في ندوة لبيت الشعر في المغرب حول «العلاقة بين الشعر والتاريخ»

ما يأسره المؤرخ، يحرره الشاعر

 

برحاب جامعة سيدي محمد بن عبد الله العتيدة، وفي ضيافة كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس، التأمت نخبة من الباحثين والأكاديميين والشعراء والنقاد من أجل ملامسة العلاقة بين الشعر والتاريخ، في أفق استغوار تفاصيلها، والكشف عن خلفياتها، واستقراء تشعباتها ورهاناتها الثقافية والشعرية. فعلى مدى يومي 1 و2 مارس 2023 ، توزعت محاور الدورة على ثلاث جلسات علمية فضلا عن لحظة تكريم ووفاء ،وقراءات شعرية لثلة من الشعراء المغاربة. جلسات دسمة في غناها، جادة وعميقة في تصوراتها، قاربت في مجملها إشكالية الشعر والتاريخ من زوايا مختلفة نظرية وتطبيقية . «التاريخ والخيال :علاقة المؤرخ بالشعر» . «الشعر والتاريخ :قضايا نظرية ونقدية»، «الشعر والتاريخ :مقاربات نصية». قضايا قاربهاالأساتذة: ذة. العالية ماء العينين، لطيفة بلخير، عبد الله لغواسلي، جمال أماش ،إبراهيم الحيسن، محمد علوط، محمد بودويك ، محمد الشرقاني الحسني –أحمد لويزي، محمد الكنوني، نبيل منصر، أحمد هاشم الريسوني، محمد آيت لعميم، عبد الفتاح شهيد، عادل عبد اللطيف، سمير بوزويتة، مراد القادري محمد عراقي حسيني، محمد يعيش، خالد بلقاسم . ونظرا لوفرة المداخلات وعمقها البحثي وجديتها المعرفية ارتأينا تقديمها فعالية الندوة على جزأين :

 

 

اعتبر د. مراد القادري رئيس بيت الشعر في المغرب، ندوة «الشعر والتاريخ» بتعدد تيماتها،ممارسة فكرية وثقافية عريضة انطلقت منذ بداية تأسيس بيت الشعر 1996، وأضاف في كلمة افتتاحية برحاب الكلية «المرء عندما يكون في فاس العامرة، فهو في حضرة الشعر والتاريخ. لذلك ارتأى بيت الشعر أن يقترح دعوة نخبة مميزة من الأكاديميين والنقاد من فاس وخارجها للمشاركة والإثراء» . وأعرب القادري عن بالغ سعادته بانعقاد هذه الدورة الأكاديمية بمدينة فاس ،موجها في الآن ذاته أسمى عبارات التقدير لكل الداعمين والمنظمين والشركاء،جامعة سيدي محمد بن عبد الله ، وكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس ،ومجلس مدينة فاس ، وكل الذين استجابوا وقبلوا بأريحية وكرم ونبل كبير المشاركة فيها.
انطلقت الندوة العلمية في جلستها الافتتاحية الأولى التي سير فقراتها الدكتور شكري العراقي حسني بكلمة لبيت الشعر في المغرب ألقاها الدكتور مراد القادري ذكر فيها بالمسؤولية والالتزامات، ونوه بالجهود المبذولة ودعم الشركاء، حيث شكلت الدورة الأكاديمية فضاء حقيقيا لاختبار تحليلات وفرضيات جديدة، من شأنها أن تكسب الشعر المغربي المزيد من الآليات ليفهم مغامرته التي ارتضاها ليبني جماليته وفرادته»، وقال موضحا في هذا الصدد «إن إحداث بيت الشعر كفضاء أكاديمي لا يقتصر وجوده على كونه مكانا لبعث النقد والحوار الفكري والانشغال النظري بالشعر المغربي فحسب، وإنما للحديث بمختلف اتجاهاته ولغاته في انفتاح على التقاطعات التي يقيمها مع كافة المعارف والفنون،وعلى مدى زمني مغربي وعربي وكوني ممتد»شهد وما زال تحولات متسارعة وعميقة أثرت في الاختيارات الفنية والجمالية واللغوية لمنجزنا الشعري».
