت المحاضرة إلى بداية المعتمد كتابة سيرته الشخصية (تاريخه) منذ أول خطوة في المرحلة الثانية من حياته(الأسر) كأنه يعي جيدا بأن شعره هو ما سيخلِّده التاريخ ( العام) وأنه كلما أبدع في شعره كلما كان أقدر على إقناع التاريخ بتبني زاوية نظره. فكانت البداية مع المواجهة بين المعتمد ويوسف بن تاشفين وصورة البطل الذي لم يستسلم. قصيدته « قالو الخضوع سياسة»، نجد الكثير من المؤرخين لحياة المعتمد يشرحون أبياتها على أساس سيرته (مجزوء الكامل) وبين البداية والنهاية، يقدم المعتمد رصدا لحياته في الأسر، تعتمد زوايا يتم فيها توظيف صور تنجح في إثارة التعاطف والأسى وربما الغضب، على من تسببوا في هذه « النكبة» (الثُّكل – انقلاب الحال- البكاء على حال البنات – عدم القدرة على العطاء/ الشعراء- الغربة….) وتخلص الدكتورة العالية إلى إن ما قام به المعتمد بن عباد من خلال شعره، جعلنا نتعامل مع التاريخ كواقع حي ينبض ويحتم علينا التفاعل معه ومعايشة تفاصيله. بدل أن نتحدث عن الحرب والانتصار وعدد القتلى، ونمر بدون «وجل»، فإن أشعار المعتمد تجعلنا نتأمل أو ننجرف مع مصائر الشخصيات التي عادة ما تكون ثانوية في الحكاية التاريخية. (المعتمد الإنسان، اعتماد، الأبناء، البنات، اليومي….) وقد ساهم في تلك الصورة أيضا، ما قيل عنه من الشعر وهو كثير. « وتابعت الدكتورة العالية متسائلة : هل كتب شعر المعتمد التاريخ؟ أم أضاءه؟ وهل بث الحياة في مفاصل تجربة المعتمد، وفتح نوافذ الذات والنفس، يلغي الجوانب الأخرى من حياة ملك أضاع هو ورفاقه، الأندلس بانغماسهم في اللهو وتشتتهم وانفراط عقدهم؟ مبرزة في الآن نفسه أن شعر المعتمد ـ أخفى الكثير من الحقائق عن طبيعة حياته في الأسر ومدينة أغمات…وتفاصيل أخرى كثيرة توسع فيها عبد الله كنون وعباس الجراري وغيرهم من المفكرين والمؤرخين المغاربة لتخلص في النهاية إلى المساهمة الأكيدة للشعر في إضاءة جوانب ذاتية وخاصة من تجربة المعتمد ،وهو ما لم يتوفر لغيره من ملوك الطوائف ويوسف بن تاشفين لأسباب سالف ذكرها.»
الناقد والشاعر إبراهيم الحيسن في مقاربته « الشعر الشعبي الحساني، توثيق الذاكرة وسجل التاريخ» قدم مداخلة قيمة للتعريف بالشعر الحساني ومكانته وجذوره وتطوره وسلطتة الرمزية في المجتمع.سلطة لا يزال يحتفظ بها داخل المجتمع الصحراوي. وتحضر هنا الرغبة الأكيدة لبعض أساتذة جامعة فاس في إدخال الشعر الحساني لتدريسه في شعبة اللغة العربية وآدابها كجزء ومكون أساسي من مكونات الأدب العربي .
إبراهيم الحيسن سلط الأضواء بما يكفي حول اللون الشعري الحساني المسمى «تهيدين» الذي تناول بطولات وأمجاد الأمراء ورافق المقاتلين إلى ساحة الوغى .وكان خير مساند للمحاربين يزرع فيهم الزهو والحماسة والإقدام .وكان الشعر الموسيقي والموسيقى الشعرية قريبين من المعارك بل في قلبها لا يقلان شأنا عن أزيز الرصاص وصوت المدافع والقنابل . وفي مجال هذا النوع من الفن الشعري الحساني التهدين،ذكر الحيسن بمجموعة من الأحداث التي وقعت، وأرخ لها مجموعة من الشعراء، وأدرج منها قصة معروفة جدا في الوسط الثقافي الصحراوي لدرجة أن مطلع القصيدة رددها وتناولها مجموعة من الموسيقين المعروفين .
وتجنب الدكتور الحسين الدخول في التفاصيل وجذور هذا النوع من الفن من حيث المشتقات اللغوية والدلالات ، وعرج مباشرة إلى واقعة أو حكاية باعتبارها سياقا تاريخيا تندرج فيه حرب بينية عرفتها إمارة أولاد مبارك في منطقة الحوض في موريتانيا . فالحكاية تبرز من جانب إبداعي وجمالي ولع الصحراويين بالموسيقى لا سيما تلك المسماة «إكاون «الذين يحظون بمكانة رفيعة عند الأهالي في الصحراء . بحيث لا يردون طلبا لهؤلاء المغنين. حتى أن أحد الأمراء المشاركين في المعركة أصيب في يده ،ولم يستطع الأطباء الشعبيون علاجه وتعفنت يده، وأرادوا قطعها حفاظا على سلامته لكنه رفض. فتركوا هذا الأمر لأحد المغنيين الذي جاء بفرقته، وأنشد يمدح هذا الأمير في قصيدة طويلة مشهورة . ولما سأل الأمير ماذا يريد أن يعطيه مقابل مدحه الفني في قصيدة مطولة، أجاب الشاعر أريد يدك المريضة . هنا قدم الأمير يده للبتر بطريقة بدائية دون مخدر وناولها للشاعر الذي أخذها ودفنها بعيدا .
كما أبرز الحيسن أهمية الشعر والشاعر في حل بعض القضايا السياسية والاجتماعية ومكانته داخل المجتمع الصحراوي ودوره في القبيلة نظرا لسلطته الإبداعية ومكانته داخل المجتمع.


الكاتب : إعداد وتقديم : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 17/03/2023