القادري ذكر بدورات أكاديمية لبيت الشعر في المغرب بفاس أيام رئاسة الجمعية من طرف العميد الدكتور عبد الرحمان طنكول ،الذي جعل من الدورة الأكاديمية لحظة للمعرفة ومنصات للتفكير والحوار والتفاعل بين المشتغلين بالمعرفة الشعرية والنقدية الرصينة «، مؤكدا في السياق ذاتهأن جزءا منها يعود إلى هذه المدينة التي حرصت عبر أجيال الشعر بالمغرب على مد هذا الأخير، بما يساعده على مواصلة رحلته وتطوير مسعاه» وذلك ما قام به عدد من شعراء هذه المدينة العريقة « محمد السرغيني شفاه الله ،محمد بنيس، محمد بنطلحة،رشيد المومني،عبد السلام الموساوي،محمد بودويك.
في كلمة عميقة ودالة أوضح الدكتور سمير بوزويتة، عميد كلية الآدب والعلوم الإنسانية سايس فاس سياق وأهداف الندوة، مبرزا فضل بيت الشعر في المغرب في اعتماد اليونيسكو يوم 21 مارس يوما عالميا للشعر،مثمنا اللقاء الذي يستمد رونقه وبهاءه من الجمع بين الإبداع الشعري والبحث العلمي، أي علاقة التاريخ بالشعر، والشعر بالتاريخ «، وهي قضية يقول العميد بوزويتة قلما تطرق إليها النقد رغم أهميتها، مبرزا أهمية الديوان الذي لولاه ما كان للعرب أن يخلدوا صفحات تاريخية تليدة. وأضاف في هذا الصدد أن العودة إلى الشعر لا تقتصر على جعلنا نتمكن من اكتشاف الإنسان العربي بمختلف أبعاده الإثنية والإثنوغرافية والأنتروبولوجية والتخييلية فحسب، وإنما تجعلنا نلمس الواقع غير مختزل في عدد من الأحداث والوقائع ،فيما يكتنفه من رمزية ودلالات تنقلنا إلى مقامات تمنح للفعل التاريخي قوة وإثراء ليس بإمكان اللغة الجافة للمؤرخ أن ترقى إليها. لاسيما عندما تواجهه أسئلة جد معقدة مثل « كيف بإمكان المؤرخ أن يجعل الفضاء الإنساني فضاء للبحث عن أثر المشاعر والعواطف، وكيف يستطيع أن يؤرخ لها؟ .وأضاف موضحا»حتى وإن كان المؤرخ لا يقصي من انشغالاته أية مادة، فإنه يجد أحيانا في الشعر ما يشفي غليله، معتبرا أن توجه المؤرخ إلى متون الشعر قد يفتح له آفاقا جديدة للكتابة التاريخية، تهتم بالمنسي والمكبوت واللامادي ،فبقدر ما تقدمنا كثيرا في دراسة الوقائع والأحداث والسير والمعارك والحروب والملاحم والفتوحات وأنماط العيش والحضارة، يقول بوزويتة ،بقدر ما نكتشف اليوم أن هناك أمكنة للتاريخ علينا زيارتها . واختتم كلمته مؤكدا على أن أهمية هذه الندوة تكمن في التحفيز على بناء علاقة جديدة بين الشعر والتاريخ . فالشاعر وإن غرق في التجريد، ليس بإمكانه أن ينفلت من واقع التاريخ، داعيا المؤرخين إلى التسلح بحسهم العميق ليقبضوا على ما ينطوي عليه ذلك التجريد من علامات دالة».
وفي حفل تكريم باذخ بمناسبة اليوم العالمي للشعر،حظي به الشاعر والناقد الدكتور محمد بودويك ، الذي تسلم درع التكريم من يد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس بفاس ،وكذلك هدية عبارة عن بورتريه من قبل بيت الشعر بالمغرب احتفاء بعطاءاته الإبداعية والشعرية، ألقى الشاعر محمد بودويك كلمة مؤثرة بالمناسبة.
مداخلة الشاعر والباحث في التاريخ جمال أماش: «شعرية التاريخ؛ أمكنة المعرفة وحدود الخيال» خلال الجلسة العلمية الأولى التي سير فقراتها الدكتور شكري العراقي حسني، ركزت على أن الموضوع يطرح استشكالا معرفيا يقارب علاقة الشعر بالتاريخ، من زاوية التحدي المتبادل اليوم بين المحايثة والاستحالة بين حقلين مختلفين ومتعارضين حسب القراءات التقليدية في التاريخ، وفي النقد الأدبي الذي يهتم فقط بتاريخ الأدب، وهو إشكال يرصد جدة هذه العلاقة الملتبسة إبستيمولوجيا ومنهجيا من حيث أمكنة المعرفة التي تهتم بها شعرية التاريخ، استنادا إلى مرجعية جديدة في التاريخ،وإلى اشتغال فكري وفلسفي في النظر في قضايا الحدث التاريخي أو الشعري،واللغة،والزمن،والسرد،وشعرية الراهن. كما يلامس هذا الموضوع حدود الخيال بين الشعر والتاريخ، وخاصة في انفتاح الخيال على التاريخ كوافد جديد على قارة التاريخ المحصنة بالصرامة المنهجية والعقلانية استنادا إلى مختلف المناهج التاريخية، سواء منها الوضعانية أو الحوليات أو غيرها..
وبرأي جمال فإن هذا الموضوع/المحاولة يدخل من إشكال عام يرتبط بأسئلة الأدب والحقيقة، وأسئلة الكتابة التاريخية والشعرية أيضا، على اعتبار أنها أسئلة شبه مُغيّبة في النقاش الشعري والتاريخي في مغرب اليوم،باستثناء الاهتمام الكبير الذي يوليه الأستاذ عبدالاحد السبتي في مختلف كتاباته،وانهجاسه بسؤال العلاقة بين التاريخ والأدب. وهو ما يشكل روح فكرته واطروحته في مختلف الأبحاث والدراسات العلمية التي أصدرها ويقدمها في الدرس التاريخي، أو في مختلف مشاركاته العلمية. وهو ما حاول طرحه في تقديمه لكتاب المؤرخ الفرنسي «باتريك بوشرون»، الذي ترجمه الشاعر جلال الحكماوي» ما يستطيعه التاريخ»،إذ يشير السبتي إلى الوعي بالتمفصل الذي يحصل بين التاريخ والأدب والفلسفة. وهو نفس الإشكال الذي تطرحه الفيلسوفة الألمانية»حنا ارندت» انطلاقا من سؤال جوهري في تفكير الشعر،من خلال دور الخيال في تغذية التاريخ،وانطلاقا من استنادها إلى علاقة الفلسفة بالشعر،باعتبارها قريبة جدا من الفكر، بطرحها لأسئلة الألم، الزمن،الموت،الطبيعة،الذاكرة . كما تعتبر الشعر عامة ،مادة للتفكير، وفعلا إبداعيا، ومشروعا جماليا وأخلاقيا وبوصلة للحياة.
وفي هذا السياق تساءل أماش: «هل يمكن أن نفكر في التاريخ شعريا،وأن نبحث فيه عن أماكن لأسئلة المؤرخ والشاعر،باعتبار الحدث التاريخي حدثا شعريا بامتياز، بخلق الدهشة والمتعة التفكير في الأنا والآخر، في السياسة ،وفي حياة الشعراء والمؤرخين والمفكرين والإنسان بشكل عام،باللغة وغيرها،بالذاكرة وبالنسيان ؟ وكيف شكلت مجموعة من النصوص الشعرية الكبيرة حدثا تاريخيا،يتزاوج ويتحاور فيه التاريخ والشعر،ويسعى إلى كشف واكتشاف حقيقة الحاضر في الماضي؟ هل يمكن اعتبار هذا التزاوج بين الإبداع الأدبي والتاريخ، حسب «جابلونكه» كما ورد في كتابه»التاريخ أدب معاصر» انخراطا في منظور» ما بعد الحداثة» ،على النحو الذي نلمسه في كتابات «بول فيين» و»ميشيل دو سيرتو « و»هايدن وايت «،كما يعبر عن رغبة أكيدة في تحديث العلوم الاجتماعية عموما وليس التاريخ فقط؟.
في ذات السياق جاءت ورقة الرّوائي والمترجم أحمد الويزي في هذه الندوة، لتدرس هذه العلاقة من منطلق رواية ميلان كونديرا المعنونة: «الحياة في مكان آخر». و يرى ذ لويزي في مداخلته المعنونة ب» انتحار الشاعر على مذبح التاريخ « أنّ علاقة الشّعر بالتّاريخ لم تستأثر باهتمام الفلاسفة والمؤرّخين وحسب، ولا خُصّتْ بها عنايةُ الشّعراء ونقّادِ الشّعر لا غير، وإنّما حفِل بها أيضا أدباءُ ومفكّرون كثيرون، لا ينتمون بالضّرورة الى دائرة القول الشّعري ولا الى مجال التّاريخ وفلسفته «. ولفت لويزي مداخلته بالتّأكيد على أنّ كونديرا قد اهتمّ كثيرا بالشّعر، إبداعا وترجمة. إذ عُرف عنه أنّه نقل نصوصا عديدة من الرّوسية والألمانيّة والفرنسيّة، كما أصدر تباعا أيضا ثلاثة دواوين شعريّة، علاوة على كونه خصّ شعر أبّولينير بدراسة نقدية عميقة. لكنّه، انفصل خلال الستّينيات من القرن الماضي عن هذه المرحلة، وحاول أن يجعل منها موضوعا روائيّا لروايته: «الحياة في مكان آخر». وتحكي هذه الرّواية على شاكلة نصٍّ سيريّ، حياة ضائعة ratée لشاعر واعد كان من المفترض في الحظّ والنّضج معا، أن يسعفاه بنصيب وافر من العيش المميّز. لكنّ قبضة الأمّ المستحكمة وإغواء المشاركة في صنع التّاريخ، بالانخراط في ثورة 1948، سرعان ما عجّلا بموته مرّتين. وبذلك، انتهى الشاعر بموت تراجيديّ مضاعف، دون أن يتسنّى له تحقيق ما ظلّ يصبو إليه: إذ مات مرّة كشاعر حقيقيّ، بالتّنازل عن شعره النّاضج لأجل الدّعاية للثّورة وتمجيد ثوارها؛ مثلما مات نهائيّا قبل إكمال عقده الثّاني، لأنّه أدّى ثمن تحدّيه لأحد منتقدي مساره، فتعرّض بفعل هذا لنزلة برد قاتلة.
لكنّ الرّواية مثلما أشار الباحث، لا تقّف عند مسار هذا الشّاعر المتخيّل في علاقته بالتّحول التّاريخي المحلّي وحسب، وإنّما تتجاوزه بالرّبط بين سيرة ياروميل وشعراء وثوار حقيقيّين آخرين، يشتركون معه في الانتماء الى مرحلة العمر الغنائيّ المشبعة بالاندفاع الحماسيّ والنّرجسية. ذلك أنّ كونديرا أحال فعلا في نصّه على نتف من سيرة ثلاثين شاعرا، كما أشار الى وقائع تاريخيّة متداخلة وقع أغلبها بين القرن 19 والعشرين، للتّأكيد على أنّ الرّابط بين الكلّ هو الموقف الغنائيّ الملازم للنّرجسية عديمة النّضج. لتنتهي الرّواية وبكيفية مرآويّة لعوب، بالسّخرية من هذه «البراءة الغنائيّة المدانة» سخرية قاسيّة. ومن ثمّ، طرد الشّعر والشّعراء الغنائيّن من المدينة، بعد أن طردهم أفلاطون سابقا من الجمهورية. وقد انتهى الدّارس بالتّساؤل: هل ينمّ هذا الموقف الكونديري، الذي يدين الشّعر الغنائيّ إدانة صريحة ونهائيّة، عن توجّه أفلاطونيّ جديد دثّره الرّوائي بلبوس السّخرية وحكمة الرّواية؟
من جهته، اعتبر ذ. عادل عبد اللطيف من جامعة القاضي عياض مراكش في مداخلته المعنونة ب»حجاجية التاريخ في الشعر» أن الشعر وفضلا عن طابعه الجمالي وبعده الإمتاعي، فإنه ذو حمولة إقناعيةويكتسي حجاجيته من أغراضه وموضوعاته ومن القضايا النفسية والوجودية والاجتماعية التي يعبر عنها،ومن تداخل العديد من الخطابات فيه،ومن أدواره في المجتمعات،ومن طبيعة لغته المؤثرة على المشاعر والمواقف.ويحقق الشعر حجاجيته اعتمادا على جملة من الأسناد والوسائل والآليات الإقناعية،ضمنها سند التاريخ. وأضاف المتدخل أن التاريخ يحضر في الشعر،ليس خاما أو وثيقة أو أرشيفا،بل عبر جملة من أشكال التحوير والتعديل والتوجيه…فيها الانتقاء والتصرف،والاستمداد القيمي،وتوظيف المثل التاريخية،وفيها استعمال الحكاية أو الترميز أو التملك السيري أو الترهين…وذلك حسب المقاصد الإقناعية التي يتوخاها الشاعر.ويمكن تبين حجاجية التاريخ في الشعر من خلال قراءة في تجربة محمود درويش.فهذه التجربة الغنية التي ارتبطت بالقضية الفلسطينية استحضرت التاريخ الوطني والقومي والإنساني ،ووصلته بالحاضر وباستشراف المستقبل.لقد وعت هذه التجربة بشكل حاد أهمية وحساسية التاريخ،بوصفه بؤرة تجاذب وصراع مع الآخر،فاعتمدته وسيلة فنية للتوجيه الحجاجي نحو مواقف وطنية،حتى أصبح التاريخ في قصائد درويش مقوما من مقومات النضالية والالتزام.
أما الشاعر نبيل منصر فقد انطلق في مداخلته المعنونةبـ»الشعر وتجربة الزمان» من فرضية جوهرية، تقول إن مقولة التاريخ تخلقت أساسا من الشعر الملحمي. واتخذ الباحث من ملحمة « الأوديسة» لهوميروس، مرتكزا لتمحيص الفرضية وصوغ منطقها الاستدلالي، عبر تأويل الفعل العوليسي بوصفه حدثا شرع في الرؤية إلى ذاته في ضوء الصوغ الملحمي، من خلال شخصية الشاعر المغني ديمودوكوس الذي تغنى أمامه، في حفل الوليمة، بمغامرات أبطال معركة طروادة. فعل غنائي وسردي جعل عوليس ينظر إلى ماضيه الشخصي وكأنه آخر. هذا الاستحضار للماضي من خلال صوت الشاعر المغني، ومن خلال الصوت الملحمي لهوميروس، هو ما جعلنا نتبنى افتراض حنة أرندت، الذي يقول بولادة مقولة التاريخ، على الأقل بمعناه الشعري، انطلاقا من الرحم الملحمي.بهذا المعنى، يكون الشاعر هو أول من بنى الماضي وجعله يتكلم. أسس التاريخ وهو يبني الفن، كما وظفت المقاربة مفهوم: «الذاكرة الحية»، بوصفها علامات حية موصولة بأزمنة متعددة، تستجيب لآفاق انتظار الحاضر وأشواقه. هذه الذاكرة هي ما يستعيره الشعر من التاريخ، منظورا إليه أساسا في ضوء تجربة الزمان التي تكونه وتسكنه. وعبر تجربة الزمان هاته، ينجز الشاعر وعد الشعر وليس وعد التاريخ، ذلك أن ما يندغم في نسيج الشعر، في النهاية، هو الهدوء الرفيع، وليس ما أثار الصخب في تجربة تاريخية معينة. إن تجربة الزمان، تشع في الشعر كمعنى للمخيلة، ولذلك فهي أداة بناء وتفجير للمتخيل، وليست مكانا لسردية الاعتبار وانغلاق الحكمة.
ذ. محمد أيت لعميم عنون مداخلته ب» ملعبة الكفيف الزرهوني: حين يعانق الشعر التاريخ التراجيدي»، مشيرا الى أن سؤال الشعر والتاريخ طرح منذ القديم، وقد ميز أرسطو في فن الشعر بين التاريخ والشعر الملحمي، معتبرا أن التاريخ هو حكاية أمر مضى، في حين أن الشعر هو تشوف لما يمكن أن يحدث، معتبرا الشعر أرقى من التاريخ ، لأنه يهتم بالكلي في حين يهتم التاريخ بالجزئي، وبذلك انتصر أرسطو للشعر ضد معلمه الذي طرد الشعراء من المدينة الفاضلة، لكن واقع الحال أن الشعر والتاريخ كانا متلازمين في الأزمنة البدئية فإذا ما نظرنا إلى الأسطورة نجد أنها كانت تحتوي على التاريخ وعلى بذور من حقيقة تاريخية تملأ الأسطورة بياض الأحداث بالخيال، ومن هذه النقطة نجد أن الرابط بين الشعر والتاريخ هو الخيال. في البدء، تسلل التاريخ للشعر،وتسرب الشعر للتاريخ، فهناك حاجة حينما يستجلب القول الشعري الحدث التاريخي، وأيضا حين يتقمص المؤرخ لغة الشعر، في سياق هذه العلاقة الملتبسة بين التاريخ الذي هو بدوره عرف تحولات من نسق تقليدي يرتبط بالسياسي وبالرسمي، وبسير العظماء، الى نسق آخر يهدف الى التأريخ من أسفل، والإنصات الى الانسان العادي والحياة اليومية والثقافة الشعبية، هذه التحولات فرضت على الشعر أن يحدد مواقع للتعامل معها، في هذا الاطار اشتغلت على نص نادر، للكفيف الزرهوني، كتب باللغة الدارجة في الزمن المريني، هو ملعبته، التي أشار اليها ابن خلدون في المقدمة وكان يحفظ جزءا كبيرا منها، تحدث فيها الكفيف عن النكبة الكبرى التي لحقت بالسلطان أبي الحسن المريني، حين هزم في تونس من قبل الأعراب، وقد فصل الكفيف في هذه التراجيديا، ووقف على أسباب الهزيمة التي تشكلت في الخيانة والغدر، والممانعة في تحقيق وحدة بلاد المغرب الكبير آنذاك، نكبة حقيقية وتراجيديا مؤلمة انتهت بهزيمة جيش كبير تاه أغلبه في الصحراء،ومن نجا وتمكن من ركوب سفن الأسطول، سيبتلعه البحر. وسيكون السلطان من الناجين، لكنها نجاة ستسلمه للموت طريدا في جبل درن قرب مراكش، حقيقة هذه المأساة أنقذها الشاعر الضرير، عبر نص ملحمي فيه الكثير من الابداع، وفيه شبه مع الإلياذة والاوديسة لهوميروس، كلا الشاعرين كفيف، لا نعرف حياتهما، فقد أغفلتهم كتب التراجم.
د. محمد كنوني أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس أكد في مداخلة تحت عنوان «إنما يكتب الشاعر تاريخه» أن علاقة الشعر بالتاريخ علاقة قديمة قدم الشعر وقدم التاريخ أيضا، فكما شكل الشعر وثيقة أفادت المؤرخ، مثل التاريخ ذاكرة ألهمت الشاعر. وأشار الى ما أسماه ارتفاع منسوب الوعي بالتاريخ عند الشاعر المعاصر في شعرنا العربي الحديث، منذ النصف الثاني من القرن الماضي إلى الآن، مستدلا بقول « علي عشري زايد – «أن التاريخ ليس مجرد ظواهر كونية أو أحداث عابرة، تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي، وإنما دلالة التاريخ شمولية، وتظل قابلة للتجدد باستمرار في صيغ أخرى، وبتأويلات جديدة». وأرجع محمد الكنوني النزوع إلى استخدام التاريخ في الشعر العربي الحديث، بدافع هدفين أساسين ومتلازمين:الأول الحاضر، والتعبير عن الواقع بصور من الماضي.أما الهدف الثاني، فهو هدف أسلوبي، يتصل بالأسلوب باعتباره صوتا وموقفا من الوجود والعالم، سعيا من الشاعر إلى إضفاء طابع درامي على تجربته الشعرية، في محاولة منه للتخفيف من حدة النبرة .»
ويزيد الدكتور الكنوني موضحا «التاريخ بأحداثه وشخصياته ومظاهره قادر على تعميق وعي الشاعر بحاضره وزمنه، كما أنه قادرعلى تدوين ذاكرة الإنسان، فينقل لنا أحداثا وبطولات، وأن يسجل هزائم وانتصارات ومؤامرات. في ضوء التاريخ، تستطيع كذلك أن نضيئ: الكثير من مظاهر الفكر و الإبداع الإنسانيين، فنقرأ الحركة الرومانسية في نهاية القرن الثامن عشر بفرنسا تحديدا على أنها رد فعل ضد التحول الاجتماعي الناتج عن الثورة الفرنسية، كما نستطيع أن نربط الدادائية بأجواء الحرب العالمية الأولى، وتعتبر السوريالية من مظاهر مخلفاتها، كما نقرأ قصيدة الأرض الخراب صورة للدمار النفسي الذي لحق الإنسان بعد الحرب، وبنفس القدر نربط حركة الشعر الحر في العالم العربي بالنكبة الفلسطينية. « لكن الدكتور الكنوني يعود ليتساءل في ما إذا كان بإمكان التاريخ أن يصور لنا دمعة على خد أم ثکلی، أوينقل لنا إحساسها بعد أن فجعت بفقد ابنها في حرب سيق إليها كرها، وهو لا يعلم مصيرها؟. كيف سيكون حكمنا على المعتمد بن عباد لو اكتفينا بما قرره المؤرخ، ولم يصلنا ما بثه من بوح آسيان وهو في الأغلال؟ لكن، هل يقدر على أن ينقل لنا تلك القيم الإنسانية التي جعلت من ملحمة هوميروس نصا خالدا إلى الآن ؟ وهل يستطيع التعبير عن صدق المشاعر وزيفها، وعن الخيانة والإخلاص بالقدر الذي نجده في مسرحية الملك لير لشكسبير.؟ليخلص في مداخلته إلى أن منطق الشعر ليس هو منطق التاريخ، فما يأسره المؤرخ يحرره الشاعر.
هكذا هو منطق الشاعر مخالف لمنطق المؤرخ، مهما تشابهت الأحداث والوقائع. إن التاريخ في الشعر «تاريخ رمزي، ليس هدفه أن يخبرك عن الواقعة في مكانها و زمانها، وإنما يكفيه أن ينقل معناها والعبرة منها. وللخیال في نظر بول ریکور دور کبير في سد الثغرات التي أغفلتها الذاكرة التاريخية ، فبالخيال يحرر الشعر ما كان مكبوتا في التاريخ، و بالخیال يعيد بناء صور الماضي بشكل جديد».

(يتبع)


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 10/03/2023